تطورات متسارعة مر بها اليمن، خلال الأسبوعين الأخيرين، تشكلت من خيوطها صورة واضحة لانقلاب إماراتي صريح على «عبد ربه منصور هادي»، وإعلان دون مواربة من أبوظبي عن مخططها لفصل الجنوب اليمني عن شماله.
وبينما ينقلب المشهد في اليمن من النقيض للنقيض، يبدو الصمت السعودي لافتاً، والأكثر إثارة هو مواصلة المملكة السياسة ذاتها التي اتبعتها في مواقف سابقة اختلفت فيها مع أبوظبي باليمن، والقائمة على إنكار وجود هذا الخلاف، والعمل في الكواليس على احتواء الخلاف بين أبوظبي و«هادي».
ورغم أن الخلافات بين منصور هادي والإمارات تبدو قديمة، إلا أن خروجها للعلن بشكل واضح تمثل في واقعتين خلال الأشهر الأخيرة؛ الأولى في الاشتباكات التي جرت في محيط مطار عدن، بتاريخ 12 فبراير/شباط الماضي، عندما أقال منصور هادي قائد القوات المكلفة بحماية المطار المقدم ركن «صالح العميري»، أحد رجال الإمارات.
وعلى خلفية رفض «العميري» القبول بقرار إقالته جرت اشتباكات بين قوات الأخير وقوات الحماية الرئاسية التي يقودها «ناصر» نجل «هادي»، تدخلت على إثرها مقاتلة إماراتية دعما لرجلها.
أما الواقعة الثانية فكانت بتاريخ 27 أبريل/نيسان الماضي، عندما أقال منصور هادي محافظ عدن «عيدروس الزبيدي» ووزير الدولة «هاني بن بريك»، وهما من أهم رجال الإمارات في الجنوب اليمني.
إذ لا تخفى على المتابعين العلاقات الوثيقة بين أبوظبي و«الزبيدي»؛ فالأخير من قيادات «الحراك الجنوبي»، المدعوم إماراتيا، والذي ينادي بانفصال الجنوبي اليمني عن شماله.
أما «بن بريك» فكان يقود قوات «الحزام الأمني»، التي تشكلت بتمويل ودعم إماراتي في الجنوب اليمني، وهو من القيادات السلفية في اليمن، التي تنسج الإمارات علاقات معها في مواجهة نفوذ جماعة «الإخوان المسلمين»، التي يمثلها في اليمن حزب «التجمع اليمني للإصلاح».
إقالة منصور هادي لـ«بن بريك» و«الزبيدي» أثارت امتعاض وسخط قادة إماراتيين، ووصلت إلى ذروتها بهجوم حاد شنه الفريق «ضاحي خلفان» نائب رئيس الشرطة والأمن العام في إمارة دبي، على «هادي»؛ حيث طالب بتغييره، قائلا أنه رئيس «يفرق ولا يجمع، وأنه سبب أزمة اليمن».
وبعد أيام من إقالة «بن بريك» و«الزبيدي» خرجت مظاهرة حاشدة في عدن نظمها أنصار «الحراك الجنوبي» للاحتجاج على الخطوة، وصدر عنها ما سُمى بـ«إعلان عدن التاريخي»، القاضي بتفويض «الزبيدي» بتشكيل مجلس سياسي لإدارة المحافظات الجنوبية.
وبالفعل أعلن محافظ عدن المقال، يوم الخميس، عن تشكيل ما يسمى بالمجلس الانتقالي لإدارة شؤون الجنوب ضم 26 شخصية برئاسته ونائبه «بن بريك».
نحن إذن أمام انقلاب إماراتي واضح على «هادي»، لكن الغريب هو الصمت السعودي المطبق، بل ومحاولة انكار وجود هذا الخلاف، في دليل على حالة من الارتباك في اليمن تغلف الموقف السعودي.
ولتفسير موقف الحليفين في اليمن؛ ما بين الجرأة الإماراتية في الكشف عن مخططاتها علناً، والارتباك والصمت السعودي على ذلك، يتطلب الأمر الوقوف على حقيقة مصالح كلا الطرفين فيما يتعلق بالملف اليمني، وطبيعة علاقات الطرفين من القوى الدولية.
مصالح الإمارات في اليمن
وفيما يتعلق بالإمارات، تبدو هي الطرف الوحيد الذي يعرف ما يريد تحديدا في اليمن، ولديها تعريف دقيق للعدو والصديق والحليف.
ويمكن تحديد مصالحها في اليمن فيما يلي:
أولا: ضمان بقاء ثابت ومستدام للنفوذ الإماراتي على باب المندب، الممر المائي الاستراتيجي.
وهو مخطط عسكري واقتصادي واسع وشديد الجدية، ولن تساوم عليه أبوظبي، خاصة في ظل التنسيق الواضح مع مصر والضوء الأخضر الأمريكي. وهو يتطلب العمل على جانبي المضيق: في اليمن وفي القرن الإفريقي.
وفيما يخص القرن الإفريقي يمضي المخطط الإماراتي بثبات وبتنسيق كامل مع مصر والولايات المتحدة ممثلا في قواعدها اللوجيستية والعسكرية في إريتريا والصومال. وفي اليمن سيكون على الإمارات ضمان أن أية سلطة مستقبلية في الجنوب ستكون موالية لها، كما أنها ستسعى لتعزيز تواجدها في جزيرتي سقطرى وميون اليمنيتين، اللتين تتحكمان في مضيف باب المندب.
وفي هذا السياق، يجب الإشارة إلى أن الإمارات تضع القرصنة البحرية ضمن التهديدات المحتملة لأمن البلاد، وهو أحد أسباب حرص الإمارات على أمن باب المندب، بالإضافة إلى طموح أبوظبي في بناء نفوذ إقليمي، يفوق في حقيقة الأمر قدراتها الجيوسياسية، مستغلة غفلة وارتباك السعودية، وضعف قدرات مصر حاليا على بناء نفوذ مستقل.
ثانيا: مواجهة النفوذ الإيراني ( المزعوم ) ومنع أن تتحول اليمن لقاعدة خلفية لإيران تهدد أمن الإمارات. كما أن ذلك يتصل بالعامل الأول حيث لن تكون الإمارات مطمئنة لأي نفوذ إيراني على باب المندب.
ثالثا: ضمان عدم وجود دور مستقبلي مؤثر لحزب «التجمع المني للإصلاح». وذلك ضمن التقدير الإماراتي العام لخطورة عودة «جماعة الإخوان» إقليميا لممارسة دور في توجيه السياسة بالمنطقة.
رابعاً: القضاء على تنظيم «القاعدة» في اليمن كونه أيضا يمثل تهديدا مباشرة من وجهة النظر الإماراتية.
ومن ثم لا يمثل تقسيم اليمن تهديدا للإمارات، بل ربما يكون هو خيارها المفضل بالنظر لكونها بالفعل استطاعت بناء نفوذ عميق في الجنوب، وتمتعت بشراكة كبيرة مع الولايات المتحدة في مسألة مواجهة تنظيم «القاعدة»، عززت من دورها وشرعية تواجدها. وسيكون عليها دعم الانفصال في حال كان بقاء اليمن موحدا يهدد نفوذها في الجنوب أو يضر بمصالحها الموضحة أعلاه.
المصالح السعودية في اليمن
وبخلاف الإدراك الإماراتي الواضح لمصالحها في اليمن، فإن السعودية تعرف فقط ما لا تريده، وهو وجود إيراني على حدودها الجنوبية.
لكنها في الواقع وفيما عدا هذا تبدو شديدة الارتباك، ولا تملك تصورا واضحا لما تود أن يكون عليه اليمن، وما إذا كان من مصلحتها التقسيم أم لا.
وحتى الآن لا يبدو خيار التقسيم مرحب به من السعودية، لكن ليس من المستبعد أن تسكت عنه في ظل الحسم الإماراتي، وحاجة الرياض للإمارات كحليف عسكري في اليمن خاصة مع عدم قدرة السعودية على الحسم بصورة منفردة.
كما أن تعقد العلاقات السعودية الإماراتية وتشعب المصالح في ملفات أخرى سيجعل موقف السعودية من الإمارات في اليمن مرتبطا بالمساومة على ملفات أخرى، منها مثلا حاجة ولي ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» (31 عاماً) للدعم الإماراتي في اعتلاء سدة الحكم خلفا لوالده الملك «سلمان بن عبد العزيز» (81 عاماً).
فالمملكة في موقف لا تحسد عليه؛ إذ تتحرك القيادة السعودية في الملف اليمني، وهي مكبلة بطموح «بن سلمان» للجلوس على العرش، وهو الطموح التي كان دافعا في الأساس لدخول الرياض في الحرب باليمن، تحت قيادة الأخير، والهدف كان المشهد الأخير وهو الانتصار في اليمن، ليظهر الأمير الشاب في حلة «القائد الظافر»، الجدير باعتلاء العرش.
وبدون دعم الإمارات، التي باتت متغلغلة في اليمن وصاحبة ارتباطات واسعة بالعديد من الأطراف الرئيسية في هذا البلد، لن يتمكن «بن سلمان» من ارتداء حلة «القائد الظافر».
الإمارات تتسلح بالضوء الأخضر الأمريكي
ومما يساعد الإمارات على التحرك بأريحية في اليمن الضوء الأخضر الأمريكي، التي حصلت عليه بعد وصول «دونالد ترامب» إلى الحكم؛ فالأخير يتشارك مع قيادات الإمارات في العداء الشديد لجماعات الإسلام السياسي، وخاصةً جماعة «الإخوان المسلمين»، وكلاهما يضع صوب عينيه القضاء على تنظيم «القاعدة» باليمن.
أيضا، من صالح أمريكا استمرار الصراع في اليمن لفترة أطول؛ فوقود الحرب هو السلاح، والسلاح بالضرورة من أمريكا، الذي تعد مبيعاته أحد الأعمدة الرئيسية للاقتصاد الأمريكي.
وكانت وكالة «رويترز» نقلت عن مصادر مطلعة إن «ترامب» يحمل في زيارته للسعودية المقررة في 21 مايو/أيار الجاري، عقود سلاح بعشرات المليارات من الدولارات، يعتزم توقيعها مع المملكة.
وما يؤكد تقارب الرؤية الإماراتية مع الأمريكية في اليمن، دعم الولايات المتحدة للتحرك الإماراتي عسكرياً ضد «القاعدة» في شرقي اليمن؛ بل التنسيق معها بعيدًا عن السعودية. إذ قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، النقيب «جيف ديفيس» إن «قوات أمريكية قدمت دعمًا استخباريًّا، إضافة إلى المساعدة في التخطيط العملياتي للقوات الإماراتية المتواجدة في محافظة حضرموت».
وربما التفويض الأمريكي هو ما يفسر الجرأة الإماراتية على الحليف السعودي في اليمن، والسلطة الشرعية في هذا البلد العربي، والتحرك في كثير من القرارات بشكل منفرد، والإعلان عن النوايا والمخططات دون مواربة كما كان الحال في السنوات الماضية.
في ظل هذا الحال ليس من المستبعد أن تستمر سياسة فرض الأمر الواقع الإماراتي في اليمن مقابل صمت وتغافل سعودي. وفي ظل جدية الإمارات في الدفاع عن مصالحها قد لا تجدي سياسة السعودية القائمة على محاولة احتواء الخلاف بين أبوظبي و«هادي».
السعودية إذن تدفع الآن ثمن ترك الجنوب للإمارات؛ حيث بات الجنوب عسكريا تحت سيطرة أبوظبي والميليشيات الانفصالية الموالية لها حتى أن محافظ عدن الجديد «رياض المفلحي» المعين من قبل هادي لم يتمكن من دخول مقرات الحكم في الجنوب ورفضت الحراسة استقباله فعاد إلى السعودية خلال 48 ساعة فقط.
المصدر / الخليج الجديد