"بالاتفاق مع شركائنا؛ قواتنا الجوية ستتصدى لأيّ اعتداء من طائرات القذافي على سكان بن غازي. طائرات فرنسيّة أخرى مستعدّة للتدخل ضد الدبّابات التي تهدّد المدنيين السلميين. *الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي"، هذه الكلمات التي يُمكن اعتبارها بمثابة «إعلان حرب» ترجع للرئيس الفرنسيّ السابق نيكولا ساركوزي بتاريخ 19 مارس (آذار) سنة 2011؛ بعد شهر واحد من اندلاع مظاهرات في مدينة بن غازي التي تقع في شرق البلاد، في نفس السنة التي شهدت اندلاع عدّة احتجاجات في الكثير من البلدان العربيّة، اصطُلح عليها بالربيع العربيّ. لكن ما سرّ حماسة الرئيس الفرنسيّ الشديد للتدخّل العسكريّ في ليبيا؟ خصوصًا إذا علمنا أنّ حكومته لم تكن بنفس الحماسة تجاه الانتفاضة في تونس، فإحدى أعضاء حكومته، ممثّلة في وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة كانت قبل ذلك بأسابيع قليلة قد عرضت على نظام بن علي، أثناء المواجهات بين أجهزة الأمن والمتظاهرين السلميّين في تونس، مساعدة الحكومة بـ«الخبرة الفرنسيّة» للنظام التونسيّ من أجل قمع هذه المظاهرات. فلماذا أصرّ ساركوزي على شنّ الحرب ضدّ نظام القذّافي؟
كل شيء بدأ بين ساركوزي والقذّافي أثناء اجتماع جرى في ليبيا سنة 2005، داخل خيمة القذّافي الشهيرة في باب العزيزية، حيث حكم العقيد معمّر القذافي ليبيا لـ40 سنة. في تلك الأثناء كان ساركوزي وزيرًا للدّاخليّة، ورغم أنّه لم يصرّح للإعلام بنيّته في الترشّح للرئاسة التي سيفوز بها بعدها بسنتين؛ إلاّ أنّ ساركوزي معروف بنشاطه وحركاته الاستعراضيّة التي لا تتوقف على الساحة السياسيّة، فقد كان ساركوزي بطلًا لإحدى حوادث الاختطافات التي وقعت سنة 1993 في إحدى الحضانات أثناء رئاسته لإحدى البلديّات الفرنسيّة، إذ اقتحم ساركوزي الصفّ الدراسي الُمحاصر من قبل أحد المختطفين وقام بإنقاذ طفل، أمام أضواء الكاميرات ووسائل الإعلام. هذا الرجل السياسيّ ذو الطموح اللاّ محدود، وفي سنة 2005، بدأ في التحضير للترشّح للمنصب الأعظم في فرنسا، لكن شيئًا واحدًا ينقص في المعادلة التي ستنتج رئيسًا مستقبليًّا: المال.
في السادس من أكتوبر (تشرين الثاني) سنة 2005، الذي وافق شهر رمضان، حطّت طائرة وزير الخارجيّة الفرنسيّ – آنذاك – نيكولا ساركوزي في العاصمة الليبيّة طرابلس، ليستقبله في خيمته الشهيرة العقيد معمّر القذّافي. يذكر مفتاح ميسوري، مترجم القذّافي الشخصي تفاصيل اللقاء بين الرجلين، ويقول إنّ الحوار بينهما في البداية كان رسميًّا، ثم طلبا اللقاء على انفراد بعيدًا عن وسائل الإعلام، والمثير للاهتمام، أن اللقاء كان بدون مترجمين أيضًا.
تحدّث ساركوزي والقذّافي على انفراد بالإنجليزية التي كان العقيد يتقن أساسيّاتها، وبعد أن انتهى اللّقاء المنفرد، تم استدعاء المترجم الشخصيّ للقذافي من أجل تفريغ الحوار الذي جرى بين الرجلين على هيئة كتابة؛ إذ إنّ كل الحوارات التي تجري في خيمة القذّافي كان يتم تسجيلها وحفظها في أقراص مرنة.
يقول مترجم القذّافي أنّ ساركوزي في هذا اللقاء المنفرد أخبر القذافي بأنّه ينوي الترشّح للانتخابات الرئاسيّة، وهي المعلومة التي لم يصرّح بها لوسائل الإعلام بعد في ذلك الوقت، وطلب منه دعمًا ماديًّا لحملته، وقد وافق القذّافي على ذلك. لكن القذّافي لم يكن ليدعم ساركوزي بالأموال بدون مقابل، فقد كانت له عدّة مطالب مقابل هذا الدّعم، كان أبرزها قضيّة عبدالله السنوسي.
عبدالله سنوسي كان رئيس الأجهزة الأمنية الليبية وأحد أكثر المقرّبين من القذافي على المستوى الوظيفي وحتى العائلي، وقد كان متورّطًا في قضيّة تحطّم الطائرة التابعة لشركة (UTA) الفرنسيّة سنة 1989 في صحراء النيجر، والتي راح ضحيّتها 170 شخصًا كانوا على متنها، من بينهم 54 فرنسيًّا، وقد حكم القضاء الفرنسيّ على السنوسي غيابيًّا بالسجن مدى الحياة لتورّطه فيها. القذّافي من جانبه طالب ساركوزي بتخليص السنوسي من هذه القضيّة مقابل الدعم الماليّ، حسب المترجم ميسوري.
قضيّة السنوسي لم تكن المُقابل الوحيد لهذه الصفقة، فبعد فوز ساركوزي في الانتخابات الرئاسيّة سنة 2007، وبعد وصوله إلى قصر الإيليزيه بخمسة أشهر، حطّت طائرة كانت تحمل العقيد القذّافي إلى مطار شارل ديغول؛ الزعيم الليبيّ أخيرًا يتجوّل في شوارع باريس الجميلة، ويزور متحف اللوفر الشهير وقصر فيرساي والإيليزيه، بعد قطيعة دامت 30 سنة مع الغرب. تروي إحدى حارسات القذّافي لصحافيين كيف أنّها سألت القذّافي مندهشة من استقبال الفرنسيين المذهل للقذّافي وترحيبهم به، ليجيبها: «ساركوزي يردّ الجميل للشعب الليبي».
وقد أفادت التحقيقات الصحافيّة أنّ الأموال التي كان يرسلها القذافي لساركوزي جرى نقلها من ليبيا إلى فرنسا عبر شخصيّة وسيطة تُدعى زياد تقيّ الدين، رجل أعمال فرنسيّ من أصل لبناني، كان يسافر إلى ليبيا ليحصل على الأموال ثم يعود إلى فرنسا ويتّجه إلى مكتب ساركوزي في وزارة الداخليّة ليسلّم له تلك المبالغ، وقد صرّح للإعلام بهذه الوقائع، إلاّ أنّ ساركوزي أثناء سؤاله عن صحّتها قد أنكرها تمامًا، واستخدم حقيقة أنّ زياد تقيّ الدين كان قد دخل السجن سابقًا من أجل الطعن في شهادته.
القذّافي يلعب بآخر ورقة ضد ساركوزي.. والإعلام الفرنسي يتجاهل
لعل التحقيقات مع الرئيس الفرنسيّ السابق في قضيّة تلقّي حملته الانتخابيّة أموالًا من القذّافي قد بدأت مؤخّرًا فقط، بعد أن أوقفته الشرطة للتحقيق في مارس الماضي، لكن القذّافي كان قد فجّر هذه المعلومة قبلها بسنوات، بالتحديد في مارس 2011. آخر لقاء صحافيّ أجراه القذّافي مع الإعلام الأجنبيّ كان من نصيب الصحافيّة الفرنسية دلفين مينوي التي تعمل في جريدة «لوفيغارو»، والذي قال فيه القذّافي صراحة: «بعد نشر هذه المقابلة، ساركوزي سيسقط، خاصةً أنني من أوصله للرئاسة، نحن أعطيناه الأموال التي نجح بها».
لكن هذا التصريح الذي نشرته الصحافية في جريدة لوفيغارو، أثناء وجود ساركوزي في سدّة الحكم، لم ينل اهتمامًا إعلاميًّا كافيًا بعد نشره، إذ نشرته الصحيفة في ركن صغير، ونشرت معه تكذيبًا من الرئاسة الفرنسيّة، فمرّ دون أن يحدث أيّ ردود أفعال معتبرة على الصعيد السياسي أو القضائي.
حدى الشخصيات المحوريّة الليبيّة في هذه القضيّة كما كشفت التحقيقات الصحافيّة هي بشير صالح، رئيس مكتب القذّافي ومدير أحد الصناديق السياديّة الموجّهة لتنمية أفريقيا، المسمّى «محفظة ليبيا للاستثمارات الأفريقيةّ»، شخصيّة تملك علاقات متشعّبة في القارّة الأفريقية وفرنسا. كشف التحقيق عن وثيقة صادرة من مكتب بشير صالح كان قد نشرهاموقع «mediapart» وهو أحد أكبر المواقع الإخباريّة الفرنسيّة، تشير إلى الموافقة على دعم حملة المرشّح الفرنسيّ نيكولا ساركوزي بمبلغ قدره 50 مليون يورو.وقد غادر بشير صالح ليبيا أثناء اشتداد الحملة العسكريّة على نظام القذّافي في ديسمبر (كانون الأول) 2011، إذ قطع الحدود إلى تونس مباشرة نحو سفارة الدولة التي شنّت الحرب على النظام الذي يخدمه؛ السفارة الفرنسيّة في العاصمة تونس. بعدها بأيّام استقلّ طائرة خاصّة إلى باريس أين أقام هناك بعيدًا عن ضجيج الحرب القائمة في ليبيا ودمارها، لكن الإقامة في باريس لن تكون أبديّة وبدون منغّصات. فقد شهدت فرنسا في سنة 2012 انتخابات رئاسيّة، كان من الواضح أنّ حظوظ ساركوزي فيها منخفضة، وبالتالي فإنّ إقامة بشير صالح في فرنسا صارت غير آمنة كون الرجل الذي يوفّر له الحماية السياسيّة والملجأ الآمن قد شارف على مغادرة قصر الإيليزيه.
بعد خسمة أشهر من الإقامة في شوارع باريس الجميلة، حان وقت مغادرة بشير صالح، أحد الرجال الأساسيّين في إتمام الصفقة بين القذافي وساركوزي من فرنسا باتجاه جنوب أفريقيا، وقد نقلت الصحافة أخبارًا عن محاولة اغتيال تعرّض لها بشير صالح.
ستمرّت الحرب الأهليّة الليبيّة بين المعارضة المسلّحة المدعومة من قوّات الناتو الجويّة، وبين قوّات معمّر القذافي ما بين شهر فبراير (شباط) 2011 إلى غاية مقتل القذّافي على يد مقاتلين من المعارضة في 20 أكتوبر من ذات السنة وسقوط نظامه إثر ذلك، وقد قدّر عدد ضحايا الحرب والمختلفين بسببها بالآلاف.
قضيّة تلقّي ساركوزي أمولاً من قبل القذّافي من أجل حملته الانتخابيّة ومسارعة الرئيس الفرنسيّ السابق لشنّ الحرب على نظام القذّافي تفتح عدّة تساؤلات حول السبب الحقيقيّ وراء حملة الناتو ضدّ النظام الليبي سنة 2011؛ فبعيدًا عن خطابات الدفاع عن المتظاهرين السلميّين وحقوق الإنسان والديموقراطيّة، يتساءل مراقبون عمّا إذا كان التدخّل العسكريّ لحلف الناتو بقيادة فرنسا في ليبيا، مجرّد محاولة من قبل ساركوزي لمسح آثار جريمته التي يحقّق معه القضاء الفرنسيّ فيها، والتخلّص من جميع الشهود الذين من المحتمل إفشائهم لهذا السرّ الذي من شأنه إنهاء مسيرته السياسيّة، وربّما الزجّ به وراء القضبان.
(ساسة بوست)