سيناريو التطبيع السعودي- الإسرائيلي تصدّر واجهة السعودية الإعلامية بشكل لافت هذه الأيام، وذلك على صعيد إخراج العلاقات السريّة مع تل أبيب إلى العلن، ما شكّل "صدمة" في الشارعَين السعودي والعربي، فُهمت من قِبل المختصين، بأنها متطابقة مع "سياسة الصدمات" التي يتبعها النظام هذه الأيام.
فالسعودية التي لطالما وقفت مع الفلسطينيين في نضالهم ضد الاحتلال، تشهد اليوم مرحلة فاصلة، تُظهر اختلاطاً بالأوراق، فبعد أن كانت "إسرائيل" عدواً، أصبحت صديقاً مقرّباً ومن الجهات التي تتم محاورتها إعلامياً!
ويبدو أن الصحف والمواقع، اتّبعت سياسة "الصدمة"، التي أعلنها النظام؛ إذ وصف موجة الإصلاحات الجديدة في المملكة بأنها تشبه العلاج بالصدمة، لتحديث الحياة الثقافية والسياسية. ونشر الإعلام السعودي عدة تقارير تلمع صورة الاحتلال، وتُبدي تقارباً كبيراً في العلاقات، وأهدافاً مشتركة.
وكان آخر الخطوات التي أقدم عليها الإعلام السعودي، حوار مثير للجدل لصحيفة "سبق" السعودية المحلية واسعة الانتشار، مع حاخام يهودي نشرته الثلاثاء الماضي وأشاد بنشاط النظام، وفيه أيضاً دعوات للاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل.
وعي الشعوب
حسام شاكر المستشار الإعلامي علَّق على طريقة تعامل الإعلام السعودي مع التطبيع، قائلاً: إن "هناك خبرات عربية سبقت هذه الانزلاقات المؤسفة، راهن أصحابها أيضاً من قبلُ على تغيير وِجهة الشعوب العربية وتأسيس قناعات ساذجة، ترى الاحتلال صديقاً، ومقاومته خصماً، ولكن هل نجحت مثل هذه المحاولات في الماضي رغم قوة الضخ؟ ربما أحدثت إزاحات موضعية فقط، وآنية ربما، لكن بقي وعي الشعوب حاضراً وكان يتم استرجاع الذاكرة مع أول جولة قصف إسرائيلية أو عدوان على المقدسات".
ويضيف أن بعض المواد والمقابلات الصحفية والإعلامية العربية التي تنساق حالياً وراء دعاية الاحتلال، تراهن على ضعف وعي الجمهور، وتفترض أنه لا يحوز حساً نقدياً يستطيع من خلاله تمحيص المواد وفحص المزاعم. والتحدي ليس مع مادة واحدة تُنشر على هذه الصحف أو تلك المواقع، وإنما في النسق المتصاعد الذي يعتمد تكييف الوعي التدريجي حتى يُحدث شيئاً من التطبيع المعنوي مع الاحتلال.
وبيَّن حسام شاكر لـ"الخليج أونلاين" أنه "ليس لدينا ما يمنح الانطباع بأن المواد المنشورة تحظى بشعبية لدى الجمهور السعودي والخليجي والعربي؛ بل هناك نقمة واضحة عليها، وهي تفتقر إلى المصداقية والموثوقية، خاصة أنها تتنصل قِيَمياً ومبدئياً من التزامات جوهرية بالنسبة لأي شعب عربي أو خليجي نحو المقدسات والهوية والذات بالأحرى". كما أن "منحى الخطاب التطبيعي لا يتعلق بفلسطين فقط، ولكنه يتعلق أيضاً بافتعال حالة وعي زائف مارقة من المنطق ومتنصلة من الالتزامات التاريخية".
دعاية تستغفل السعوديين
وبالعودة إلى حوار صحيفة "سبق" السعودية مع الحاخام اليهودي، يلاحظ المتابع احتفاء الصحيفة بإشادة هذا الحاخام بالقيادة السعودية وأبرزته في المقابلة، وكان لافتاً للانتباه أيضاً إبراز دعوات الحاخام نفسه للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وفي مدحه للقيادة، قال الحاخام نبخاس غولدشميدت: إن "السعودية بلد يتغير إلى الأفضل من الداخل، ويتجه نحو الازدهار، وهذا شيء إيجابي".
واعتبر المستشار الإعلامي شاكر هذه التقارير بأنها "مثال لما تنشره دعاية الاحتلال من مضامين ساذجة وسطحية تستغفل ذكاء السعوديين والسعوديات والتزاماتهم المبدئية بالحقوق والقيم والأواصر التاريخية والحضارية مع القدس وفلسطين"، مبيناً أن هذه التقارير "تتصور أن بوسعها إعادة تقديم الاحتلال على طبق مذهّب".
وأوضح شاكر أن "الكثير منها يعيد إنتاج ما نُسج في دعاية تل أبيب، حيث يتم تدوير بعض المقولات والدفع بها في تغريدات داعمة لهذا الخط، وأحياناً تُدرج لدى كتّاب أعمدة يحظون بتقدير الناطقين باسم جيش الاحتلال".
وشدد على أن "بعض المواد الإعلامية التي أخذت تظهر في صحف ومواقع خليجية، لا يمكن أن تعبر عن عراقة بلدان المنطقة والتزام شعوبها وتاريخ حكامها تجاه القضية الفلسطينية وقضايا الأمة".
ورداً على سؤال بشأن ما إن كانت الصحف السعودية تحاول تصوير مناحٍ إيجابية حول التطبيع مع الاحتلال وكأنه واقع محتوم؛ علَّق شاكر على ذلك، قائلاً: "هذه التغطيات والمواد متحيزة إلى الاحتلال، وتستبعد النقد، فهي تغطيات ترتدي نظارة وردية وتفترض أنّ الجمهور لن يباشر تشغيل عقله أو استحضار وعيه أو استدعاء ضميره".
وأعرب شاكر عن ثقته بأنّ الساحة الصحفية السعودية "غير سعيدة بمثل هذه الانزلاقات التي تلطخ سمعة الصحف وتستدرجها إلى مقاربات ساذجة، منساقة نحو مربع الاحتلال وخنادقه وإن لم تشأ ذلك". وقال: "هذه الانزلاقات تسيء إلى تاريخ المنابر الصحفية والإعلامية إن لم تُفسِح المجال لنقاش حر يخالف هذا التوجه".
وتابع مستغرباً: "ما الذي ربحته جميع الشخصيات التي ظهرت حتى الآن على منابر الاحتلال؟ هم جميعاً وقعوا في حرج مع مجتمعهم العربي والسعودي، ويواجهون مأزقاً مع كتب التاريخ ونظرة الأجيال المقبلة إليهم. من المؤسف أن يستسهل بعضهم التضحية بتاريخهم والتنازل عن مبادئهم لمجرد الانزلاق إلى خندق كيان احتلال عنصري، يواجه مأزقاً مع ضمائر العالم حتى من أوساط المثقفين والفنانين اليهود"، حسب تأكيده.
انزلاقات إعلامية
وأكد المستشار الإعلامي أن هذه الانزلاقات الإعلامية لا يمكن أن تعبر عن روح السعودية وضميرها، ولا يمكن اختزال المملكة وإعلامها في هذه المواقف، التي تشكل تراجعاً جسيماً عن التزاماتها. وأضاف: "المقلق أكثر أن يتلازم هذا مع تراجعات ذات صلة، مثل تبخيس حقوق الشعب الفلسطيني في بعض الخطابات والحملات التصعيدية على الهوية والتاريخ والبعدين العربي والإسلامي".
ويُستشفُّ من "سياسة الصدمة" التي ينتهجها النظام السعودي أن وسائل الإعلام السعودية الرسمية والتي تدور في فلكها، تسير على النهج ذاته، من خلال نشرها خطاباً إيجابياً عن الاحتلال، ما يفتح العديد من الأبواب للتساؤل عن نهاية هذه العلاقات، والاستهتار بالقضية الفلسطينية وعدم إعطائها ثقلها القديم، وفي الوقت ذاته الزج بمن ينتقد التطبيع مع الاحتلال في السجون، كما حدث مع الناشطة السعودية نهى البلوي، التي أُطلق سراحها بعد نحو ثلاثة أسابيع من الاعتقال بتلك التهمة.
يأتي ذلك فيما تعقد حكومة الاحتلال آمالاً كبيرة وغير محدودة على علاقتها التي تتطور يومياً مع السعودية، وتدفع بكل ثقلها باتجاه أن يكون للرياض دور أساسي وتاريخي في فتح الباب أمام تطبيع علاقات دولة الاحتلال مع بقية الدول العربية من خلال أرض المملكة وبحرها وجوها.