بالتوازي مع الظرف الأمني الدقيق الذي تشهده تركيا، سواء من ناحية الهجمات الإرهابية ولملمة فوضى محاولة انقلاب العام الماضي، أو استغلال هذه المحاولة في لجم أي محاولة للخروج عن ما أراده رئيس تركيا، أردوغان، والمتمثل في تحويل نظام الحكم في تركيا من برلماني لرئاسي، ليوافق البرلمان التركي على مشروع قانون يمهد لهذا التحول الكبير ليعطي لأردوغان صلاحيات واسعة لم يحوزها من قبل سو مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال آتاتورك، ويمهد لتغير دستور البلاد.
وبحسب وسائل إعلامية تركية وأجنبية حاز مشروع القانون على النسبة القانونية المطلوبة لإحالته للمرحلة التالية لمناقشته طبقاً للوائح وقواعد البرلمان التركي، حيث حاز المشروع على 399 صوت من إجمالي 550، بتحالف بين “العدالة والتنمية” الحاكم وذو الأغلبية البرلمانية، وبين حزب “الحركة القومية” الي يحوذ نسبة 14% من مقاعد البرلمان. وبالتالي تفتح باب المناقشة حول تفاصيل وآليات القانون الذي سيفضي للبت في حزمة الإصلاحات والتعديلات على الدستور التركي، ومن ثم عرضها للاستفتاء العام في إبريل القادم. وذلك في ظل حالة الطوارئ المفروضة منذ منتصف يوليو الماضي، والتي تم تمديدها على أثر موجة التفجيرات والهجمات الإرهابية التي شهدتها تركيا من أواخر العام الماضي وحتى مطلع الشهر الجاري.
ومن جملة التعديلات المقترحة على البرلمان التركي تمديد مدة ولاية الرئيس لسبع سنوات بدلاً من خمس سنوات، بما يعني حال إقرارها أن يبقى أردوغان رئيساً للبلاد حتى 2029 بدلاً من 2024، إلغاء منصب رئيس الوزراء، إطلاق سلطة الرئيس في تعيين الوزراء مباشرة، السلطة العليا على القضاء، السلطة العليا على القوات المسلحة وقوات الأمن وأجهزة الاستخبارات بموجب حقه المطلق في فرض حالة الطوارئ دون الرجوع للبرلمان، بالإضافة إلى حق الرئيس تعيين نواب له دون الرجوع للبرلمان.
ونقلت صحيفة “زمان” التركية المعارضة أن التعديلات التي يؤسس لها مشروع القانون الذي وافق عليه البرلمان، تؤكد بقاء انتساب الرئيس وعلاقته بحزبه أثناء توليه لمنصبه، وهو ما يخالف معظم دساتير الدول التي تعتمد النظام الرئاسي في الحكم، بما فيها الدستور التركي الحالي الذي يحظر على الرئيس الاستمرار في مباشرة مهامه الحزبية عقب فوزه بمنصب الرئاسة، بصفة أنه أصبح رئيساً لجميع الأتراك وليس حزبه فقط.
وأشارت الصحيفة التركية إلى انتقادات أحزاب المعارضة لتفاصيل هذه التعديلات وخاصة المتعلقة بشكل العلاقة بين الرئيس وحزبه وآلية اختياره لوزرائه، كذلك علاقته بالبرلمان والقضاء بعدما –حال إقرار التعديلات- أصبحت الرئاسة تفوق من حيث الصلاحيات سلطة كل منهما.
وطبقاً لتسلسل الأحداث منذ بداية العام الماضي، بما في ذلك محاولة الانقلاب الفاشلة وتداعياتها في الداخل والخارج، واستثمارها من جانب رئيس تركيا في لجم المعارضين له في الحزب والحكومة ومؤسسات الدولة، وتقليم أظافر المعارضة والمعارضين لسياسات، فإن أردوغان يسعى منذ توليه الرئاسة في 2014 إلى تغيير النظام الحاكم مع الحفاظ على صلاحيات واسعة على حزبه الذي أنشأه أولاً، وباقي مؤسسات الدولة، كسلطة عُليا ممثلة في شخصه لا يكون فيها رئيس شرفي دون صلاحيات كأي دولة تعتمد النظام البرلماني في الحكم، خاصة مع فشل أو إفشال الإدارة المباشرة بالوكالة من جانبه عن طريق تعيين شخصيات مضمونة الولاء، بما فيها رفيق أردوغان، أحمد داود أوغلو، الذي تم عزله بشكل شبه مهين من رئاسة الوزراء والحزب في مايو الماضي، وذلك في سياق إنفراد أردوغان بالقرار داخل “العدالة والتنمية” واستئثار عدد من المحيطين به في دائرته القريبة بمن فيهم من أقربائه بسير العمل داخل الحزب بمعزل عن الحكومة ورئيسها وبعيداً عن القنوات الشرعية، وذلك في وقت يتخذ فيه أردوغان ذريعة التآمر عليه وعلى الحزب والنظام التركي ضد أي معارض له ولإجراءاته التي باتت تهيئ البلاد لنظام رئاسي يتيح له التحكم الكامل بعدما استنفذ مرات توليه لرئاسة الوزراء بحسب الدستور التركي، وهذا بالضبط ما دفعه لاختيار داود أوغلو لتولي هذا المنصب لإدارة الحكومة من خلاله كمرحلة انتقالية بين النظام البرلماني والرئاسي.
وبتمرير مشروع قانون التعديلات المقترحه على الدستور التركي، نجح أردوغان في إرساء أول خطوة إجرائية نحو تغيير نظام الحكم في تركيا، ليس لنظام رئاسي فقط، ولكن لنظام رئاسي بسلطات شبه مطلقة وتمنحه وضعيه مميزة فوقيه على البرلمان والقضاء، ويمكن اعتبار أنه نجاح أخر ينضم إلى قائمة نجاحات أردوغان ومكاسبه في السنوات الماضية أحرزها من فشل خصومه في الداخل، سواء من المعارضين له مثل كولن، أو المعارضة الشرعية وأحزابها التي رضخت أمام تلاعبه بنتائج الانتخابات التي أتت لصالحهم ولكن على غير هوى أردوغان وستتم إعادتها بعد الاستفتاء المرتقب في إبريل، أو حتى من المنتقدين له ولسياساته داخل حزب الحرية والعدالة مثل جُل وداوّد أوغلو.
تكريس سلطة أردوغان وشرعيته ومنهجه السياسي في الداخل التركي، تأتي كنتيجة لاستثمار ما حدث منذ محاولة الانقلاب التي مكنته بشكل مبدئي من تمرير التعديلات الدستورية التي تحول نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، ومن ثم أن يكون له اليد العليا على مدى بعيد في إعادة تشكيل الخريطة السياسية التركية التي مالت لغير صالحه في السنوات الأخيرة، كذلك إيضاح للشعب التركي والتشديد أنه أمام خيارين: أما الأردوغانية وسياساتها ومنهجها وقيمها وأما الانقلابات والفوضى والإرهاب.
أما النتيجة الأهم لما حدث قبل أيام من موافقة البرلمان على مشروع قانون التعديلات، ومن المتوقع أقرارها في إبريل القادم، هو تداعيات شخصنة هذه السياسات وربطها بشخص أردوغان، والتي فيما يبدو حتى كتابة هذه السطور أنها أتت كبديل لانتهاء حقبة «الآتاتوركية» بشكلها العملي المحافظ الذي كانت قمته الانقلابات التاريخية قبل صعود العدالة والتنمية وزعيمه للحكم، والقضاء عليها كقيمة “تراثية” في مؤسسات الحكم في تركيا بعد محاولة إنقلاب يوليو، وتأسيس “الأردوغانية” وتعزيزها كبديل حصري، أي باختصار نجح أردوغان باستثماره لتداعيات ما حدث خلال الفترة الماضية أن يؤسس لمفهوم جديد داخل مؤسسات الدولة التركية يكمن في أن تكون “الأردوغانية” حاكمة ومسيطرة لها على مدار السنوات القادمة حتى بعد رحيله، وعلى نحو قانوني ودستوري وليس فقط كقيمة رمزية في الدستاتير التركية المختلفة كما كان الوضع إبان الحقبة الآتاتوركية.
المصدر// الاقتصادي