2024-11-23 10:47 م

مؤتمر الاستانة .....بعض الملاحظات

2017-01-26
بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني
المؤتمر الذي عقد في الاستانة عاصمة كازاخستان لبحث الازمة السورية وخاصة فيما يخص تثبيت وقف الاعمال القتالية على الأراضي السورية وتشكيل لجنة لمراقبة التزام كل من الدولة السورية والجماعات الإرهابية المسلحة التي ارتضت بالحضور بعد أن مارست تركيا على الأخص نوع من الضغوط على بعض المجموعات المسلحة التي تقع تحت سيطرتها أثار اهتمام العديد من رجال الصحافة والإعلاميين والمتابعين للازمة السورية والمراحل المتعددة التي مرت بها، كما يستدل عليه من وجود ما يقارب من 300 صحفي واعلامي ينتمون الى وسائل إعلامية متعددة إقليمية ودولية. ولا شك أن هذا المؤتمر جاء متزامنا مع الانتصار الذي حققه الجيش العربي السوري وحلفاؤه في حلب واستمرار تقدمه في العديد من المناطق. هذا الى جانب نجاح عمليات المصالحة التي تمت في مناطق متفرقة التي أدت الى تسوية أوضاع الالاف من المسلحين وعودتهم الى الحضن الدافىء للوطن السوري بعد ان تبين لهم وبشكل لا يقبل الشك انهم هم وعائلاتهم ضمن دائرة الاستهداف لهذه الحرب الكونية التي تشن على الوطن الام. ولا شك أن هذا المؤتمر شكل نقلة نوعية الى حد ما في التعاطي مع الازمة السورية سواء على المستوى الإقليمي أوالدولي في آن واحد. فالدول الراعية لهذا المؤتمر والتي تضمنت روسيا وايران وتركيا هي دول فاعلة على الأرض السورية ولها تأثير كبير على الاحداث الجارية في سوريا والتي لم تعد خافية على أحد. فروسيا وإيران هما الدولتان الداعمتان للدولة السورية ومؤسساتها الشرعية والجيش العربي السوري في محاربته للمجموعات المسلحة الإرهابية العاملة على الأراضي السورية. بينما تركيا وقفت وما زالت الى حد كبير داعمة للمجموعات الإرهابية العاملة على الأراضي السورية وما زالت تقدم الدعم اللوجيستي والطبي وتمدهم بالسلاح عبر أراضيها وما زالت تفتح الحدود لتحركاتهم. ولقد استطاعت تركيا لملمت ما يقرب من 14 مجموعة من المجموعات المسلحة التي تدعمها وأجبرتها على الذهاب الى الاستانة بالرغم من تململ بعض هذه المجموعات بجدوى الذهاب الى الاستانة وخاصة ان هذا سيفقدها العلاقات والترابط مع جبهة النصرة الأكثر عدة وعتادا من الكثير من المجموعات المسلحة الإرهابية الأخرى. ولقد رضخت بعض المجموعات للإرادة التركية بالذهاب بينما رفض البعض المشاركة في هذا المؤتمر. وما يميز هذا المؤتمر عن مؤتمرات جنيف السابقة للبحث في الحلول للازمة السورية هو أولا تواجد المجموعات المسلحة التي وافقت مسبقا على وقف العمليات العدائية مع الوفد الحكومي للدولة السورية في نفس الغرفة وجها لوجه دون وسطاء. بمعنى انه تثبيت لما كان قد نادت به القيادة السورية دائما وأبدا من أن الحوار يجب أن يكون سوريا- سوريا. هذا لا يعني أن الدول الراعية للمؤتمر لم يكن لها دورا في التحدث لكل من الطرفين السوريين للعمل على إنجاح هذا المؤتمر الذي هدف بالدرجة الأولى الى تثبيت وقف الاعمال العدائية على الأراضي السورية. وكان من الضروري ان تمثل المجموعات المسلحة الإرهابية العاملة على الأراضي السورية لضمان الالتزام بما يصدر عن هذا المؤتمر والدول الضامنة لتطبيق نظام وقف الاعمال العدائية المتفق عليه. وثانيا هو غياب الولايات المتحدة عن التحضير لهذا المؤتمر والتواجد بصفة مراقب من الإدارة الجديدة لترامب. فروسيا قد ضاقت ذرعا بالولايات المتحدة تحت إدارة أوباما. فكم من اجتماع عقد بين وزيري الخارجية لافروف وكيري وكم سمعنا من كيري ان هنالك تقدم كبير قد تحقق واننا على قاب قوسين من توقيع اتفاق يتضمن وقف الاعمال العدائية على كافة الأراضي السورية، لنرى تصريحا مغايرا ثاني يوم. ولقد كان من الواضح أولا ان إدارة أوباما كانت تراهن ومن خلال "وقف اطلاق النار" لبضعة أيام هنا وهناك على عرقلة تقدم الجيش العربي السوري وإعطاء فرصة للمجموعات الإرهابية على إعادة تموضعها ودعمها بالسلاح والعتاد ورفدها بمزيد من الإرهابيين للهجوم ومحاولة إعادة السيطرة على الأراضي التي فقدتها لصالح الجيش العربي السوري وحلفاؤه والرهان دائما على تغيير موازين القوى لصالح المجموعات الإرهابية قبل الذهاب الى المفاوضات. وثانيا كان هنالك تناقضات بين الخارجية ومستشاري الرئيس للأمن القومي والبنتاغون وتجلى هذا عندما قامت الطائرات الامريكية بارتكاب مجزرة بقصف مواقع للجيش العربي السوري المرابطة في محيط مطار دير الزور ذهب ضحيتها ما يقرب من 100 جندي سوري، هذا في الوقت الذي كان كيري قد أعلن عن توقيع اتفاقية مع الجانب الروسي لوقف الاعمال العدائية في الأراضي السورية. ان غياب الولايات المتحدة عن التنسيق لهذا المؤتمر والرفض الإيراني لتوجيه دعوة اليها والى حد ما تهميش دورها والاكتفاء بوجودها كصفة مراقب لا شك انه يعزز الدور الإقليمي والدولي الروسي لحل أزمات المنطقة دون الحاجة الى الدور الأمريكي وخاصة كدور ريادي ومفصلي "واستثنائي" في حل أزمات المنطقة. ولا شك أن هذا سيكون له مردودات على حل الازمات في البؤر الساخنة في العالم. وربما التواجد التركي ضمن الترويكا الضامنة للاتفاق يضع عليها التزامات طالما تهربت منها الا وهي الاستمرار في دعم المجموعات الإرهابية، الى جانب التقليل من الدور السعودي التخريبي والمغامر وردع العنجهية والرعونة وخاصة لوزير دفاعها المتهور وخارجيتها الذي لا يمتلك اية لباقة أو خبرة في العمل الدبلوماسي. فالوجود الإيراني القوي في هندسة هذا المؤتمر الى جانب التركي وعدم تواجد الجانب السعودي المباشر ( لا يغرنك وجود علوش المرتبط بالسعودية على رأس وفد المجموعات الإرهابية المسلحة) من المؤكد انه سيحجم الدور الإقليمي السعودي. ولا شك أن آل سعود يشعرون بهذا التطور النوعي الجديد في المنطقة وخاصة فيما يخص الازمة السورية، فلم يعد بمقدورها ضمن المعطيات الواقعية الجديدة أن تفرض تهميش الدور الإيراني الإقليمي. كما أن مجيء إدارة أمريكية لا تكن الود الى آل سعود، وتصريحات ترامب بشأن محاربة الارهاب في سوريا والتعاون مع روسيا في ذلك سيزيد من تقليص الدور التدميري الذي لعبته العائلة السعودية في المنطقة. أما النقطة الثالثة التي ميزت هذا المؤتمر هو التأكيد على محاربة المجموعات الإرهابية من داعش والنصرة وغيرها. لقد تم تثبيت وتبني محاربة جبهة النصرة بمعنى أنه تم الفصل بين المجموعات "المعتدلة" وهذه المجموعات المصنفة إرهابية بحسب القرارات الأممية. ولم ننسى عمليات المماطلة والتهرب من قبل السيد كيري والإدارة الامريكية من عملية الفصل بين هذه المجموعات الإرهابية والمجموعات التي تعتبرها الولايات المتحدة ب"المعتدلة"، والتي كانت احدى الشروط الأساسية لتثبيت وقف العمليات العدائية على الأراضي السورية. وهذه المماطلة المتعمدة كانت لإعطاء الغطاء للمجموعات "المعتدلة" بحسب المقاسات الامريكية للتعاون مع جبهة النصرة لتحقيق اية خروقات من شأنها ان تحقق تغيرا ملموسا على الأرض يمكن استثماره لاحقا على طاولة المفاوضات. أن تبني المجموعات المسلحة التي حضرت المؤتمر في أستانا للبيان الختامي للدول الراعية والضامنة يعني فيما يعنيه وقف أي تنسيق أو ارتباط مع النصرة وداعش أو الاشتراك في أية عمليات معها في محاربة الجيش العربي السوري أو حلفاؤه على الأرض. كما وأنها تعني أصبح لزاما عليها أن تحارب هذه المجموعات الإرهابية. وهذا يعد بمثابة اختبار لمدى جدية التزامها بالبيان الختامي للمؤتمر، ليس هذا فحسب بل هو أيضا يعد اختبارا أيضا للموقف التركي ومدى تأثير تركيا على هذه الجماعات المرتبطة به مباشرة. أما النقطة الرابعة التي ميزت هذا المؤتمر فهي تشكيل آلية ثلاثية لمراقبة وقف الاعمال العدائية مكونة من روسيا وايران وتركيا وهي الدول الضامنة للاتفاقية. وهذا مغاير لما كان عليه الحل مع المفاوضات المكوكية والتفاهمات الامريكية الروسية التي بالرغم من كثرتها لم تحقق أي شيء ملموس على الأرض لعدم جدية الإدارة الامريكية السابقة وعدم رغبة البنتاغون بالتنسيق على الأرض مع القوات الروسية. وخامسا فان المؤتمر كسر احتكار اللجنة العليا للمفاوضات ( السعودية) بتمثيل المعارضة السورية فلم توجه اية دعوة لها لحضور هذا المؤتمر ولو بصفة مراقب. نعم ان الهدف الرئيس لهذا المؤتمر كان لتثبيت وقف العمليات العدائية ولكن لا شك ان هذا سيكون له تأثير على لمن توجه الدعوات في المرحلة المقبلة في مؤتمر جنيف المفترض عقده في أوائل الشهر القادم تحت رعاية الامم المتحدة لبحث الازمة السورية. بالرغم من ميزات هذا المؤتمر الذي أكد بيانه الختامي على العديد من النقاط الهامة بما فيه احترام سيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها، والاعتراف بالدولة السورية المتعددة الاطياف والمكونات العرقية والدينية، ومحاربة الارهاب الممثل بتنظيمي داعش والنصرة والمجموعات المرتبط بها، ودعم الحوار السوري السوري والحل السياسي الى جانب العمل على تثبيت وقف الاعمال العدائية وتشكيل الية ثلاثية لمراقبتها وجميعها نقاط إيجابية، الا انه لا يزال الوقت مبكرا للحكم الى ما ستؤول اليه الأمور في المستقبل القريب وخاصة فيما يتعلق بتطور الوضع الميداني على الارض والتسوية السياسية القادمة. لا بد لنا من طرح بعض الملاحظات بهذا الشأن. كان من المحبذ عدم اسقاط العلمانية عن الدولة السورية في البيان الختامي وهي الهوية التي أكدت عليها مؤتمرات جنيف والقرارات الدولية. وكان هذا بحسب ما صرح به رئيس الوفد الحكومي السوري الدكتور بشار الجعفري كان تحت ضغط من قبل تركيا ولا شك ان هذا يعكس الطبيعة الاخوانية للمجموعات المسلحة التي حضرت المؤتمر. ولهذا فمن المفترض على أن يعاد التأكيد على علمانية الدولة السورية في مؤتمر جنيف القادم. المجموعات المسلحة التي استطاعت تركيا أن تقودها الى الاستانة لم تتجاوز 14 فصيلا فقط والسؤال الذي يطرح الان ماذا عن بقية الفصائل (باستثناء داعش والنصرة) التي لم تنضم بعد الى اتفاقية وقف الاعمال العدائية؟ هل ستبقى خارج الاتفاقية أم ستنضم اليها لاحقا؟ عدم انضمامها يعني ببساطة أنها ستكون عرضة لضربها من قبل الجيش العربي السوري وحلفاؤه وربما بقصف جوي روسي. واذا ما أخذ بعين الاعتبار أن بعض هذه الفصائل مدعومة من تركيا مثل حركة نور الدين زنكي ماذا سيكون الموقف التركي؟ وماذا عن الحدود التركية التي ما زالت مفتوحة ومن خلالها ما زال الدعم للمجموعات المسلحة والارهابية متواصلا؟ وغلق الحدود التركية كان احدى مطالب الدولة السورية منذ البداية وعدم تضمين البيان الختامي لهذا يثير الشكوك حول الموقف التركي. نحن نعي ان انضمام تركيا الى روسيا وايران في التحضير لمؤتمر الاستانة جاء نتيجة عوامل داخلية وخارجية ضاغطة على أردوغان وحكومته. وليس من المستبعد أن يكون أردوغان يريد أن يلعب على عامل الوقت لتحقيق عودته الى الدور الإقليمي الفاعل من بوابة الاستانة ومع انتظار ماذا ستكون عليه موقف الإدارة الامريكية الجديدة في البيت الأبيض. هذا بالإضافة الى إعطاء المجموعات الإرهابية المسلحة المدعومة من قبله فترة إعادة التموضع والتحضير لجولة أو جولات جديدة في قتال الجيش العربي السوري ومحاولة قضم أجزاء من الأراضي السورية تحت ذريعة محاربة الارهاب. ولن نستغرب الى أن أردوغان قد يراهن كغيره على إيجاد شرخ بين روسيا وايران في الملف السوري. لا شك أن مؤتمر الاستانة سيكون له مردودات على إعادة تموضع بعضها على الأقل فيما يخص العلاقات مع جبهة النصرة على وجه التحديد وبين المجموعات التي حضرت ولم تحضر. ولقد رأينا سابقا معارك طاحنة بين هذه الفصائل على النفوذ والغنائم وقام بعضها بتصفية قيادات البعض الاخر. والان نشهد معارك بين جبهة النصرة وفصائل أخرى في ادلب ولا شك ان دائرة القتال والتصفيات الجسدية ستتسع في الفترة القادمة. نعم ان مؤتمر الاستانة كان إيجابيا من حيث انه شكل منطلقا ومنصة لبدء حوار سوري- سوري أو هكذا يأمل العديد من اللذين قلوبهم مليئة بمحبة الوطن السوري وشعبه الابي ومحبة الإنسانية ويسعون الى تحقيق السلام في العالم والاستقرار في منطقتنا لصالح شعوبها. ولكن في تقديري المتواضع وكما أثبتت الوقائع في سوريا والعديد من المناطق في العالم أن الوضع الميداني يبقى بالدرجة الأولى هو الذي يتحكم ويمهد لنوعية وهوية أي عملية تسوية سياسية قادمة. ونحن إذ ننظر الى حجم التضحيات الجمة التي قدمها الشعب السوري والجيش العربي السوري وحلفاؤه والصمود الأسطوري للوطن السوري أمام أكبر هجمة بربرية كونية فاقت كل التصورات والتقديرات، نقول ان هذا الشعب يستحق الحياة في ظل دولة علمانية تعيش تحت مظلتها كل المكونات بكافة أطيافها ضمن الفسيفساء التي عرفتها الدولة السورية قبل الازمة. وهذا الشعب هو الوحيد من يقرر مصيره وشكل الدولة وهويتها وقيادتها السياسية من خلال انتخابات حرة نزيهة، وليس حفنة الخونة والمرتزقة الذين تاجروا بالدم السوري وبالوطن السوري من أجل حفنة من البترودولار، والمتسولين على اعتاب ملوك وامراء وشيوخ لم تعرف الديمقراطية يوما ولا تملك دستورا وتنصب نفسها الحاكم والمتحكم برقاب مواطنيها أو رعاياها.