2024-11-26 06:38 م

باسل الأعرج شهيداً: «النبي المقاتل»

2017-03-08
مي رضا
كان يعلم من بين ستة خطفهم أمن السلطة الفلسطينية وأخفاهم العام الماضي، أن إفراج الأخيرة عنهم من سجونها ليس سوى «إجازة منزلية» قصيرة سرعان ما سيأتي العدو الإسرائيلي ليأسرهم بعدها في سجونه. حدث ما توقّع، واعتُقل رفاقُه الخمسة، فيما بقي هو مطارداً. أصلاً، لولا قليل من «بريستيج» الوطنية، لكانت السلطة قد سلّمتهم مباشرة للعدو. من يعرف باسل الأعرج، يفهم لماذا اختار هذا الشاب أن يبقى مطارداً. فمن أعلن سابقاً رفض «ذلّة الاحتلال»، لن يقبل الأسْر. باسل، الاسم الذي صار أشهر من نار على علم، وأثبت أن الانتفاضة لا تزال حية وتنتظر من يشعلها كما أخواتها التي سبقتها، ضرب «النبي المقاتل» نموذجاً من التحدي في مواجهة أجهزة أمن السلطة، بعدما خاض ورفاقه إضراباً وعناداً أدّيا بهما إلى التحرّر من سجونها.
يوم أمس، ختم باستشهاده مسيرة شاب مثقف، بعد اشتباك لنحو ساعتين، اختلطت في نهايته دماؤه بما بقي لديه من كتب وكوفية رفض أن تغادره حتى في أيام تخفّيه، تاركاً بذلك «انتفاضة القدس» أمانة لدى الشباب. في خلال تظاهرات مخيّم الدهيشة، هتف المشاركون «قولوا لكلاب الشاباك... جايّ جايّ الاشتباك»... علّ دمك يُنبت الاشتباك يا باسل.

رام الله | لم تكن حكاية الشهيد الفلسطيني باسل الأعرج مع المطاردة والملاحقة الإسرائيلية سوى الفصل الأخير من قصته بعد الإفراج عنه من سجون السلطة الفلسطينية، في أيلول الماضي، عقب إضراب خاضه عن الطعام برفقة خمسة من أصدقائه، هم اليوم يقبعون في سجون العدو الإسرائيلي؛ قبل ذلك، كان لباسل «صولاته» الثقافية والحراكية قبل أن تتهمه السلطة بالإعداد لعمليات عسكرية بمساعدة «دولة أجنبية»، في إشارة إلى إيران وكذلك حزب الله.

الأعرج (33 عاماً) هو إحدى ضحايا التنسيق الأمني الذي تمارسه رام الله جهاراً نهاراً، بل تقدسه، من دون أن يكون للجمهور الفلسطيني ردّ فعليّ عليه، وهو كان أحد الذين عبّروا ــ بالمشاركة في تأسيس «الحراك الشبابي الشعبي» ــ عن رفضهم لتقاعس بقية الفصائل عن أخذ دورها في «انتفاضة القدس»، التي كان يسميها «الانتفاضة المظلومة». وتعود جذور الأعرج إلى قرية الولجة شمال غرب بيت لحم، وفي بداياته اشتهر بأنه ناشطٌ شبابي في رفض التطبيع والتعايش مع الاحتلال، علماً بأنه نال شهادة البكالوريوس في الصيدلة من إحدى الجامعات المصرية، ثم عمل بالصيدلة في مخيم شعفاط في القدس لمدة قصيرة.
يقول أحمد شحادة، وهو أحد أقربائه، إن باسل رفض الانتقال من سجن إلى آخر، في إشارة إلى علمه بنية العدو اعتقاله بعد خروجه من سجن أريحا عقب ستة أشهر من الاختفاء والاعتقال. ويتضح هذا، كما يضيف شحادة، من رفضه الخروج بصحبة أقربائه عند الإفراج عنه في الثامن من أيلول الماضي، إذ أصرّ على العودة إلى المنزل وحيداً رغم إلحاح العائلة. منذ ذلك الوقت لم يعد، بل اختفى وانقطعت أخباره، ثم لم يُعرَف مصيره حتى يوم استشهاده.
ومن أبرز الفعاليات التي سطع فيها نجم الأعرج المظاهرات الاحتجاجية على زيارة كانت مقررة لوزير الأمن الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز خلال عام 2012 إلى الضفة، وتعرض للضرب آنذاك على يد أمن السلطة، كما نشط في حملات مقاطعة الاحتلال. وكان قد شرع خلال السنوات الثلاث الماضية في مشروع «توثيق محطات الثورة الفلسطينية» منذ ثورة عام 1936 وصولاً إلى انتفاضة الأقصى عام 2000، وأطلق لهذا الغرض رحلات ميدانية استهدفت زيارة المناطق التي وقعت فيها العمليات والمعارك الفدائية، مثل: موقع عملية زقاق الموت التي نفذها ثلاثة مقاومين من «حركة الجهاد الإسلامي» في الخليل عام 2002، ومعركة الولجة في بيت لحم، ونموذج ريف جنين في جدوى المقاومة، وغيرها.
في موازاة ذلك، حرص الأعرج على تنظيم ندوات تثقيفية في عدد من محافظات الضفة، كما نشط في «دائرة سليمان الحلبي» التي كانت تنظم محاضرات وطنية وتاريخية، وتناقش مواضيع تخص الفكر المقاوم. كذلك كان يحرص على أن يكتب باستمرار في عدة مواقع فلسطينية عدداً من المقالات المتنوعة، التي تتمحور حول مواجهة الاحتلال وأمن المقاوم، ومن بينها مقالة تعكس شخصيته المثقفة كباحث ومؤرخٍ، عنوَنها بـ«عش نيصاً... وقاتل كالبرغوث».
والد الشهيد وصف مرحلة مطاردة نجله بالصعبة على العائلة، متحدثاً عن اقتحامات العدو المتكررة لمنازل معظم أقربائه خلال البحث عنه. وأوضح الأب لعدد من الصحافيين أن العائلة توقعت استشهاد باسل منذ تهديد مخابرات الاحتلال بتصفيته وبردّ قاسٍ إذا لم يُسَلّم نفسه، فيما قال شقيقه سعيد عنه: «اخترت أن تكون مقاوماً وأن تموت شهيداً مقبلاً مشتبكاً لا خانعاً... لم تسلم لهم، ومثلك لا يعرف التسليم».
وقد استشهد الأعرج أمس في مدينة البيرة، وسط رام الله، عقب خوضه اشتباكاً مسلحاً استمر ساعتين، فيما قالت مصادر إسرائيلية إن الأعرج قُتل في تبادل لإطلاق النار مع أفراد وحدة «يمام» الخاصة، خلال تحصّنه في شقة سكنية قرب مسجد البيرة الكبير.
في السياق نفسه، ذكرت مصادر خاصة لـ«الأخبار» أن الأعرج كان قد استأجر شقة سكنيّة منتحلاً شخصية سائح أجنبي، ومكث فيها منذ نحو شهرين ونصف شهر حتى استشهاده. وخلال الاقتحام، كان قد تحصّن في سدّة الشقة داخل مساحة ضيقة فوق الحمام عند محاصرة الوحدة الخاصة مكان وجوده، فيما قال شهود عيان إن مئات الطلقات النارية والشظايا خلّفها الاشتباك، وعُثر على آثارها في معظم المنزل، إلى جانب حذاء وكوفية وكتب من مقتنيات الشهيد.
كذلك، تحدث الشهود عن سحل جنود العدو جثمان الشهيد، إذ جرّه الجنود من قدميه خارج المنزل، ثم احتجزوا جثمانه ونقلوه في إحدى المركبات العسكرية نحو منطقة «عوفر». وكانت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية قد نشرت صوراً تشير إلى العثور على قطعتي سلاح من نوع «إم ــ 16»، وأخرى «كارلو» محلية الصنع في الشقة، فضلاً عن كمية كبيرة من الرصاص الفارغ، وسلسلةٍ متنوعة من الكتب والمجلات، مثل: القرآن الكريم، وفكر غرامشكي، ومجلتي «العربي» و«الدراسات الفلسطينية»، ورواية المسكوبية، وغيرها.
رحل باسل تاركاً وصيته على عجالة في ساحة المعركة، وتم العثور عليها بخط يده بين كتبه ودفاتره، وكانت قصيرة للغاية. ومن أبرز مقولاته التي تداولها آلاف الفلسطينيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي: «كل ما تدفعه في المقاومة إذا لم تحصده في حياتك، ستحصل عليه لاحقاً، المقاومة جدوى مستمرة»، وأيضاً مقولته الشهيرة خلال ندوة في جنين العام الماضي: «بدك تصير مثقف، بدك تصير مُشتبك، ما بدك مُشتبك، بلا منك وبلا من ثقافتك».
في غضون ذلك، صدر بيان عن «الحراك الشبابي الشعبي» ينعى «أحد أهم قادته المؤسّسين في الضفة الشهيد القائد باسل الأعرج». وقال البيان إن الأعرج «لحق بركب أبناء الحراك، فبالأمس القريب كان أحد أهم قادة الحراك الشبابي الشعبي في القدس الاستشهادي القائد مصباح أبو صبيح قد نفذ عمليته البطولية في قلب القدس المحتلة، واليوم (أمس) الشهيد القائد باسل الأعرج يرفض تسليم نفسه للاحتلال ليرتقي شهيداً»، وهي الإشارة الأولى لتبنّي عملية الشهيد أبو صبيح بصورة رسمية.
يُشار إلى أن وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، كان قد أصدر قراراً بحظر «الحراك» في القدس وسائر مدن الضفّة، بعد توصية من جهاز الأمن العام (الشاباك)، وفقاً لتعليمات قانون الطوارئ الإسرائيلي. وقالت وزارة الأمن آنذاك في بيان (تشرين الثاني الماضي)، إن القرار اتخذ بعد جمع معلومات تفيد بأن «الحراك يعمل بتوجيهات من إيران وحزب الله بهدف تنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيليّة، إضافة إلى تحريض سكّان الضفّة والقدس على التظاهر بعنف ضد الاحتلال والسلطة الفلسطينيّة». بالتزامن مع ذلك، كان أمن السلطة قد اعتقل مجموعة من الشباب باتهام أنها تنتمي إلى «الحراك» وتمتلك مجموعة من الأسلحة ويترأسها باسل محمود الأعرج، الذي اتهم بأنه التقى مسؤولين في حزب الله في الخارج، فيما نقل عن أصدقاء المعتقلين من المجموعة أن ما كتبه أمن السلطة عنهم وجدوه مسلماً للعدو حرفياً.