2024-11-25 06:52 م

المعونات والتوصيف الأمريكي الجديد للدور المصري

2017-08-30
إيهاب شوقي*

أثار حادث تجميد جزء من المعونة العسكرية الامريكية لمصر وإلغاء جزء آخر وتوجيهه لشركاء امنيين آخرين لغطاً كبيراً تفاوتت معه التحليلات والتقديرات والتكهنات.
واختلطت كالعادة التحليلات بالأوهام وبالأشواق، كما تم توظيف الحدث من قبل الموالاة والمعارضة كل في اتجاهه.
 وبالفعل تشكل التقلبات الأمريكية في العلاقة مع النظام المصري منذ اواخر عهد الرئيس السابق حسني مبارك لغزا يصيب الكثيرين بالحيرة. وتزايدت وتيرة التقلبات وحدّتها بعد موقف اوباما المتشدد في البداية من 30 يونيه وقطعه المعونة عن النظام المصري ثم التكيف واستئناف المساعدات في آخر عهده اثناء فترة التسليم للرئيس ترامب، مرورا بما وصفه البعض بانه شهر عسل مصري امريكي في الشهور الاولى لتولي ترامب، ثم المحطة الاخيرة بتخفيض 195 مليون دولار من مجمل 1.3 مليار دولار تحصل عليها مصر سنويا كمساعدات مالية عسكرية، ووضعها فى حساب خاص، يمكن لمصر الحصول عليه حال إذا تحسن سجلها فى الديمقراطية!
وإلغاء او بالأحرى إعادة برمجة نحو 95 مليون دولار تشمل "مساعدات عسكرية بقيمة 65.7 مليون دولار في العام المالي 2017  ومساعدات اقتصادية بقيمة 30 مليونًا في العام المالي 2016، وحسبما رشح فإنها لن تذهب لمصر، وسيعاد توجيهها لشركاء امنيين آخرين!
لكن ربما يزال كثير من اللبس اذا ما وضع في الاعتبار عدة حقائق، اهمها ان السياسة الخارجية الامريكية هي بالفعل شراكة بل ومحل لصراع مستمر بين الكونجرس واي رئيس امريكي، وبالتالي فإن توجهات الرؤساء وتصريحاتهم ودعاباتهم مع رؤساء مصر او حتى تصريحاتهم النارية ليست مؤشرا حاسما للسياسات المتبعة، ويزال اللبس اكثر واكثر عندما نعلم ان قضايا الديمقراطية ليست كلها شعارات للابتزاز وانما هناك من الاجنحة الداخلية في امريكا من يرى ان الديمقراطية الليبرالية في الدول الخارجية هي مصلحة امريكية متعلقة باستقرار الاسواق والحد من تدفق اللاجئين والارتدادات الارهابية داخل امريكا، اي ان الامر ليس كله ابتزازا وعصا مرفوعة للمناورة.
كما ان اروقة الادارة الاميركية ومراكزها البحثية تصنف مثلا ايران اعدى اعداء اميركا على انها ديمقراطية وان كانت غير ليبرالية!
ومن هنا تتزامن العقوبات ايضا مع ما دشنته بعض الابواق في مصر من حملات لمد فترة الرياسة وتأجيل الانتخابات، مما استفز الاجنحة الديمقراطية الليبرالية الحريصة على المصالح الاميركية وعدم تهديدها بخطوات كهذه مما ينتج عنه تهديدات لاستقرار مصالحها وفقا لتقديراتها.
الا انه وسط التحليلات والتكهنات برزت تفسيرات اقل ما توصف بانها سخيفة وقد اعتمدت على تقارير لصحف اميركية لها ثقل مثل التفسيرات التي قيلت بانها اجراءات عقابية لعلاقات مصر تارة بكوريا الشمالية وتارة بالصين وتارة بروسيا والى اخره من التفسيرات التي تبدو متهافتة اذا ما قوبلت ببعض المعلومات والارقام:
فإحصاءات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) تشير إلى أن 10% فقط من قيمة المعونات يتم توجيهها لتوفير احتياجات المواطنين الأساسية في الدول النامية. من هنا يرى المعارضون للمعونات الأجنبية أنها لا تحقق ما ينتظر منها.
والكثيرون يعلمون ان جانبا ضخما من برامج المعونة سواء في شقها الاقتصادي ام العسكري تعود للولايات المتحدة سواء عبر شراء الاسلحة واجور المستشارين ام عبر استيراد سلع اميركية وخلافه.
ووفقا للخبراء، تمثل المعونات الأميركية لمصر 57% من إجمالي ما تحصل عليه من معونات ومنح دولية، من الاتحاد الأوروبي واليابان وغيرهما من الدول، كما أن مبلغ المعونة لا يتجاوز 2% من إجمالي الدخل القومي المصري.

في الواقع لا يرقى الاجراء لعقاب ولكنه مؤشر او لغة ما من لغات الاعراب عن الاستياء وتوجيه جاد لتغيير بعض السياسات ولكن من منظور اخر يتعلق بأن للمعونة لدى النظام المصري شقاً اهم من الشق الاقتصادي برغم اهميته.
هذا الشق متعلق بالعلاقات مع اميركا وان استمرار المعونة يعد مؤشرا على استراتيجية العلاقة وخلوها من المنغصات، تماما كقرض صندوق النقد والذي تتخطى دلالاته السياسية ابعاده والتي تسبب اعباء واحراجا نظرا لحجم الفوائد  وطبيعة شروطه المحرجة.
فالنظام المصري ينظر ايضا لقرض الصندوق بانه مؤشر لشرعية دولية وانخراط في النمط الاقتصادي العولمي والذي يدرأ عن النظام اي مشكلات سياسية او محاولات للابتزاز.
المفارقة ان المعونة الاميركية وصندوق النقد الدولي يفوق حجم ابتزازهما الحجم المترتب على تركهما، ومخاطة الاستجابة لشروطهما اعلى من مخاطر التحدي، ولكنها خيارات السياسة وعقول وارادات وتوجهات الرجال!
والسؤال هنا محل اللغز، لماذا فعلت الادارة الاميركية ذلك؟ وفيمَ اغضبها النظام المصري وهو يبدو سائرا في فلكها وحتى وفي ملفات محدودة وإن بدا خارج هذا الفلك الا انه ليس بعيدا عن مجالها المغناطيسي!
قبل الاجتهاد في اجابات نريد ان نتوقف لبرهة عند توصيف ما حدث...وهل هو توتر او عقاب او مقدمة لقطيعة ام شيء معتاد وزوبعة في فنجان؟
ما نراه ان الامر اكبر من معتاد واقل كثيرا من توتر وقطيعة.
اكبر من معتاد لانه يسوق صراحة باعتباره عقابا والغريب انه في وقت تشهد به العلاقات دفئا معلنا والاغرب ان ترامب لم يحمل قضية حقوق الانسان على عاتقه ولم يستخدمها فزاعة كسابقيه.
ولو ان قرارات الكونجرس تعلو على ترامب في بعض القضايا فقد يخففها ترامب بتصريحات على غرار ما فعله من قرارات وقعها وابدى عدم رضاه عنها، والرجل لم يفعلها هذه المرة!
واقل من قطيعة لان التموضع المصري في قضايا الاقليم هو التموضع الاميركي ذاته ولا توجد مؤشرات لفك الارتباط ولا شواهد على تناقضات في اي من الملفات الحاسمة، ناهيك عن لقاءات مستمرة في ذات يوم الاعلان عن قرارات التجميد والمنع بين صهر ترامب ومستشاره كوشنير وبين الرئيس السيسي، والحديث عن محاولات جديدة لطرق الابواب ناهيك عن تصريحات اميركية بعلم مصر المسبق بالقرارات، كما ان القرارات سبقها تقارير وجلسات معلنة بالكونجرس وقناعة بانها ستحدث في جو من اللا مبالاة واستمرار اللقاءات والتنسيقات.
وعند تأمل الاجراء فاننا في الواقع لا نجد ان الامر يشكل انعطافة او نقلة تاريخية، فبرامج المعونات والتي بدأت حثيثا منذ مشروع مارشال وتصاعدت ثم تم تخفيضها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لعدم حاجة اميركا الى هذا السلاح في الاستقطاب، ثم عادت لتصبح ركنا من اركان الامن القومي الاميركي في عهد بوش الابن ليطلق حربه الاستعمارية باسم الحرب على الارهاب.
اما الان فلا نرى تغيراً استراتيجياً الا شواهد انتقال لمسرح العمليات تجاه آسيا واعتماد المنطقة مسرحا للتجهيزات اللوجستية وبنكا للتمويل عبر ابتزاز اطرافها الاقليميين وتغذية الصراعات لضمان التدفقات النقدية، ولا نرى ان اميركا تتجه للتفريط في مصر، ولكن اهمية مصر تبدو متراجعة بعد دخول اطراف اكثر التصاقا باميركا مثل السعودية في خط الامن الاسرائيلي، وبعد تخلي مصر عن خليج العقبة وتأمين هذه الورقة لإسرائيل. ولا شك ان دور العراب أقل اهمية واقل كلفة من كلفة تحييد الطرف الاصيل بالصراع والممتلك لاوراق الضغط والقوة.
وملاحظة اخرى يجدر ان نذكرها وهي انه وبصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف مع النظام المصري، وبصرف النظر عن الرؤية الشخصية للجيش المصري وما لحق بها من تشوهات بعد موضوع الجزر المصرية التي تم التفريط بها والخط مشدود لابعد من ذلك بالقطع وواصل الى كامب ديفيد، الا ان الانصاف يقتضي القول بأن الضغط الاميركي بتقليل المعونة العسكرية ومنع جزء من الاقتصادي هو بهدف القضاء التام على الدور الاجتماعي والاقتصادي للجيش الذي يحاول تخفيف اثار الخصخصة وشروط صندوق النقد. اميركا تعلم ان المعونة تحت تصرف الجيش بما فيها الاقتصادية وان جزءا منها يستخدم في ادوار بديلة للقطاع العام الذي تم تدميره.
لا شك وبعد تدمير القطاع العام اصبح المواطن المصري فريسة سائغة للسوق الحر واحتكاراته ولعل ذلك قد تصل خطورته الى مرحلة حرجة من الاحتقان وربما الفوضى، مما يستدعي في محطات حرجة تدخل مؤسسات الجيش الاقتصادية للعب دور بديل للقطاع العام وامداد الاسواق بسلع منافسة، قد يرى البعض انها تحقق ارباحا وانها ليست وظيفة الجيش، ولكنها وبرغم ذلك تستوعب بعض الازمات الحرجة، وهذا الدور ترفضه اميركا تماما والتي تريد سوقا مفتوحة للاحتكارات لا تؤثر على مصالحها ومصالح وكلائها وسماسرتها.
كما تريد اميركا نزع اي تعاطف شعبي مع الجيش لتنفرد به وتستطيع ابتزازه دون عراقيل مترتبة على شعبية تمكنه من الاستقواء امامها.
ان ما حدث يبدو مجرد اعادة توصيف اميركي للحلفاء واوزانهم النسبية واعادة جدولة لميزانية المعونات وفقا للادوار واهميتها!
(*) كاتب صحفي مصري