2024-11-25 04:37 م

الموجة الثانية من الشعبوية

2018-02-18
زكي العايدي*

باريس- في أيلول (سبتمبر) الماضي، أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر، في خطابه السنوي "حالة الاتحاد الأوروبي"، أن الاتحاد الأوروبي بدأ ينتعش من جديد، وقال: إن "الرياح تعود إلى أشرعة أوروبا". ولكن، هل ستتمكن أشرعتها من دفع أوروبا إلى الأمام؟
من المؤكد أن اقتصاد أوروبا استعاد أخيراً النمو بعد عشر سنوات من الأزمة الاقتصادية العالمية -ونتيجة لذلك، أعاد بناء الثقة. ومن المرجح أن يعكس تفاؤل جونكر أيضاً فوز إيمانويل ماكرون المؤيد لأوروبا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في العام الماضي، حيث دافع السيد ماكرون عن الإصلاحات العميقة -بما في ذلك الاتحاد المصرفي، والاتحاد المالي، والميزانية الاتحادية لتعزيز التكامل.
مع ذلك، فإن الانتخابات الأخيرة في النمسا وألمانيا والجمهورية التشيكية تعكس مواقف مختلفة تماماً: العنصر الذي يهدد مستقبل أوروبا، الشعبوية اليمينية، ما يزال قائماً. وعلى الرغم من انتهاء الأزمة الاقتصادية، فإن جراحها ما تزال جديدة. وأضحت الأسر من الطبقة المتوسطة والعاملة تتعافى من انخفاض قوتها الشرائية، وتذكر بوضوح كيف قامت البنوك -المدعومة من قبل الدولة- بخفض عرضها الائتماني. بالنسبة للكثيرين، يبدو الدرس واضحاً: في أوروبا اليوم، يتم خصخصة المكاسب، ومشاركة الخسائر مع باقي المجتمع.
يقنع هذا التقييم الناس بأن النخب الاقتصادية والسياسية -مدعومة من الاتحاد الأوروبي- ستعمل دائماً على دعم موقفهم وفرض إرادتهم على عامة الناس. وبدلاً من دفع السياسات المعاكسة للتقلبات الدورية لاحتواء التباطؤ الاقتصادي في البلدان التي تعاني من المشاكل، يبدو أن الأخذ بتدابير التقشف يدعم هذا الانطباع.
ولتغيير هذا الانطباع، يحتاج قادة الاتحاد الأوروبي إلى تحديد الأسباب الأساسية للأزمة ووضع استراتيجية لمنع حدوث أزمة أخرى. وحتى الآن، لم يقوموا باتخاذ أي إجراءات تذكر، حيث اعتمدت مجموعتان رئيسيتان من البلدان تفسيرات متناقضة.
تضم المجموعة الأولى اليونان وإيطاليا، واٍلى حد ما فرنسا -التي تتهم الاتحاد الأوروبي بعدم التضامن. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن إيطاليا قبلت سياسة التقشف، لكنها لم تستفد من الانتعاش الاقتصادي القوي. وعلاوة على ذلك، تخشى البلاد قيام الاتحاد المصرفي بتخفيض مجاله للمناورة من أجل إصلاح نظامها المصرفي المنهار. ولأن فرنسا وألمانيا هما في صميم الاتحاد الأوروبي، فإن سمعة إيطاليا حتى داخل الاتحاد الأوروبي ليست جيدة. 
كل هذا يولد الاستياء، وخاصة بين أولئك الذين يشعرون بالإهمال أو الخيانة من قبل أوروبا. والنتيجة هي أن إيطاليا، التي كانت دعامة رئيسية للاندماج الأوروبي، أصبحت الآن البلد الأكثر اشتباها في مزيد من الاندماج.
أما المجموعة الثانية -والتي تشمل بلدان مثل النمسا وهولندا- فتشكو من أمور مختلفة تماما. ويعتقد كثيرون في هذه البلدان أنهم ضحايا "التضامن الأوروبي"، على الرغم من أنهم عملوا بجد لتحقيق الرخاء المحلي. ونظرا إلى ذلك، فهم يميلون إلى الاعتقاد بأن أوروبا يجب أن تركز على تعميق السوق الواحدة، بدلا من تعميق التحالفات المالية والسياسية. وفي هذا الصدد، فإن مقاومة مزيد من التكامل تعزز القوة الداعمة للأحزاب الشعبوية.
لكن الاقتصاد ليس العامل الوحيد الذي يؤجج النزعة الشعبوية. هناك ثلاثة عوامل أخرى تسهم في ذلك، وأهمها بلا شك الهجرة. منذ العام 2015، وبسبب العدد الهائل من المهاجرين الوافدين إلى أوروبا، استفادت القوات الشعبوية اليمينية استفادة كاملة من انعدام الأمن العام المنسوب للمهاجرين وهويتهم، وحرضت الإسلاموفوبيا والعنصرية على كسب الدعم.
وعلى الرغم من أن التقسيم الاقتصادي في أوروبا يقوم على الحدود بين الشمال والجنوب، فإن الانقسام في قضايا الهجرة يشمل الشرق والغرب. وقد أدى تاريخ التغيرات الحدودية في أوروبا الوسطى والشرقية وإساءة استخدام القوى الكبرى إلى رصد الحدود الثقافية في صميم هويتها السياسية. غير أنهم يرفضون اليوم المهاجرين، كما يرفضون الوفاء بالتزاماتهم كدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي ويمتنعون عن قبول حصص المفوضية الأوروبية للاجئين. وبالنسبة للبلدان التي تهيمن عليها المجموعة العرقية نفسها بأغلبية ساحقة، فإن الدخول القسري للمهاجرين، على الرغم من أن عضوية الاتحاد الأوروبي تعني فوائد اقتصادية كبيرة، تكفي لجعل عضوية الاتحاد الأوروبي غير جذابة.
وثمة مصدر آخر للضغط على الاتحاد الأوروبي -هو بمثابة تأجيج محتمل للشعبوية- وهو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي حين أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي سيفرض تكاليف هائلة على المملكة المتحدة، فإن أعضاء الاتحاد الأوروبي المحبطين قد يعتبرون الآن وقع الخروج أكثر خطورة، وبالتالي أداة فعالة محتملة لمقاطعة السيادة الوطنية باسم عملية الاندماج.
على الرغم من أن القوى الشعبوية قد تكون من أشد المدافعين عن هذه المقاومة، فإنها تتلقى دعماً من المحافظين الأوروبيين. وقد أدان الاتحاد الأوروبي الحكومة البولندية لانتهاجها سياسة القمع، لكنه يغض الطرف عن هنغاريا لأن الديمقراطيين الشبان التابعين لرئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان ينتمون، إلى حزب الشعب الأوروبي، ولذلك فإنهم يستفيدون من حماية الديمقراطيين المسيحيين الألمان.
العامل الأخير الذي يعزز على الشعبوية الأوروبية هو رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، الذي نادراً ما يخفي موقفه العدائي تجاه الاتحاد الأوروبي. وبطبيعة الحال، فإن النفور العام لترامب يمكن أن يصبح نوعاً من التضامن داخل الاتحاد الأوروبي، وإذا كان لحمائية ترامب أو غيرها من السياسات تأثير مباشر على عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن دول الاتحاد الأوروبي لن تتردد في اتخاذ تدابير مضادة.
في الوقت الراهن، يبدو أن الدول في أوروبا حريصة على التعامل بشكل فردي مع ترامب. والجدير بالذكر أن ماكرون يريد إقامة اتصال مباشر مع ترامب لتعزيز مكانة فرنسا داخل أوروبا أو على الساحة العالمية، (ويُنتظر إعادة توزيع الأوراق لاستيعاب تأثير المملكة المتحدة السابق). وترى دول أخرى أن ترامب مصدر محتمل للحماية. كما يعتبره بعض زعماء أوروبا الوسطى والشرقية مصدراً للشرعية لبلوغ أهدافهم الشعبوية.
نتيجة لذلك، فإن موجة الشعبوية في أوروبا لم تنته بعد. ومع ذلك، فمن غير الواضح مدى احتمال اجتياحها للاتحاد الأوروبي –حيث لن تختفي موجة الشعبوية الأوروبية مع استمرار المنطقة الرمادية بين الأحزاب الرئيسية والأحزاب الشعبوية في التوسع.

*أستاذ العلاقات الدولية في "سينسيز بو"، كان مستشاراً لرئيس الوزراء الفرنسي الأسبق مانويل فالز. أحدث كتاب له هو "عودة أوروبا".
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".