كانت السودان دوما بوابة أفريقيا التي لا تستطيع أية قوة عالمية أو إقليمية أن تلج إلى أفريقيا إلا من خلالها، والتاريخ يحدثنا عن تلك المحاولة الفاشلة للإمبراطورية الفارسية للدخول لأفريقيا عبر شمال السودان أيام “كورش الكبير”، وكيف أن الجيش العظيم تاه في الصحراء واختفى للأبد تحت رمالها، وفشل التمدد الفارسي بأفريقيا، وكذلك يحكي لنا فشل الفتح الإسلامي في الدخول للسودان عنوة تحت وابل رماة الحدق؛ مما دفعهم لتوقيع البقط وإدخال الإسلام للسودان صلحا، ومن ذلك المكان بدأ تمدد الإسلام في أفريقيا سلما لا حربا.
وهذا كان في التاريخ البعيد، أما في التاريخ القريب فمنذ فقدت مصر السودان باستقلاله فقدت معه نفوذها في أفريقيا، وما إن توثقت العلاقات الدبلوماسية ما بين إيران الثورة وحكام الخرطوم حتى تمدد الإيرانيون بقوة في الفضاء الأفريقي، ومن الخرطوم حتى وهانسبرغ واستطاعوا تصدير “ثورتهم” إلى تلك البلاد، واتخاذ تلك الدول الأفريقية سوقاً تجارية لبضائعهم، والأمر ذاته ينطبق على الأتراك الذين دخلوا إلى أفريقيا أول مرة عبر السودان في أول الألفية، ثم ما لبث به الأمر أن انتشروا في مختلف أنحاء القارة حتى إن نفوذ الأتراك بدى مساويا للنفوذ الإيراني أو يزيد، وكذلك الحال بالنسبة للصين التي دخلت لأفريقيا عبر السودان مستثمرة في استخراج النفط، ومن السودان تمددت إلى كل أفريقيا؛ لتصبح الشركات الصينية الخمس الكبرى مسيطرة على نفط 18 دولة أفريقية.
حسب أغلب القارئين للسياسة الدولية كانت المملكة العربية السعودية حتى وقت قريب زعيمة العالم الإسلامي بلا منازع؛ نظراً لاحتوائها على أقدس البقاع في نظر جميع المسلمين وهي مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولكن مع الوقت بدأ يظهر للسعودية منافسون جديدون في هذه الزعامة كالإيرانيين والأتراك، ساعدتهم في هذا سياسات “العزلة” التي وضعتها السعودية على نفسها بعد حرب الخليج الثانية، ثم انسحابها الكامل من قيادة المشهد الإسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ خوفا من تحملها نتائج ما يفعله المتطرفون “الإسلاميون” كالقاعدة وداعش ومن سار على دربهم، وهذا ما دفع إيران وتركيا لتصدر المشهد والتحدث باسم المسلمين وقضاياهم من بورما شرقا حتى أفريقيا الوسطى غربا، فالإيرانيون لا يملون من الحديث عن المستضعفين وضرورة دعمهم، بينما يرئ العالم رئيس وزراء تركيا وزوجته وهو يذرف الدموع على أطفال بورما أمام الكاميرات.
ونجحت السعودية بإشراك السودان مع التحالف العربي في عاصفة الحزم، وتوجت العلاقات السودانية السعودية بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في الخرطوم، وسحب السفير السوداني من إيران
ومع كل ملك في السعودية تبدأ سياسة جديدة، وتُطوى سياسة قديمة، ومنذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود للسلطة في مطلع عام 2015م بدأت سياسة الانفتاح على الدول الإسلامية، والاعتماد عليها بدلا من انتظار الحلفاء الغربيين الذين أثبتوا خذلانهم للمملكة وخيانتهم لها عبر توقيعهم الاتفاق النووي الإيراني دون ضمان أمن دول الخليج وتحجيم نفوذ ميلشيات إيران؛ مما يعطي انطباعا أن الغربيين عينوا الإيرانيين شرطيا لهم على الخليج.
وعودة السعوديين لزعامة العالم الإسلامي كانت تتطلب منهم فتح صفحة جديدة مع الدول الإسلامية، واستقطابها لصالح مشروعهم السياسي الأمني الذي يرتكز على تدمير الإرهاب باعتباره خطرا يهدد استقرار المجتمعات المسلمة، وتحجيم النفوذ الإيراني بجعله محصورا تحت حدود الدولة الإيرانية، وكانت السودان من الدول التي عملت السعودية إلى استقطابها لهذا المشروع، ونجحت السعودية بإشراكها مع التحالف العربي في عاصفة الحزم، وتوجت العلاقات السودانية السعودية بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في الخرطوم، وسحب السفير السوداني من إيران؛ تضامنا مع المملكة بعد حادثة الاعتداء على مقر السفارة السعودية في طهران من قبل محتجين موالين للنظام الإيراني.
انعكس التقارب السوداني السعودي الكبير على مجمل علاقات المملكة بالدول الأفريقية، فحسب ما أكد به مدير مكتب الرئيس السوداني الفريق طه عثمان للصحافة، فقد كانت زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي للسعودية في العام قبل الماضي نتيجة لتنسيق سوداني سعودي؛ من أجل سحب أفورقي من المربع الإيراني للمربع السعودي، وكذلك الحال مع موريتانيا وإثيوبيا، فقد قامت الخرطوم بفتح خط الاتصال معهم واستقطابهم، بل إنه يحكي -والكلام على لسانه- أنه سافر بنفسه مع مدير المخابرات السعودية إلى إثيوبيا، والتقوا رئيس الوزراء الإثيوبي ليحدث اختراق في العلاقات الإثيوبية السعودية أعقبتها زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي للسعودية وإعلان دعمه لعاصفة الحزم، وقال الفريق طه: إن السودان نظم عشرين زيارة رئيس أفريقي للمملكة، وأنه ساعد في ترميم العلاقات بين جنوب أفريقيا والسعودية؛ حيث كانت تشهد فتورا من زمن، وأثار انتباهي قول الفريق طه: إن كل الرؤساء الأفارقة يعتبروننا أفضل الطرق للتواصل مع المملكة، وأننا مفتاح للتعاون مع السعودية.
تصريحات مدير مكتب الرئيس السوداني ومبعوثه الخاص تشير بوضوح لنقلة في العلاقات السودانية السعودية لمرحلة التحالف الاستراتيجي، وكذلك تشير إلى نقلة كبرى في التفكير الاستراتيجي لدى حكام المملكة بإعطائهم القارة الإفريقية وزنا نوعيا في سياستهم الخارجية، ويصدق هذا الأمر حضور وزير الخارجية السعودي عادل الجبير شخصيا لقمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة وتفعيل دور المملكة كمراقب في الاتحاد؛ مما يعني تطورا نوعيا في العلاقات السعودية الأفريقية.
قديما كان المحللون يتحدثون عن غزو صيني وإيراني وتركي لأفريقيا، ويبدو أننا سنسمع قريبا عن الغزو السعودي لأفريقيا، ذلك الغزو الذي إن تم فسيكون على حساب دول كثيرة أبرزها إيران التي تلقت ضربة قاسية قبل عام بسحب سفرائها من دول القرن الأفريقي؛ حيث استثمرت في العلاقات معهم كثيرا، لكن كل ذلك تبخر مع أول مواجهة فعلية مع السعودية.