سمعت ملكة فرنسا ماري أنطوانيت عام 1789 عن مظاهرات شعبية سببها جوع الشعب الذي كان يتمنى خبزا فلا يجده، فقالت عبارتها الشهيرة «إذا لم يكن هناك خبز للفقراء دعوهم يأكلوا البسكويت»، هذه العبارة قادت سيدة فرنسا الأولى إلى المقصلة، وهي آلة استخدمت في الأصل للإعدام في فرنسا، وتتكون من شفرة حديدية حادة تسقط من أعلى فتهوي على رقبة من يراد إعدامه، وكانت النهاية التي لا تليق بملكة، واليوم يبدو أن الرئيس إيمانويل ماكرون يتعامل مع مطالب المتظاهرين من أصحاب السترات الصفراء بشكل مشابه عندما قال «فليشتروا السيارات الموفرة للوقود».
في 17 نوفمبر الماضي نزلت مجموعة من أصحاب السيارات والحافلات التي تستخدم مشتقات البترول كوقود للاحتجاج على فرض زيادة ضريبة بلغت 7 سنتات لكل لتر ديزل ونصفها للتر البنزين، وارتدى بعضهم سترات صفراء، لأن القانون الفرنسي يلزم أي سيارة تتعطل أن ينزل منها قائدها بعد أن يوقفها جانبا ويرتدي هذه السترة، حتى يجذب أنظار السائقين الآخرين لحاجته للمساعدة.
انضمت إليهم مجموعات غير متجانسة تختلف أعمارهم ووظائفهم والمناطق الجغرافية التي ينتمون إليها، كما ضمت عاطلين عن العمل ومتقاعدين من أصحاب المعاشات المنخفضة أو عمالا رواتبهم متدنية، والمفاجأة أن ناشطين سياسيين ينتمون إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار انضموا إلى الاحتجاجات، فرأينا السيدة مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة والسيد جان لوك ميلينشون الزعيم اليساري الراديكالي يعلنان دعمهما للمحتجين، ولكل منهما منطق مختلف، شيئا فشيئا بدأت الاحتجاجات تتصاعد، فشملت من يستخدم سيارته الخاصة في الذهاب إلى عمله، خاصة ممن هم خارج باريس، وانضم إليهم سائقو سيارات الإسعاف، ثم الطلاب ثم بعض رجال الشرطة وفئات أخرى من المجتمع، هذه التنوعات الكبيرة نتج عنها عدم وجود قائد واحد للحركة فكان طبيعيا وجود ثمانية متحدثين للتعبير عن مطالبهم.
أمس وما قبله اشتعلت الشانزيليزيه الجادة الأجمل في العالم بالأصفر، وتحول الوجه الشامخ لدى الفرنسيين (قوس النصر) إلى لوحة قاتمة، ووجد في العنف بعض مرتدي السترات الصفراء الوسيلة الأفضل للحصول على نتائج سريعة، فكان همه الحرق والتكسير، في مشهد ينافي كل أبجديات الحضارة التي كانت تدعيها فرنسا والمجتمع الأوروبي، ولكن الفقر هنا يعبر عن نفسه، وحين يحتج الفقراء لا ينتظر منهم أن يكونوا جميعا غاية في التهذيب والانضباط، بل لن تستطيع التنبؤ بحدود ما قد يوصلهم إليه الفقر، ومما زاد الأمر سوءا أن رجال الأمن الفرنسيين لم يكونوا أكثر تهذيبا، فاستخدموا العنف المفرط والضرب والماء البارد، ولم يتمكنوا من تفريق المتظاهرين ولا إطفاء غضبهم على بعد مئات الأمتار من قصر الإيليزيه.
هذا جعل كرسي الرئيس الفرنسي يهتز بعد عام ونصف العام من تسلمه مقاليد حكم فرنسا، وفرض إعلان ظهوره اليوم في خطاب للشعب الفرنسي، فرنسا التي لم تعرف في تاريخها رئيسا فقد شعبيته بهذه السرعة، وعلى الرغم من أنه قادم من قطاع البنوك والمصارف إلا أن معارضيه يتهمونه بخدمة هذا القطاع على حساب الشعب الذي وصلت فيه نسب البطالة إلى حدود غير معقولة تقترب من 25%.
علاج هذه الاحتجاجات لن يأتي باتهام قوى خارجية بأنها كانت السبب في حدوثها، ولا بحشد أكثر من 80 ألف رجل أمن لمنعها، ولا بزيادة غضب ذوي السترات الصفراء بتصريحات قد تنقلها إلى مراحل خطيرة لن تجدي معها فرض حالة الطوارئ، بل بتقديم برنامج إصلاح شامل للاقتصاد الفرنسي، وإلغاء فوري للرسوم الضريبية المبالغ فيها التي أوصلت فرنسا إلى ثاني أعلى دولة بالعالم في فرض الضرائب.