أحمد سامي
صباح الأربعاء الماضي 13 من ديسمبر/كانون الثاني، وبينما كان الملياردير الأردني/السعودي الشهير صبيح المصري يستقل سيارته على طريق مطار الرياض بعد نهاية رحلة عمل قصيرة بدأها المصري قبل ثلاثة أيام، تلقّى المصري اتصالا هاتفيًا من ممثل إحدى الجهات الأمنية السعودية يطلب منه ضرورة توقف سيارته ومرافقة سيارة الدورية الأمنية التي ستصله بعد دقائق.
في تلك الأثناء أجرى المصري اتصالين هاتفين، الأول بالإدارة العليا للبنك العربي الذي يترأسه ليبلغهم بإلغاء الاجتماع الذي كان مقررًا عقده لقادة البنك مساء الأربعاء في العاصمة الأردنية عمان، والآخر بأحد المقربين منه ليبلغه بما يحدث، لتنقطع الاتصالات بعد ذلك بالرجل وسط توالي الأنباء عن انضمام المصري لقاطني منتجع الريتز كارلتون الشهير بوسط الرياض حيث يحتجز الأمير محمد بن سلمان العديد من الأمراء ورجال الأعمال البارزين بالسعودية بدعوى محاربة الفساد.
الأمر الذي أثار ضجة واسعة النطاق بالأردن، فالمصري ليس رجل أعمال عاديًا، بل هو واحد من أهم رموز الدولة الأردنية الاقتصادية والسياسية ويترأس أهم مؤسسة مصرفية في الأردن وهي البنك العربي، وهو صديق مقرب من الملك عبدالله الثاني،الأمر الذي أدى إلى أن يتخذ اعتقال المصري طابعًا سياسيًا يحمل في طياته توترًا في العلاقات الأردنية السعودية.
اشتعلت الأوساط الصحفية والشعبية الأردنية على مواقع التواصل الاجتماعي التي صبّت جامّ غضبها على السعودية وأميرها الشاب وتهوره الذي قد يشعل النيران بين البلدين بإقدامه على مثل تلك الخطوة، معتبرين إياها محاولة لعقاب الأردن سياسيًا واقتصاديًا على إثر خلافات متعددة بين الملك عبد الله الثاني وتحالف بن سلمان–بن زايد، كان آخرها الموقف من قضية نقل السفارة الأمريكية للقدس قبيل اعتقال المصري بأيام.
غضب شعبي تعاطت معه المؤسسات الرسمية الأردنية التي قامت بالعديد من الاتصالات المكثفة والمحاولات للإفراج عن المصري، وهو ما تكلل بالنجاح بعد أربعة أيام، عصر الأحد الماضي، بحسب ما ذكرت وكالة رويترز للأنباء، ليتم تأكيد الخبر عبر اتصال هاتفي بين المصري وراديو دهب الأردني.
من هو صبيح المصري
صبيح المصري هو ملياردير أردني/فلسطيني شهير ينحدر من عائلة فلسطينية بارزة بمجال التجارة بنابلس، ولد عام 1937، ثم انتقل مع أسرته إلى الأردن بعد التهجير. تخرج في كلية الهندسة بتكساس في منتصف الستينيات ومن ثمّ انتقل إلى السعودية ليبدأ أعماله التجارية.
يعد المصري واحدًا من أكبر المستثمرين ورجال الأعمال العرب في مجالات البنوك والفنادق والاتصالات والزراعة، وتتركز أنشطته في الأردن وفلسطين والسعودية. يمتلك المصري عدة استثمارات مثل سوق فلسطين للأوراق المالية، وبنك القاهرة عمان، وشركة زارا للاستثمار. انتخب عام 2012 رئيسًا لمجلس إدارة البنك العربي، أحد أقدم المصارف العربية وأضخمها، ويقع مقره الرئيسي في عمان.
ساهمت استثماراته الكبيرة بالسعودية التي كان من أهمها تزويد الجيش السعودي بالمواد الغذائية إبان حرب تحرير الكويت، في منحه الجنسية السعودية. تُقدّر استثمارات المصري في السعودية بحوالي 10 مليارات دولار، وتكاد تنحصر معظم هذه الاستثمارات في مجال الزراعة عبر شركته المعروفة: أسترا الغذاء.
المصري رهن الاعتقال السياسي
«مكافحة الفساد» باتت التيمة الأكثر استخدامًا في السياسة السعودية الداخلية كشعار لسياسات ولي العهد السعودي المثيرة للجدل. لكن هذه المرة كانت تلك الجملة مثارًا للسخرية والذهول داخل الأوساط الأردنية. فصبيح المصري صاحب الإمبراطورية الاقتصادية الكبيرة معروف عنه النزاهة والسمعة الحسنة، كمان أنه قد بات واضحًا أن تلك الهيئة المزعومة قد أُسست لأغراض سياسية واقتصادية عدة ليس من بينها بالتأكيد مكافحة الفساد كما يقول رئيسها الأمير محمد بن سلمان الذي لا تكاد تنقطع الأخبار والتسريبات عن مقتنياته ومشترياته ذات الأرقام الخرافية والهائلة.
كمان أن الهيئة التي تتخذ من منتجع الريتز كارلتون بوسط الرياض مقرًا لها، لم تعلن حتى يومنا هذا عن نتائج تحقيقاتها وعن حجم ما كشفته من فساد هائل يستدعي إنشاءها بين عشية وضحاها لتتخطي سلطات كل هيئات التحقيق ومؤسسات العدالة بالمملكة.
المصري نفسه أكّد أنه تلقّى قبيل سفره إلى السعودية تحذيرًا من بعض أصدقائه من الذهاب للرياض خشية استغلال السلطات السعودية لجنسيته السعودية لتكون ذريعة لتوقيفه مثلما حدث قبل شهر مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ورجل الأعمال السعودي/الأثيوبي محمد العمودي، لكنّ المصري قلّل من تلك التحذيرات وطمأن المقربين منه باستحالة توقيفه بدعوى مكافحة الفساد لعدم وجود علاقة بين استثماراته والقطاع العام السعودي، وعدم حصوله على عطاءات حكومية سعودية قط. بل وبالغ المصري في التهوين من شأن تلك التحذيرات، وقرّر عقد اجتماع هام للإدارة العليا بالبنك العربي مساء الأربعاء 13 ديسمبر/كانون الثاني، أي في الموعد المقرّر لعودته من الرياض.
سخرية وذهول أردني صاحبته تساؤلات عن دوافع السعودية للقيام بمثل تلك الخطوة، فذهبت بعض التحليلات إلى أنها محاولة سعودية للانقضاض على استثمارات المصري بالسعودية بعد تسريب أنباء عن نية المصري تصفية استثماراته بالسعودية ونقلها إلى الأردن، أو أنها ربما تكون محاولة للثأر من الرجل الذي أحبط محاولات سعودية دؤوبة لنقل مقر البنك العربي من عمان إلى الرياض قبل عامين، أو أن الأمر قد لا يعدو استفسارًا صغيرًا عن بعض شركاء المصري السعوديين ممن هم متورطون في تهم فساد مالي طالبوا بأن يخضع المصري مثلهم للتحقيق.
لكنّ التفسير الأكثر ذيوعًا، والذي أثار ضجة أردنية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، كان مفاده أن السعودية تقوم بمناكفة الأردن سياسيًا بعد موقفه الأخير من قضية نقل السفارة الأمريكية للقدس، وأن اعتقال المصري ما هو إلا محاولة سعودية للاعتراض على حضور الملك عبدالله الثاني قمة المؤتمر الإسلامي بإسطنبول.
الأردن في مواجهة الوصاية السعودية
علي أي حال، وأيًا كانت الأسباب، فإن ردة الفعل الأردنية القوية على المستويين الشعبي والرسمي تكشف توترًا في العلاقات بين الرياض وعمان، لم يكن الموقف الأردني من قضية القدس مؤخرًا هو سببه الوحيد. فقد تميزت العلاقات الأردنية السعودية منذ سيطرة الأمير محمد بن سلمان على مقاليد السلطة بالمملكة، بفترات من الشد والجذب التي تتباين فيها رؤى الأردن في عدد من الملفات الإقليمية عن محور الرياض – أبو ظبي.
تنطلق الرؤى والمواقف الأردنية من دوافع اقتصادية بحتة تسعى إلى الحفاظ على الاستقرار في المنطقة وحفظ علاقات متوازنة بين الأردن ومحيطه الإقليمي، وذلك في سبيل المحافظة على استقرار الاقتصاد الأردني الذي قد لا يصمد طويلا أمام أي عواصف كبيرة في المنطقة يثيرها الأمير السعودي بأسلوبه المندفع الذي يرفع شعار «إن لم تكن معنا فأنت علينا» أمام أي محاولة لاتخاذ مواقف محايدة أو عاقلة من قبل شركائه في مصر والأردن.
وتنبع معظم الخلافات بين الأردن/مصر من جهة والسعودية/الإمارات من جهة أخرى، من الموقف من إيران، حيث تختلف الأردن مع الرؤية السعودية في تصدير الخطر الإيراني على أنه الخطر الأول الذي يواجه المنطقة، وترى أنه ينبغي التوحد لمحاربة خطر الدولة الإسلامية والجماعات المتطرفة في سوريا أولا. فبحسب تصريحات هامة أدلى بها مسئول أردني رسمي لموقع Middle East Eye الشهر الماضي، جاء فيها أن الأردن باتت منزعجة من الضغط السعودي المتواصل عليها من أجل الانضمام إلى الحملة المعادية لإيران، معتبرًا إياها سياسات سعودية «خرقاء» ستؤدى إلى عواقب كارثية بالمنطقة.
ينعكس ذلك التوتر أيضًا على الموقف من الأزمة السورية. فبينما يحاول الأردن تهدئة الأمور مع الإيرانيين وفتح قنوات اتصال معهم في الجنوب السوري/شمال الأردن، تحاول السعودية الضغط على الأردن لفتح ثغرة لها في تلك المنطقة لمحاولة إدخال مجموعات مقاتلة تغيّر سير المعارك في سوريا التي تتجه حاليًا نحو انتصار الجانب الإيراني/الروسي.
الأزمة الخليجية
مارست السعودية ضغوطًا هائلة على الأردن من أجل مقاطعة قطر، وهو الأمر الذي حاول الأردن الامتثال له على طريقته دون القيام بقطع العلاقات نهائيًا عبر القيام بتقليص بعثته الدبلوماسية في قطر، وإغلاق مكتب الجزيرة في عمان، وهو ما ردّت عليه قطر بالمثل عبر وقف منح تأشيرات العمل للأردنيين في قطر.
مقاطعة أردنية نتج عنها خسائر اقتصادية كبيرة جرّاء توقف حركة نقل البضائع بين الأردن وقطر عبر الأراضي السعودية، فقد فيها الأردن ما يقرب من 10% من صادراته الزراعية، وهو ما وعدت السعودية الأردن بتعويضه عبر حزمة من المساعدات المالية، ولكن السعودية سرعان ما نقضت وعدها ولم ترسل مساعداتها إلى الأردن حتى الآن، وقامت بما هو أسوأ من ذلك عبر قيامها بفتح معبر عرعر بينها وبين العراق بعد 27 عامًا من إغلاقه أثناء حرب تحرير الكويت منتصف أغسطس/آب الماضي ، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تفاقم مشاكل الاقتصاد الأردني حيث سيقلل فتح المعبر من حركة التجارة بين الأردن والعراق لصالح السعودية.
فقامت الأردن بعد ذلك بمحاولة ناجحة لاستعادة العلاقات مع قطر واستئناف حركة التجارة عبر الطيران، تكللت باستقبال أردني حافل لوزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم بداية الشهر الماضي، وعودة مكتب الجزيرة إلى الأردن.
القدس بين الوصاية الهاشمية والتطبيع السعودي
في عام 1924، ضمّ الشريف حسين بن علي الهاشمي (جد الملك عبد الله الثاني) مكة والمدينة المنورة لحكمه. وفي نفس العام، منحه شعب القدس حقّ حكمها، فكان الهاشميون وما زالوا يفتخرون بوصايتهم على المقدسات الإسلامية الثلاثة. لكن سرعان ما استطاع عبدالعزيز بن سعود أن يسترد مكة والمدينة لصالح دولته السعودية الجديدة، فباتت الوصاية الأردنية على القدس واحدة من أهم الأسس التي تستند إليها شرعية البيت الهاشمي الحاكم في الأردن، وهو ما أكّده الأردن في اتفاقية السلام الشهيرة بينه وبين إسرائيل (وادى عربة) عام 1994.
لكنّ الأمير الجديد الذي يسير بخطوات متسارعة نحو الانقاض على التقاليد والأعراف السياسية في المنطقة، يمضى مندفعًا نحو التطبيع الواسع مع إسرائيل، وهو الأمر الذي دقّ نواقيس الخطر داخل الديوان الملكي الأردني بحسب ما يقول نفس المسؤول الأردني في حديثه مع الميدل إيست آي، ويضيف هذا المسؤول قائلا:
لا يكتفي الأمير فقط بتجاهل الأردن كوسيط تاريخي بين السعودية إسرائيل، فتسريبات عدة تتحدث عن استعداد الرياض للتنازل عن حق العودة الفلسطيني، وتجاوز الوصاية الهاشمية لوصاية إسلامية-دولية مشتركة في إطار ما يسمى «صفقة القرن».
يمكننا في ضوء هذا المعطيات فهم ردة الفعل الأردنية على قرار ترامب الأخير، وما أعقبه من تظاهرات حاشدة في الشارع الأردني وصفت بن سلمان بالخائن للقضية الفلسطينية. وقد سمحت السلطات الأردنية لقناة الجزيرة بعمل تغطية موسعة لتلك التظاهرات. كذلك يمكن فهم تجاهل الملك عبد الله الثاني طلب الأمير بن سلمان عدم حضور مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تجاهلا مصحوبًا بالتحدي، فعبد الله الثاني غادر الرياض إلى اسطنبول مباشرة بعد لقائه بابن سلمان في الرياض.
(اضاءات)