2024-11-27 02:37 م

السعودية.... الى اين؟

2018-10-12
بقلم جورج عبيد
تفرض حادثة "اغتيال" الصحافي السعوديّ المعارض جمال الخاشقجي نفسها في لحظاتها القاتمة على لحظات أخرى مبعثرة ومتراكمة، كما تفرض على المتابع نمطًا جديدًا من القراءة مستدلاًّ عليها من أرض الحدث، مختلفة بالطرائق والمعايير عن ما كان سائدًا من قبل. تسوغ في هذا السياق المقاربات والمقارنات مع اغتيالات كانت تحدث لشخصيات عديدة وتبقى مجهولة الفاعل أو الفاعلين، ومجهولة المتآمرين والداعمين والممولين، وتساق الاتهامات فيها بخلفيات سياسيّة تتناسب ومصالح مطلقيها، أو تزوّر الوقائع أحيانًا كثيرة، وفقًا للاصطفافات المطلوبة، وقد يكون المجهول معلومًا ربطًا بالأفعال والأعمال والمواقف السياسيّة للضحيّة المعدّة للموت، في حين أن "اغتيال" جمال الخاشقجي داحل القنصليّة السعوديّة في اسطنبول بدلائلها ومعانيها وأهدافها مكشوف ومفضوح للغاية، ولسنا أمام وقائع تجهّل الفاعل، إلى أن يثبت العكس.
الشيء المذهل في قضيّة جمال الخاشقجي، أنّ الفاعل مكشوف، ويمارس القتل على المكشوف بحال ثبت أنّ جمالاً قد مات وأذيب جثمانه في القنصليّة السعوديّة. يتساءل المراقبون عن سرّ الغياب في موقع يفترض وبحسب المنطق أن يكون بعيدًا عن الشبهات. ذلك أنّ المواقع الدبلوماسية تعنى بمجموعة مسلّمات تختصّ برعاياها وتوظيف مصالحهم في الدولة المضيفة وفقًا للقوانين المرعية الإجراء، ولا ينظر إليها، هكذا نفترض ويفترض كثيرون، بأنها مقبرة لأيّ مواطن من مواطنيها. 
يستوقف المراقب سؤال موضوعيّ منتمٍ إلى هذا السياق، وهو مستنبط من الوقائع المنشورة هنا وثمّة حول جمال الخاشقجي. لقد دخل جمال القنصليّة السعوديّة ولم يخرج بعد وخطيبته انتظرته ثلاث ساعات في الخارج ولم تعد تراه فما هو التبرير بعدم خروجه؟ فما معنى أنّه لم يخرج وماذا حصل له في الداخل؟
ليس من أجوبة محدّدة قاطعة، فالتحقيق سائر ومستمرّ ولم يعد محصورًا بالسعودية وتركيا، بل بالبيت الأبيض وقد دعا الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب خطيبة جمال لزيارته والإدلاء بما عندها لإجراء المقتضى بحسب المنظور الأميركيّ. وتظهر الوقائع، بأنّ الرئيس الأميركيّ قد بدأ ينحو باتجاهات معاكسة للاتفاق الأميركيّ-السعوديّ، بسبب ما ظهر من سلوكيات نافرة وفجّة عند وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، ولسبب آخر لا يقل شأنًا عن السبب السالف وهو أن ترامب يتعامل مع وليّ العهد والمملكة بازدراء مطلق وتعال مفرط مستهلكًا مالها ومنتهكًا حضورها ومتملّكًا دورها ومتمكّنًا من حشرها ومتمنّعًا من التجاوب معها، ضمن الحدود الحافظة لمصالحه والدليل على ذلك ما أعلنه في إحدى جولاته الانتخابيّة، "إذا كانوا يريدوننا أن نساعدهم فما عليهم سوى أن يدفعوا لنا ثمن المساعدة، وليعرفوا وبكلّ وضوح، بأنّه من دوننا لكانت إيران اجتاحت السعوديّة والخليج وأبادتها عن بكرة أبيها". 
تشي الأحداث بخطاباتها وتداعياتها، بالأفعال المرافقة لها وردات الفعل عليها بالرؤى المتولّدة من جوفها بأنماط لم تكن من قبل سائدة وهي الآن سائبة وسائدة، وقد سيبانها إلى تثبيت أنظوم الفوضى الخلاّقة من جديد المبعثرة لسلّم الأولويات والقيم الذي حتّم التوازن الموضوعيّ في العلاقات والقراءات في التخاطب بين الأمم وقادتها، وبين القادة فيما بينهم أو بين القادة والرأي العام ممثّلاً بالشريحة النخبويّة كما حصل مع جمال الخاشقجي. عنوانان في هذا الخضم سادا الساحة العربيّة لم يكونا مألوفين ومتواجدين، وهما "ثقافة الجزيّة" وقد أظهرها واستنبطها دونالد ترامب في علاقته مع السعوديّة بمنسوب مرتفع من الصفاقة والاحتقار لم يوجد له مثيل، وثقافة القتل المتعمّد أمام الناس بلا هوادة وقد أبانها بوحشيّة مفرطة "وعلى المكشوف" ولي العهد السعوديّ محمد بن سلمان. 
وفي الحقيقة، يزيّن لنا بأن ليس من بون بين الثقافتين، فالأوّل فاجر وقاهر، والثاني فاتك مغامر. الأوّل يتصرّف بلا حدود، والثاني يحاول التحصّن بحدود وهمية وواهية. الأوّل يتصرّف وكأنّ الخليج والعالم ملعب له والثاني يطلب الرضى منه ويرجوه أن يساهم معه بإبادة أعدائه، الأوّل يطلب مالاً بكميّات متورّمة ومتوحشة والثاني يدفع بلا أسئلة وأجوبة شريطة أن يلبّي الأول النداء. لقد تماهت الأحقاد بالمخاوف، ويقول سيغموند فرويد بأنّ الخوف المتفشّي في اللاوعي البشريّ ينشئ العداوات والصدامات ويقود نحو الإبادة والقتل. قضيّة ترامب وبن سلمان بان ترامب يقلب الطاولة بجنون ذكيّ انعكس على الداخل الأميركيّ نموًّا ماليًا عاليًا نسبة إلى العهود السالفة، بسبب استحلابه الخليج، اما جنون الثاني فعبثيّ فوضويّ لا حدود له، لدرجة أنّه أنقضّ على شعب فقير قتلاً وتشريدًا كالشعب اليمنيّ ومن دون أن يتمكّن منه، أرسل التكفيريين إلى سوريا ومولّهم وحرّكهم إلى أن اصابه الفشل الذريع والشلل الكبير، فقرّر الانقضاض على الرئيس بشار الأسد حتى سقط في التجربة المرّة وبقي الأسد، دخل بحالة عداء مع دولة قطر، ولم يصل بعد إلى نتيجة معها، ومؤخّرًا تكهرب الجوّ بينه وبين أمير الكويت المعروف برصانته وفهمه ليجد نفسه وحيدًا لا أحد يأبه بجنونه. كما أنه في حالة توتّر دائم مع تركيا مسرح الجريمة جريمة الخاشقجي.
انقضّ في الداخل السعوديّ، على من ينتسبون إليه باللحم والدم. وضعهم تحت الإقامة الجبريّة وأخذ أموالهم، ووصل به الفجور للاعتداء على رئيس حكومة لبنان سعد الحريري وسوقه إلى الإقامة الجبريّة، وربما كاد أن يلاقي المصير عينه لجمال الخاشقجي، الذي لولا هبوب الرياح العونيّة العاصفة مع موقف فخامة الرئيس الوطنيّ الرائع والتقائه برؤية الرئيس إيمانويل ماكرون بمساهماته الفعالة في تلك القضيّة وهدوئيّة حسن نصرالله أمين عام حزب الله، لكنّا أمام سابقة خطيرة على المكشوف. الأمير محمد بن سلمان يمارس لعبة بل ثقافة القهر والقتل على المكشوف. وقد بلغ به الأمر وبهذه الصورة الفاقعة أن يعتدي على صحافيّ معارض له هو مواطن سعوديّ يمتلك القدرات المالية، داخل قنصليّة السعوديّة في تركيا سواء بالقتل عمدًا أو الخطف عمدًا في السابق كانت الاغتيالات بمعظمها سواء عن طريق الطعن والمسدس وصولاً إلى العبوات المتفجرة تتمّ وتوًّا يتم اتهام جهات وهميّة لتجهيل الفاعل، كما حدث في لبنان في معظم الاغتيالات التي طالت قادة كبارًا. أمّا الآن ومنذ سنة بدأنا نشهد تطورًا في تلك الثقافة، وقد ترجمت بتصرّف جنونيّ عبثيّ بخطفه كاتبًا معارضًا داخل قنصليّته وقتله بدلاً من أن محاورته ومقارعة رؤيته بالرؤية والحجة بالحجة. كيف لمحمد بن سلمان أن يتهم حزب الله والرئيس السوريّ بشار الأسد ومن يتحالف معهما بالإرهابيين والمجرمين فيما يمارس الإرهاب على رؤوس الأشهاد بطرائق وحشيّة لا حدود لها، منذ مقتل الشيخ نمر باقر النمر في القطيف إلى جمال الخاشقجي في تركيا.
كلّ تلك العلامات تقود ومن دون التباس إلى أن السعودية متجهة إلى المزيد من التدحرج وفقدان الأوراق بل إلى نهاية حتميّة. ذلك أن العلاقة بين الولايات الأميركية المتحدة والسعودية بلغت حدودها القصوى من السوء والتدهور تشير خطابات ترامب إلى ذلك. ويظنّ كثيرون بأن محاولات بن سلمان الإغوائيّة والإغرائيّة لن تنفع البتّ بعد الآن من بعد تصفية جمال الخاشقجي في تركيا، وإذا ما قبل ترامب بالتسوية مع بن سلمان فسيكون المشهد مؤلمًا على كلّ المستويات الأخلاقيّة والإنسانيّة ليستدل منه بأن ترامب يشرّع الاغتيال المباشر بهذه الطرائق الفظيعة والمخيفة. من هنا إنّ إمكانية تعويم المملكة باتت شبه مستحيلة هذا إذا لم تكن معدومة. ومن هنا أيضًا، فإن النتائج المنطلقة من هذه الوقائع ستفضي إلى:
1-استحالة المضيّ في صفقة القرن. فالإسرائيليّ لم يعد بحاجة إليها من بعدما اشترى هو والأميركيّ بالمال السعوديّ فلسطين بقدسها وقام بتهويدها باعتراف اميركيّ ليس له مثيل. بمعنى أن أميركا وإسرائيل لم يعودا بحاجة إلى السعوديّة. فلنتذكر قولة غاي بيشتر في صحيفة إيديعوت أحرونت في سنة 2015، "لقد انتهى عصر النفط العربيّ وبدأ عصر الفكر الإسرائيليّ".
2-إستحالة استمرار السعوديّة في اللعب داخل ساحات المشرق العربيّ. ففي العراق وسوريا فشلت بسبب انتصار التسوية في العراق تحديدًا بتقاطع المصالح ما بين أميركا وإيران، لينتصر من جديد الخطّ الإيرانيّ، وفي سوريا ستنطلق التسوية من النتائج الميدانيّة وتتماهى بقوّة مع بقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة. وفي الأردن سقطت رهانات المملكة على إسقاط العرش الهاشميّ في وحول صفقة القرن، وتتطلّع في لبنان على استبقاء حضورها راسخًا من خلال حلفائها، وتحاول اللعب على الأرض بقضيّة تأليف الحكومة وفرض رؤيتها كاملة فيما تواجه بالرفض واللبنانيون مجمعون على حكومة منتجة ومتفاعلة الأطراف وغير متصادمة ومنقسمة على نفسها. فالخصوصيّة اللبنانيّة فريدة، وسيتمّ التعبّر عن فرادتها ومنعتها بهذا التعاون العالي المستوى والمنتظر بين رئيس الجمهوريّة ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري.
إن اغتيال جمال الخاشقجي في قمّته أظهر تلك الحقائق بالوقائع، وسيقود إلى نهاية مملكة الرعب والموت من بعدما كانت مملكة المحبة والكرم والخير.