عمان – السلطة في الأردن تلاحظ قبل وأكثر من غيرها أن الزخم الجماهيري للشارع عندما يتعلق الأمر بملف مدينة القدس تحديداً دون وأقل من المستوى المطلوب حتى بعدما ترك الميدان للتحشيد والاعتراض بل وفرت في بعض الأحيان التسهيلات بسبب حساسية وأهمية مدينة القدس في المعادلة الأردنية برمتها. يلاحظ مسؤولون في الإدارة المركزية في الدولة أن أطياف المعارضة الكلاسيكية بمن فيهم جماعة الإخوان المسلمين تظهر خلافاً للمواطنين العـاديين حضـوراً أقـل كثـافة من المـتوقع في الشــارع.
السبب يعيده نشطاء خبـراء إلى سلسـلة من أزمات الثقة والتعبير بين المعارضة بشقيها الإسلامي واليساري وتلون الخطاب الرسمي عندما يتعلق الأمر بحريات التعبير في الشارع العام حصـرياً.
وفي الأحوال كلها تسعى سلطات الحكومة اليوم من جانبها إلى مقاربة أقل ضجيجاً وإلى وضع تضبط فيه بالتوازي فعاليات الشارع مقابل النشاطات الفكرية والسياسية التي تزايدت بصورة ملموسة تحت عنوان القدس وأزمتها بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي خلط الأوراق جميعها بما فيها تلك الأردنـية.
توجّه ملموس في الساعات القليلة الماضية ظهر بالمستوى البيروقراطي لضبط إيقاعات نشاطات سياسية خارج الأطر الحزبية والنقابية حتى أن بعض الندوات المتخصصة تم منعها أو لم تحظ بالموافقة الأمنية تحت شعار السعي لضبط الإيقاع العام. حصل ذلك من دون إظهار أية ردة فعل سلبية ضد رغبة الأردنيين في الاحتشاد والتظاهر ليس فقط من باب تقاطع اتجاهات الشارع مع الموقف الرسمي والملِكِي فقط، لكن أيضا في سياق نظرية التفريغ للشحنات الاجتـماعية إزاء قـضية حسـاسة عـميقة مثل القـدس ذات بـعد ديـني ووجدانـي.
الحسابات السياسية في المقابل بدت في الأيام الأخيرة أكثر تعقيداً بالنسبة لدوائر صنع القرار الأردنية، فالعديد من أفراد النخبة في الإدارة والصالونات الأردنية يتحدثون عن ضغط سعودي عنيف وبأكثر من لغة يحاصر الموقف الأردني في ملف القدس الذي يتباين بصورة واضحة مع الموقف السعودي. الأردن بصدد ما يمكن تصنيفه بتقويم جوهري للكلفة الناتجة عن موقفه الاعتراضي المتصدر في المحافل الدُّولية حيث لا يقف الأمر عند الحصار والضغط السعودي بل يتجاوز تُجاه السيناريو المصري الذي يضغط هو الآخر على العصب الحيوي الأردني وأيضا تُجاه الموقف الإماراتي الصامت إزاء مجمل حلقات الضغوط.
ويبدو أن عملية التقويم تدرس إمكانية العمل في ملف القدس وفق منهجية لا تؤدي إلى نمو كبير في العلاقات مع تركيا تحديداً ورئيسها رجب طيب أردوغان حتى لا يتحول المشهد من سلبية وضغط على الأردن إلى حصار وأجندات سياسية تخاصمية وحرب غير علنية يمكن اشتمام رائحتها على الأقل وراء تفاصيل اعتقال ثم احتجاز الملياردير صبيح المصري أحد أهم أركان الاقتصاد الأردني والقطاع المصرفي الأردني.
ما يتردد في أروقة القرار هو أيضاً الحاجة إلى إعادة رسم سيناريوهات لها علاقة بالمثلث الذي يحاصر الأردن اليوم، تحديدًا بعد أزمة القدس وقرار ترامب حيث اليمين الإسرائيلي في حالة انقلاب تامٍ على الأردنيين، وحيث الاهتزاز المحتمل من الإدارة الأمريكية نفسها التي يمكنها أن تلوح في هذه المرحلة الحساسة اقتصاديا بالتراجع عن زيادة حجم المساعدات المالية للأردن بعدما تقررت شفوياً على الأقل.
وفي الزاوية الثالثة يجلس الحماس السعودي المفاجئ والغريب والغامض للحفاظ على الإدارة الأمريكية كوسيط لعملية السلام بالرغم من قرار رئيسها بخصوص القدس، الأمر الذي يرى الأردنيون أنه مؤشر حيوي وقوي على نهاية ما يسمى بمحور الاعتدال العربي الذي تحول اليوم إلى بقايا. وتدرس الغرفة العميقة خياراتها وهي تحاول أن تحصل على إجابة عن السؤال التالي : هل نستطيع في الواقع التمحور في الاتجاه المعاكس حيث تركيا وإلى قربها إيران وفوقهما المظلة الروسية ؟.
هل المطلوب الانتقال إلى محور ما يسمى بالممانعة ؟ .. لا نستطيع ذلك ولم نعتد عليه .. هذا ما يقوله على هامش نقاش مع «القدس العربي» وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر مع التلميح إلى أن مثل هذا التحول غير مطلوب ولا يشكل المساحة الوحيدة المتاحة. لأن خيارات الخبرة الأردنية في المنطقة والإقليم والمجتمع الدُّولي لديها أوراق قـوة والمـطلوب استخدامها فقط ضمن البقـاء في الـخيارات الاسـتراتيجية نفسـها.
يُحاجج سياسيون كثيرون أن فكرة الانقلاب في المحاور غير مطروحة وقد تكون مكلفة جدا بالتوازي مع اقتراح بوجود هوامش يمكن المناورة فيها لها علاقة باستثمار الاعتدال الأردني والمكانة الدُّولية للملك عبد الله الثاني تحديدا وللتعامل مع أوراق ضغط على إسرائيل وعلى الإدارة الأمريكية من دون انقلاب كبير على الذات أو حالة تمحور جديدة. وعلى أساس أن المطلوب تنويع الاتصالات وتعددية العلاقات كما يقترح او اقترح رئيس الوزراء الأسبق الدكتور معروف البخـيت في بعـض الاجتـماعات المغـلقة.
في الوقت نفسه ثمة قرار مركزي واضح في الدَّولة الأردنية بعدم العمل تحت مظلة مقايضة الموقف من القدس والدور الأردني فيها بأية مصلحة أخرى بما فيها المساعدات الاقتصادية وهو ما عبر عنه كاتب قريب من دوائر صناعة القرار نقلًا عن مركز القرار هو الدكتور محمد أبو رمان.
قبل ذلك عبر الملك شخصيًا عن مقاربته للسياق عندما جدد تأكيده عشية زيارته المرتقبة للفاتيكان وفرنسا اليوم أن الأردن يُصر على الاحتفاظ بواجبه في رعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وفي عبارة مباشرة تمسك بها الملك الأردني عندما خاطب أمس الأول نخبة من القيادات المسيحية.
هوامش المناورة الوحيدة أمام الأردن اليوم تتمثل في البقاء في أقرب مسافة مع الاتحاد الأوروبي والعمل على أساس خطة اختراق لمقايضة قرار ترامب لوعد يخص القدس الشرقية مع العمل أيضاً في السياق الإسلامي بحذر ومن دون تحمل المزيد من أعباء وكلف الحضن التركي أو الخطاب الإيراني.
(القدس العربي)