“قدم الأستاذ أنيس النقاش ورقته هذه في جلسة حوارية تحمل العنوان نفسه، ضمن فعالية رواق دمشق، التي يقيمها دورياً مركز دمشق للأبحاث والدراسات، وستُنشر نقاشات ومداخلات هذه الجلسة في وقتٍ لاحق”.
تعرَّضت المنطقةُ العربيّةُ بعامّة، والمشرق العربيّ بخاصّة، لهجمات وخضّات وتفاعلات سلبيّة أدت إلى مزيد من الإضعاف والتقهقر لكافة مفاهيم الأمن القومي، وبناء الدولة والوحدة الاجتماعية في كلِّ بلدٍ. حيث ضُرب مفهوم الأمن القومي الذي عملت عليه منظومة التضامن العربي لعقود، كما ضُرب مفهوم ومقومات بناء الدولة العصرية بسببٍ من الإغارة عليها؛ ذلك بزعزعة الأمن في بلدان عدّة ونشر العنف فيها، إضافةً إلى تخلخلِ مفهوم الوحدة الاجتماعية لمكونات عدّة شعوب في المنطقة، إذ ظهرت على نحوٍ حادٍّ تناقضات الهويات الفرعية، ما يفرض مقاربة استراتيجية تفاعلية متشابكة الأهداف والأضلع؛ للإجابة عن جميع هذه التحديات.
لقد ظهرت عدّة توجهات سياسية فكرية تدّعي امتلاكها لوجهات نظر أو لبرامج متكاملة، لإيجاد حلول لهذه التحديات. منها ما ركز على أسباب الضعف الداخلي لكل دولة، بسبب غياب الحريات أو الديمقراطية، أو بسبب ضعف القوانين والدساتير، ومنها ما ركز على الهجمة الخارجية كمسبب للتفكّك والضعف والتقسيم والتفتيت، بحسبان أنّه بمجرّد إسقاط مؤامرة الخارج، فإنَّ الأمور ستستتب، وتعود إلى مجراها الطبيعي.
حقيقة الأمر أنَّ الهجومَ الخارجيَّ أدى إلى تدمير البنى الفوقية للدولة، إما بالاحتلال المباشر، كما حصل في العراق، أو بضرب بنيان الدولة عبر الإرهاب العابر للقارات، بالتعاون مع إرهاب الداخل. هكذا تجلت الهويات الفرعية وظهرت كردة فعل من الخوف، أو من الطموح بإشغال حيز الفراغ الحاصل نتيجة انهيار البنى الفوقية للدولة.
هذا، وبالنظر إلى الإقليم بكليته، نجد أن التحديات التي تواجه كل بلد على حِدَتِهِ، شبيهة بما يواجهه الجار أو الدولة الأقرب في الإقليم. كما أن أعداء الخارج هم أنفسهم الذين يسعون إلى تطويع المنطقة لصالح الغرب الاستعماريّ ومنظومةِ النهب الدوليّ، ولصالح الكيان الصهيوني في المنطقة.
كما أنَّ النظر إلى تفاعلات الهُويّات الفرعيّة، وتصارع المشاريع المحليّة الدينيّة أو المذهبيّة، يؤكد أن الأمراض والتفاعلات متشابهة إلى حدٍّ كبير بين الأقطار المختلفة.
إنَّ الجغرافيا السياسيّة الناجمة عن نتائج الحرب العالميّة الأولى، ما زالت مصطنعة بنظر الرافضين لتقسيمات اتفاقية سايكس بيكو، أو الرافضين لاتفاقيات فرساي ولوزان، ما يؤدي إلى ظهور مشاريع تحاول أن تعمل على تغيير هذه الخرائط، إما بتوحيد الأقطار، وإما بالعكس، بتفتيت وإعادة رسم خريطة المنطقة.
إنَّ المعضلةَ التي تواجه الإقليم، وأدت أيضاً إلى اختلال التوازن فيه، هي إحساس بعض القوى الإقليمية، بأن فراغاً استراتيجياً قد بدأ يتكوّن نتيجة ضعف السيطرة الغربية. وأنّ أوان ملءِ هذا الفراغ قد حان، ولذلك هي تتصارع على إعادة تشكيل الإقليم وتوازناته. هذا الدور للقوى الإقليمية المتأتي عن الشعور بعدم توازن القُوى، هو الذي أدى إلى تصادم القوى الإقليمية، واستقطاب بعضها لصالح مشاريع القُوى الدولية، ظناً منها أنها بذلك تستطيع الحلول مكان القُوى الدوليّة ولعب دور القوى الإقليمية المهيمنة.
أمام كل هذه التحديات الداخلية والخارجية، والضعف البنيوي الحضاري والسياسي والقانوني، في بعض الأحيان، أصبح لزاماً علينا إيجاد استراتيجية متكاملة تجيب على كل هذه التحديات، بالشكل الأفضل والأمثل، لإعادة الوحدة الاجتماعية داخل كل قطر، ولإعادة التوازن بين القوى الإقليمية، ولردع القوى الخارجية عن استمرارها بالتلاعب بأمن الإقليم وبمصيره، والأهم، التصدي للمشاريع الصهيونية التي تسعى للوصول إلى حالة من السيطرة الكلية على الإقليم بإضعافه وتفكيكه.
من هنا كان التوجُّه لمشروعٍ ذي بُعْدٍ إقليميٍّ أولاً، لمواجهة التحديات الإقليمية، استناداً إلى استراتيجية موحّدة.
كما أنَّ التصدي للأمراض الاجتماعية المتشابهة في الإقليم، يجب أن يكون باستراتيجية إقليمية، لأن نظرية الأثر والتأثير ثبتت أنها تتفاعل في الإقليم، متجاوزة للحدود، متفاعلة مع المحيط، إذ إنَّ كلَّ أزمة في دولةٍ ما تولد شبيهتها في الدول المجاورة، وكل تناقض ينفجر في الإقليم، يؤثر في دوله على نحوٍ جماعيٍّ؛ بسبب تشابه النسيج الاجتماعي، الدينيّ والمذهبيّ والقوميّ والعرقيّ، الذي يتشكل منه الإقليم.
يمكن أن تتم مسألةُ البناء الداخليّ، قانونيّاً وسياسيّاً، عن طريق الدّفع بالتطور الذاتيّ لكل قطر على حِدَتِهِ، ولكن يمكن أن يحصّن ويتجانس ويتعاون بالعدوى، عندما تكون هناك إعادةُ بناء على المستوى الإقليميّ، بحيث نحوّل استراتيجية “الفوضى الخلاقة” السلبيّة المدمرة التي اعتمدت على قانون التفاعل السلبيّ عبر الحدود، ليصبح تفاعلاً إيجابيّاً عابراً للحدود ومُحصّناً بقوة الدفع والحماية الإقليمية؛ ذلك حينما نوجد الأطر الإقليمية المساعدة على تحقيق هذه الغايات.
من هنا كانت فكرة مجلس السلم والتعاون الإقليمي، لجمع طاقات الأحزاب ومراكز الدراسات والمفكرين والإعلاميين، الذين يلتقون على فكرة التفاعل والتعاون الإقليمي، بحيث يعملون معاً من أجل الأهداف الآتية:
1.دعم حركة التحرّر الوطنيّ في المنطقة، للتخلّص من هيمنة الاستعمار القديم والحديث والهيمنة الصهيونية، ودعم القضية الفلسطينية، بالدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه.
2.التأكيد على ضرورة حماية ودعم اختيار الشعوب في انتخاب ممثليها، لكي يكون الحكم منبثقاً عن الإرادة الشعبية، ومدعوماً بالإرادة الحرة لهذه الشعوب، في السلطات التنفيذية والتشريعية. وكذلك دعم الحريات العامة من حرية تعبير وتأطير وتنظيم، ضمن القوانين التي تحفظ وحدة البلاد ووحدة مكونات الشعوب في كل بلد وحماية السلم الأهلي.
3.العمل على التكامل الإقليمي، إيماناً منّا بأن مواجهة المهمات السابقة، لا يمكن أن تتم بالشكل الأفضل والأمثل إلا بالتعاون الإقليمي. كما أن تحصين مكاسب المهمات السابقة لا يمكن أن يتم ويتطور، إلا بهذا التعاون الإقليمي.
4.العمل على تطوير أطر التعاون الإقليميّ الاستراتيجيّ الأمنيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، إيماناً منّا بأنَّ المنطقة لا يمكن أن تحافظ على استقلالها ولا على تطورها ولا تقدّمها، إلا بهذا التعاون الذي يحميها من الاستقطاب الخارجيّ، ومن تقسيم قواها ويضعفها، كما يحصن عمليات النمو الاقتصاديّ والاجتماعيّ بهذا التعاون الإقليميّ الذي يستفيدُ من الموارد البشرية والاقتصادية والأمنية.
إنَّ العمل على مستوى الأحزاب والجمعيات ومراكز الدراسات والمفكرين والإعلاميين، لا يلغي العمل على مستوى الدول والحكومات، وهو الشرط الأساس الذي يتوّجُ عملَ المجتمع المدنيّ، ولكن هذا العمل على المستوى الأدنى من الحكومات، يسهّل ويمهد الطريق، ويدعم الخيارات على المستوى الحكومي للسير بهذا الاتجاه. كما يشكل رأياً عاماً ضاغطاً وحامياً لهذا التوجه ولهذه البرامج التكاملية، التي تعود بالمنفعة على كلّ شعوب وبلدان المنطقة.
إنَّ العمل بهذه الاستراتيجية التكاملية التفاعلية، هو المخرج الأنجع والأكثر فعالية الذي يمكن أن يُخرِج الإقليم من محنته، ويساعد كل دولة على إعادة بناء نفسها، ليس بطريقة انعزالية وهمية ومنفصلة عن المحيط الإقليمي، الذي ثبت حجم تأثيره السلبي أو الإيجابي في كلِّ قطر، بل بشكل تكاملي يحصّن بعضه بعضاً، ويكمل بعضه بعضاً، لكي يواجه تحديات دولية هي أكبر من أن تواجه على صعيد كل قطر على حدته.
إنَّ عملية البناء المشتركة المتعاونة، تساعد بانتقال الخبرات، والتكامل والتفاعل. كما أنها تحصن عملية البناء ضد التدخلات الإقليمية التي ستكون مشاركة بشكل إيجابيّ، وليست متفردة باتخاذ قراراتها منفردة، ظناً منها أنّ هذا يخدم مصالحها، أو يخدم مصلحة الإقليم.
كما أنَّ العمل الإقليميّ المشترك، سيساعد دول الإقليم على مواجهة التحديات الدولية التي تشهد عملية بناء المنظومات الإقليمية المشابهة أو المنظومات الدولية، التي يكون تأثيرها الاقتصادي والسياسي والأمني أكثر فاعلية تجاه دول الإقليم المشتتة، والتي عاشت لمئات السنين تحت نظم إمبراطورية، جاءت عملية تفتيتها لصالح أعداء شعوب دول الإقليم مجتمعة وليس لصالحها.
خطة العمل:
تبدأ خطة العمل بوضع وكتابة مانيفستو، يُعدّ بياناً لخط سير ومبادئ يلتزم بها جميع من يؤيد فكرة التعاون الإقليمي، من أجل حلِّ المعضلات ومواجهة التحديات سابقة الذكر. وينبغي العمل على تحديد كافة الجهات القادرة على المشاركة في هذا النشاط والتفاعل مع توجّهاته، وعلى هذا الأساس تتم دعوة:
-الأحزاب والجمعيات غير الحكومية العاملة في الحقل العام؛
-جميع الإعلاميين والمفكرين المؤيدين لمثل هذا التوجّه؛
-مراكز الدراسات العاملة في حقل الأمن الإقليمي والتنمية البشرية والسياسة التنموية؛
-غرف التجارة والصناعة للاطلاع على هذه التوجهات، التي تخدم في المقام الأول عملية تنمية العلاقات البينية والتبادل التجاري، وفتح مجالات الاستثمار بين دول الإقليم.
في هذا المؤتمر، يتم التوقيع على المانيفستو من قبل الأحزاب والجمعيات، ويتم توقيع إعلان بيان وميثاق أخلاقيّ إعلاميّ للإعلاميين، يلتزمون ويدعمون فيه روحية هذا التوجّه.
كما يتم التوافق بين مراكز الدراسات لكي تعمل على تقديم الدراسات المطلوبة لنجاح هذا التوجه، عن طريق تقسيم المهمات، والتكامل بين الأبحاث، وتبادل الخبرات.
إضافة إلى التوجّه نحو القيام بالحملات الإعلامية والتوجيهية، وكتابة ونشر الكراسات المتعلقة بالتكامل الإقليمي، ودعم السلم الأهلي والتعاون الاقتصادي.
مع انتهاء المؤتمر، يتم التوافق على أن يُعقد المؤتمر مرّةً كل سنة، مع حضور شخصيات سياسية وأمنية واقتصادية، لكي يكون لها دور المشاركة في النقاش، وتوضيح المواقف الرسمية وغير الرسمية، وإغناء تطور أهداف الاستراتيجية. (على غرار منتدى دافوس السنوي).
هذه فرصة لإعادة بناء الإقليم على أفضل نحو وبطريقة حرّة اختيارية، لا جبر فيها ولا هيمنة، بل نابعة من التعاون المشترك، وبغرض المنفعة للجميع.
مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات