جهاد حيدر
صحيح أن تهويد القدس هدف قائم بذاته للحركة الصهيونية بكافة تياراتها وأحزابها، وصحيح أن هدف الرئيس الاميركي دونالد ترامب، من اعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، هو تكريس احتلالها وشرعنته ودفع كافة الاطراف الفلسطينية والعربية والدولية للتعامل معه على أنه أمر واقع. لكن أبعاد ومفاعيل هذا الاعلان تتجاوز هذه المدينة المقدسة، لدى كافة الاديان، وتتصل بالسياقات التي سبقته وتزامنت معه، وتهدف إلى التأسيس لمسارات ومعادلات جديدة تتصل بكل فلسطين والمنطقة.
في المقابل، لن تقتصر تداعيات انتفاضة شعب فلسطين على واقع القدس ومستقبلها، بل ستطال نتائجها وتداعياتها كافة الاطراف ذات الصلة، على جانبي خط المواجهة، وتتمدد ظلالها إلى الساحات المحلية والاقليمية والدولية. وادراكا منهم في تل ابيب وواشنطن، لحجم المخاطر التي يمكن أن تترتب على تبني الشعب الفلسطيني قرار المواجهة مع الارادة الاميركية، يبذلون جهودهم من أجل منع تبلور انتفاضة شاملة تغير المعادلات وتقلب الواقع الذي أرادوا فرضه.
كانت القدس شعارا وهدفا، للحركة الصهيونية، في سياق توظيفي هادف لجذب اليهود من كافة انحاء العالم. من هنا كانت وما زالت ضمن دائرة الاطماع الصهيونية التي قطعت أشواطاً بعيدة في تهويدها بعدما استكملت احتلالها على مرحلتين (48 و67). قرار الرئيس الاميركي أتى ليُعزز الخطر الصهيوني على واقع ومستقبل القدس، ويحاول تثبيته ودفع اليأس في قلوب الشعب الفلسطيني، من امكانية تغييره حتى على مستوى المستقبل.
على مستوى التداعيات الاقليمية، يشكل اعلان ترامب بخصوص القدس، تأسيساً عملانياً لما يسمى "صفقة القرن"، على انقاض القضية الفلسطينية. واللافت أنهم بدأوا بالقضية الأكثر قداسة على أمل أن يسمح تمريرها بتعبيد الطريق أمام تصفية القضايا الأخرى. وهكذا، وفق مخططهم، كان يفترض أن يؤسِّس اعلان ترامب، لخطوات لاحقة على طريق تصفية القضية الفلسطينية، الذي يفترض أن يتوج باعلان الصفقة الاقليمية، وبلورة تحالف استراتيجي علني بين "إسرائيل" والسعودية وسائر معسكر الاعتدال العربي لمواجهة محور المقاومة.
في ضوء ما تقدم، من الواضح أن تداعيات المسار الذي شكل اعلان ترامب محطة تأسيسية في سياقه، تنطوي على مخاطر تصفوية للقضية الفلسطينية، ومحاولة تحول "إسرائيل" إلى كيان طبيعي، كما لو أنها جزء من نسيج المنطقة. على أمل توجيه بوصلة العداء للشعوب العربية في مواجهة الجمهورية الاسلامية في ايران. ولهذه الغاية، تم ويتم تأجيج النعرات المذهبية، على أمل أن يشكل ذلك قاعدة لتحالفات تهدف إلى مواجهة محور المقاومة.
في مواجهة هذا المخطط الاميركي الإسرائيلي و(بعض) العربي الرسمي، يقف الشعب الفلسطيني – باعتباره رأس الحربة – ومعه حركات المقاومة في المنطقة، أمام خيار وحيد هو المقاومة والانتفاضة. وبنظرة خاطفة إلى البدائل الاخرى، نجد أنها كلها تصب في اتجاه نجاح المخطط الاميركي ازاء القدس والقضية الفلسطينية ومفاعيلها الاقليمية.
المؤكد أن خيار الانتفاضة سيواجه بمخطط مضاد، سوف تتنوع أساليبه وأدواته وتتجاوز ساحته الاراضي الفلسطينية. لكن النتيجة الفورية والمباشرة لهذا المسار سقوط الرهانات التي انطلقت منها واشنطن وتل ابيب، التي مهدت لاتخاذ قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي. وتمحورت هذه الرهانات حول استبعاد حدوث انفجار شعبي فلسطيني، تحديداً، في مواجهة مخطط ترامب – نتنياهو.
وفي حال انطلاق انتفاضة شاملة في الاراضي الفلسطينية المحتلة، يكون قد انقلب "السحر على الساحر"، وانعكست مفاعيل المخطط من كونه تهديد للقضية الفلسطينية إلى فرصة لاعادة تصدرها المشهد الاقليمي، وتحولها إلى محور الحراك الشعبي والسياسي والمقاوِم.
ويبدو أن أحد أهم عناصر قوة خيار الانتفاضة، في المرحلة الحالية، أنها تأتي بعد استنفاذ خيار التسوية الذي انحدر إلى مستويات لم يعد بامكان حتى أتباع اوسلو التكيف معها ومحاولة تبريرها، والايحاء بوجود المزيد من الرهانات. نتيجة ذلك، باتت الانتفاضة، ممراً إلزامياً لأي انجاز يسعى إليه أي من الاطراف والتيارات الفلسطينية. بمن فيهم من يسعون إلى إعادة احياء مسار اوسلو. ولن يتحقق هذا الامر إلا في حال تم اسقاط قرار ترامب، وقطع الطريق على "صفقة القرن". ويشكل هذا المعطى، أرضية خصبة للتنسيق والتكامل والوحدة بين الفصائل التي تتعارض في رؤاها وخياراتها.
ومع استمرار وتصاعد الحراك الشعبي الفلسطيني والمقاوم، تكون واشنطن، ومعها تل أبيب، أمام خيارين: إما اضطرار الادارة الاميركية للتراجع، وانكسار ارادتها الذي لن يتحقق إلا في حال تراجع ترامب عن قراره، اي إلى ما قبل 6 كانون الاول، أو تحمل مفاعيل وتداعيات استمرار الانتفاضة واتساع نطاقها، مع كل ما سيترتب على ذلك من مسارات وتداعيات تتصل بمخطط التسوية على الساحة الفلسطينية.
(العهد)