علي حيدر
في خلال نحو سبعة عقود على إعلان «دولة إسرائيل»، مرت المنطقة العربية بسلسلة من المتغيرات التي خلصت حتى الآن إلى حقيقة أن إسرائيل باتت تتمتع ببيئة استراتيجية تراجع فيها تهديد الجيوش النظامية بفعل اتفاقات التسوية، كحالة مصر والأردن، وبفعل الحروب التي استنزفت الدولة، في حالة سوريا والعراق.
في الوقت نفسه، باتت إسرائيل تواجه على صعيد جبهتها الداخلية تهديداً لم يسبق أن شهدته طوال تاريخها بفعل صواريخ محور المقاومة. كذلك تواجه على حدودها تهديداً دفع قيادتها السياسية والعسكرية إلى تبني استراتيجية التخندق خلف الأسيجة والجدران لمواجهة ما تمثله حركات المقاومة في لبنان وفلسطين (غزة والضفة).
مهما قيل عن ظروف دولية وعوامل صهيونية ذاتية، كان لها دور أساسي في نجاح المخطط الصهيوني ــ الدولي على أرض فلسطين. تبقى حقيقة موازية، هي أن حالة التخاذل والخيانة العربية في ذلك الحين، شكلت العامل الأهم في توفير الأرضية لنجاح مشروع إقامة إسرائيل. يكفي للدلالة على هذه الحقيقة أن عدد سكان إسرائيل من اليهود عام 1948، كان نحو 650 ألف شخص، ولم يكد يتجاوز أو يبلغ عدد مقاتليها نحو 100 ألف، وذلك في مواجهة محيط عربي كان يبلغ تعداده عشرات الملايين. المشهد نفسه يتكرر الآن في ما تشهده البيئة الإقليمية والدولية من حراك سياسي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية، أو تهميشها إلى الحد الذي تتحول فيه إسرائيل إلى «كيان طبيعي»، يمكن أنظمة الاعتدال العربي الانتقال في ظله إلى مرحلة التحالف العلني معه على المستويات كافة، وذلك على قاعدة مواجهة التهديد المشترك والمصير المشترك.
في ما يتعلق بمناسبة نكبة «إعلان دولة إسرائيل»، التي قامت على أرض فلسطين وحساب شعبها، ينبغي التذكير بحقيقة أن الحديث عن مشروع صهيوني استيطاني تهويدي للأرض، لا يتعارض مع الحديث عن الدور الوظيفي لإسرائيل، الذي شكَّل الخلفية الأهم للحصول على الدعم الاستعماري السياسي والمادي والعسكري. كذلك، لا يتعارض الحديث عن دور وظيفي لإسرائيل مع وجود مشروع صهيوني قائم بذاته، فالأخير لم يكن يتمتع بأي أفق للتحقق والتقدم دون احتضان كامل من بريطانيا والولايات المتحدة؛ الدول العظمى الغربية كانت أحوج ما تكون إلى قاعدة متقدمة في المنطقة كجزء من استراتيجيتها الشاملة في مواجهة الشعوب العربية.
من الناحية العملية، لا يهم كثيراً أيهما سبق الآخر: التنظير الاستعماري للحاجة إلى «كيان صهيوني (تحديداً)» في المنطقة ــ يؤدي دوراً وظيفياً (مع تأكيد بديهية أسبقية الأطماع الاستعمارية الغربية في المنطقة للمشروع الصهيوني) ــ أم تبلور الفكر الصهيوني الذي روّج لفكرة «البيت القومي لليهود» في فلسطين؟ في كل الأحوال، أدرك منظِّرو المشروع الصهيوني وقادته أن شرط تحققه وبقائه وتطوره مرهون بدوره الوظيفي، وكان وجود هذا الدور، وما زال، هو الشرط الأساسي للاحتضان الكامل من الدول العظمى.
مع ذلك، لا يلغي ما تقدم أهمية الغوص في تفاصيل تلك المرحلة التاريخية التي شهدتها أوروبا، لجهة العلاقة التفاعلية بين المشروعين الصهيوني والاستعماري، وخاصة أنها شكلت محطة تأسيسية لمرحلة جديدة في حياة شعوب المنطقة العربية ومستقبلها. لكن المسلَّم به أنه في كل السيناريوهات، لولا المخطط الاستعماري الغربي، بكل عناوينه القديمة والحديثة وما بعدها، لبقي المشروع الصهيوني مجرد فكرة راودت مجموعة من النخب الصهيونية. وفي أقصى الأحوال، ترك بعض بصماته في هذه المرحلة أو تلك قبل إجهاضه. وليس في ذلك إعفاء أو تغاضٍ عن المسؤولية العربية الشاملة، في الماضي والحاضر، إزاء كل ما بلغه «الكيان الاسرائيلي» كمشروع صهيوني توسعي أو أدواتي في سياق الصراع بين شعوب المنطقة والدول الاستعمارية.
في المقابل، ينبغي ألّا يغيب أن التوسع الصهيوني قبل أن يبلغ ذروته في اجتياح عام 1982، مرّ بمراحل متعددة أخذت بالإجمال مساراً تصاعدياً، ثم انحدر مساره التصاعدي على الأرض اللبنانية، وصولاً إلى تحرير 2000، وما تلاه على أرض فلسطين.
أيضاً، تجسد الدور الوظيفي للكيان الإسرائيلي في أصل إقامته عام 1948 وما ترتب عنه من نتائج وتداعيات، وفي أكثر من محطة مفصلية هي نفسها مراحل التوسع، إضافة إلى عدد من الأدوار والمهمات والاعتداءات التي نفذها على مستوى المنطقة. لكن محور المقاومة نجح في تقييد هذا الدور الوظيفي، تحديداً منذ انتصار 2006. وتجلت مفاعيل هذا القيد في أكثر من محطة، أي في مواجهة إيران ولبنان وحتى سوريا، التي يكشف التدخل الأميركي والإقليمي والخليجي، في بعض جوانبه داخلها، عن محدودية إسرائيلية في القدرة في التأثير الجذري على هذا المسار. ونتيجة ذلك، انتقد المسؤولون الإسرائيليون سياسة الانكفاء الأميركية عن التدخل العسكري المباشر، وحمَّلوها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، والأداء الإسرائيلي مقابل موسكو يؤكد أيضاً هذه الحقيقة.
على خط موازٍ، لا يتعارض مفهوم تقييد هذا الدور الوظيفي، مع حقيقة كون إسرائيل دولة عظمى إقليمية استناداً إلى ما تملكه من قدرات عسكرية وتكنولوجية. والتجلي الأبرز للمسار الانحداري، بوجهيه التوسعي والوظيفي، تمثل في التبدل الجوهري الذي استجد على العقيدة العسكرية الإسرائيلية، رغم الفرص التي وفرتها اتفاقات التسوية والحروب التي تشهدها دول المنطقة. فالدلالة الأهم التي تنطوي عليها «منظومات الاعتراض» الصاروخي، و«الاعتراض» الجغرافي (بناء الجدر والأسيجة)، أن استراتيجيتها العسكرية التي تبنتها طوال عقود، وقامت على ثلاثية الردع والإنذار والحسم، إلى جانب عقيدة نقل المعركة إلى أرض العدو، لم تعد تجدي في مواجهة تهديد المقاومة.
الآن، بعدما نجحت المقاومة في لبنان وفلسطين، في إسقاط مشروع التوسع الصهيوني، ونجح محور المقاومة في فرض معادلات ردع قيَّدت الدور الوظيفي لإسرائيل على المستوى الإقليمي، أتت «النجدة» (من بعض) العربية من خلال الحروب التي يتعرض لها محور المقاومة، مقرونة بخطاب سياسي متطابق مع أولويات تل أبيب الاقليمية، وذلك في تحديد الأعداء وكيفية مواجهتهم، بل إن هذا التطابق امتد ليشمل الخطاب الدعائي حتى على مستوى المفردات و«الفبركات» في مقابل حزب الله والجمهورية الإسلامية في إيران.
مع ذلك، لا يعني تكرار مشهد التخاذل والخيانة، بالضرورة، تكرار النكبة، لا لأن إسرائيل باتت أضعف عسكرياً، بل العكس هو الصحيح، وذلك لنوعين من الأسباب: الأول يتصل بالبيئة الإقليمية التي لا يزال التخاذل والتآمر حاضرين فيها بقوة كما كانت الحال قبل نحو سبعين عاماً، لكن يوجد مقابل ذلك عمق استراتيجي للمقاومة يتمثل بمحور يمتد إلى دولة إقليمية عظمى، هي الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تنطلق من موقفها من قضية فلسطين من منطلقات عقائدية، وتوفر له كل ما تقدر عليه من قدرات ووسائل، والثاني لأن الشعب الفلسطيني بات أكثر نضجاً وخبرة وتصميماً على المقاومة، وهو ما برز في أكثر من محطة حاول فيه الآخرون إطباق الخناق عليه، لكنه كان يقابلهم بإبداعه وابتكاره وسائل النضال والمقاومة.
"الاخبار"