2024-11-28 12:39 ص

تركيبة الأسد السحرية .. كيف نجت سوريا؟

2017-01-20
جلّنار اليونس ومحمد سيف الدين
جنودٌ كثر. لكلٍ منهم ملامح مختلفة. السمر بلون تراب الشرق، والبيض بلون شتاء أرض الشمال، لحى وأزياء من أزمان مختلفة، أفكار وأفكار مضادة، عقائد وهوامات، تصورات عن الدنيا والآخرة، عن العالم الأول، والعوالم الأدنى، وصولاً إلى أدنى سلم التطور البشري، آكلو لحوم بشرية، ومدمنو رائحة الدماء والبارود. جنودٌ وجنود. كلهم اجتمعوا على رقعة شطرنج في قلب الشرق. سوريا. أرض معارك التاريخ الكبرى. تراب الأنبياء الكثر، وممر الممالك المقبلة إلى انتصاراتها، نحو قلاع الممالك الهرمة والراحلة إلى كتب التاريخ. أما الوسيلة، فوسائل أكثر من الجنود. بعضها غليظ كوجوه حامليها القادمين من وراء العقود الغابرة. وبعضها ناعم سام كأفعى تميت فريستها وتشيعها بابتسامة صفراء هادئة. الكثير من البارود، والكثير من الكاميرات، والكثير من ربطات العنق والمؤتمرات. مؤامرات وحلول. حلول كالمؤامرات. وجداول أعمال تلتف على عنق الشام لتخنق حياتها مرةً بعد أخرى، وتفشل في كل مرة. أي خيار ذلك الذي حمى قلب الشرق؟
بعدما وصل النظام الدولي المنبثق عن مرحلة الأحادية القطبية إلى نقطة الاختناق، أشارت بوصلة القوى الكبرى نحو سوريا، كحلبة صراع عالمي لإعادة إنتاج موازين قوى القرن الجديد. سريعاً وصل قطار الثورات الملونة إلى دمشق. قلب الشرق الأوسط، ومفترق طرق المحاور، وقلب التاريخ القديم لمنطقة الحضارات العميقة. وأٌريد لهذه العاصمة أن ترسم طريقاً جديداً لنظام دولي جديد تجد فيه كل قوةٍ كبرى مبتغاها تحضيراً لما هو قادم.
في الداخل لاقت رياح الطموحات الغربية فتحات في نوافذ عاصمة الأمويين. تلك النوافذ كانت قد تعرضت لموجاتٍ متكررة من الرياح لم يكن آخرها الهجمة التي واجهتها دمشق بعد احتلال أميركا لبغداد. اشتغلت الماكينات الإعلامية، ضمن غرف التخطيط الاستراتيجي، ووضع رأس النظام السوري على رأس قائمة الأهداف. في المقابل، كانت قوى أخرى ترى في دمشق حليفاً قادراً على المواجهة، وراهنت على دعمها في سبيل استعادة أمجاد كما هي حال روسيا العائدة للبحث عن مكانتها. وقوى أخرى مثل إيران كانت ترى في الهجمة الغربية على حليفتها فرصةً لتثبيت نفوذها الإقليمي عبر دعم الخيار المقاوم لإسرائيل، والذي يشكل بالنسبة لطهران أهم عناوين استراتيجية دولتها الإسلامية.
بين هذا وذاك، وفي خضم اللهيب الناشىء عن احتكاك الرؤى المختلفة هذه، كان أمام القيادة السورية مجموعة من الخيارات، أحلاها مر. إما الانصياع لرغبة القوة المسيطرة على العالم، ومعها أغلبية من دول العالم. وإما المضي قدماً في خيارها التاريخي، وحماية موقعها في قلب الشرق الأوسط. غير لكلٍ من الخيارين أثمانه المستحقة. فإما تبديل الوجه والسير في عروض مبادلة حفظ النظام شكلياً مع تغيير مضمونه إلى ما يشبه مصر مبارك. أو دفع الأثمان المتوجبة على التسمك بسوريا التي تدير بهدوء الصراع العربي-الإسرائيلي، وأقل هذه الأثمان كان أشخاص النظام، بينما أغلاها ثمناً كان كل ما رأيناه على مدى خمس سنوات من عذابات تلقاها الشعب السوري بصدره، وأرواح بنيه، ومستقبل شبابه، وأوجاع أطفاله الذي لا يدركون أبعاد اللعبة الكبرى الجديدة التي أراد العالم بلادهم ساحةً لها. فكيف أدارت دمشق خياراتها الاستراتيجية؟ وأي رؤية هي التي انتصرت في نهاية المطاف؟
روسيا.. صديق قديم
لقد عمّقت السنوات الأخيرة من الحرب الباردة العلاقة بين موسكو ودمشق. وفي مقابل ذلك، تعمّق نوع من النقمة الغربية على هذه الأخيرة. استطاع الرئيس الراحل حافظ الأسد أن يرسم بسياسته معالم طريق أكثر وضوحاً في تحديد المسار والهوية والدور لبلاده، وانتقاء الصديق ولجم تماديات العدو ما أمكن، فكان حذره جلياً تجاه الولايات المتحدة ومن يعمل معها، وكذلك كانت عين قيادته يقظة بشكلٍ دائمٍ حيال الصراع مع اسرائيل. في الوقت ذاته اختار الأسد الأب روسيا السوفياتية كحليفٍ حسب معطيات تموضع حجارة الدومينو على خارطة الشرق الأوسط، بما يضمن تحقيق التطلعات السورية تجاه أمن البلاد ومستقبلها.
في الطرف الآخر لرؤية الأسد، ارتياب غربي كان قابعاً في نفوس قادة الدول التي بدأت تعمل لمنع موسكو من التغلغل في الشرق الأوسط، وتقليص دورهم في المنطقة-الجائزة بالنسبة للغرب منذ أن ربح حربه الباردة.
ذهب زمن السوفيات ومعهم الأسد الأب، وحل زمن آخر فيه روسيا الخارجة من وحل أزماتها، وفيه أيضاً سوريا تحت قيادة الأسد الإبن، وفيه جموح أميركي مدفوع بانتصار الحرب الباردة، نحو احتلال العالم وانتزاع قلبه في الشرق الأوسط.
ملامح المرحلة هذه، لخصها الجنرال الأميركي ويسلي كلارك في كتابه "كسب الحروب الحديثة" الصادر عام 2003، وفي جملةٍ واحدة نقلها عن صديق له في البنتاغون: "لقد استلمت هذه المذكرة من الأعلى، من مكتب وزير الدفاع، هذه مذكرة تصف كيف علينا احتلال سبع دول خلال خمس سنوات: العراق، سوريا، لبنان، الصومال والسودان، ثم ننتهي في إيران".  
ولكن خيار سوريا بالاستمرار في نهج السياسة الخارجية السابق للأسد الأب لم يكن سهلاً. فالصفات الشخصية للأخير طغت على مرحلة حكمه. هو الملقب "بسمارك الشرق الأوسط" لم تكن تفوته حيلة أو حنكة لإدارة الوقت والقدرات والصراع كله في المنطقة. بينما مرحلة الهجوم الأميركي على العالم تضمنت في سياقها قلع أنظمة وإزالة معالم العالم الثنائي، وفي أبرز رموزه وقوف سوريا بوجه السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
كان بإمكان سوريا أن تغير المسلك والسلوك مع الأسد الابن، وحفظ الرأس في وقت العاصفة. وبالتالي الانخراط في شرق أوسط أميركا. وتجنب كل ما كان، بأثمانٍ مختلفة.
تطلع بشار الأسد لبناء علاقات جديدة متينة مع دول عربية وإقليمية لمزيد من الانفتاح على العرب والغرب من جهة. ولكنه عمّق علاقاته بخصوم الغرب من جهة ثانية، فتحسنت علاقاته بروسيا العائدة إلى التعافي، ومع إيران. حتى وضعه كولن باول أمام لحظة الحقيقة: إما الانخراط في الحملة على العراق، أو مواجهة النار الأميركية المقبلة على المنطقة. فاختار المواجهة. أما في الداخل فكانت سياسته أكثر ليناً مقارنة بأبيه.
وجوه وأقنعة
بقيت دمشق سنداً لحركات المقاومة، حتى حلول "الربيع" الذي جلب معه فاتورة هذه السياسة. انقلبت المنطقة على دمشق في لحظة واحدة بتوقيت واشنطن. تحول رجب طيب أردوغان من صديق لصيق بالأسد إلى رأس الحربة لإسقاطه ضمن رؤية أحمد داود أوغلو لعمق عثماني استراتيجي في المنطقة العربية. والأصدقاء القطريون نسيوا كل الليالي الدمشقية ورعوا موائد عربية لتقسيم الوجبة السورية على بقية "الأخوة". والأردن والسعودية ومصر الإخوان والمغرب وغيرها أصبحوا "أصدقاء للشعب السوري" فسلحوه ودفعوا به إلى أتون الحرب، وإلى أمواج الهجرة وطرق اللجوء. 
وفي المقلب الآخر، وقفت إلى جانب دمشق كل من إيران وروسيا وبعض حركات المقاومة التي لم تبتلعها ميزانية "الربيع العربي" المالية. وبالطبع فقد كان لكل منهم حساباته في المعركة، ولكنهم مجتمعين انتصروا في نهاية المطاف، فكيف اختار الأسد كفة الرابحين؟
رأت القيادة السورية بعد اندلاع نيران الأزمة أنها أمام مفترق طرق. طريق يأخذها إلى المواجهة الشاملة مع الغرب وحلفائه الإقليميين. وطريق آخر يجنبها كل ذلك، في مقابل تحولها إلى نموذج جديد من مصر حسني مبارك، أو أردن آخر. وفي حسابات الربح والخسارة، كان يبدو خيار المواجهة في اللحظة الأولى كمن يواجه المستحيل. بينما كانت مغريات الانصياع للغرب كبيرة. لكن فاتورته كبيرة من ناحية شخصية الحكم في سوريا التي ستخسر نفسها فيما لو اختارته، فالنظام الذي بناه الأسد الأب اكتسب معناه ودوره من سياسة الممانعة لمصالح أميركا وإسرائيل، ومواجهتهما بكل الوسائل، وخسارة هذا النهج كانت لتبقي الأشخاص وتقتل المبدأ.
أما الخيار الآخر، فكان يتطلب على المدى القصير تضحياتٍ جسيمة، قد تصل إلى حياة الرئيس السوري ورموز النظام الأساسيين، وهو ما دفعت سوريا جزءاً منه خلال الأزمة. ولكنه كان يحفظ شخصية الدولة وتركيبها التاريخي، واتّساقها مع هويتها. اختار الرئيس السوري ذلك، وسار به إلى النهاية.
لكن مهام حماية هذا الخيار كانت تتطلب جهوداً استثنائية. فحجم العاصفة القادمة يحتاج إلى تدعيم البناء بأكثر المواد صلابةً. وفي التفصيل، لم يكن البقاء ممكناً من دون عدة كاملة للمواجهة. وهذا ما لا تملكه إلا القوى الكبرى. كانت دمشق تحتاج إلى "فيتو" في مجلس الأمن، وقوة عسكرية عالمية تقيها احتمال الخيارات الجامحة الفجائية، كما جرى مع عراق صدام حسين، بالإضافة إلى دعم مادي وعسكري بالعديد والعتاد. وقد تأمن ذلك من خلال روسيا وإيران وحلفاء أصغر حجماً. ولكن سند الفيتو الروسي، كان يحتاج بدوره إلى سندٍ آخر يجنبه العزل وفقدان المشروعية، وهذا ما أمّنته الصين من خلال فيتو، أصبح توأماً للفيتو الروسي فيما بعد.
وخلف الخيارين اللذين تنازعا سوريا في أول الأزمة، كانت مصالح اقتصادية هائلة تجذب إليها أعين الدول الطامعة، أو الطامحة إلى مكاسب جديدة تنتشلها من هاوية الأزمة المالية التي أرّقت الجميع بعد اندلاعها عام 2008. مشروعان متعارضان لمد انابيب الغاز إلى أوروبا، الأول من قطر والسعودية عبر سوريا إلى تركيا والمتوسط. والثاني من إيران والعراق، فسوريا ولبنان، ويستبعد تركيا والخليج. وكانت سوريا عقدة المشروعين، فاختارت الثاني.
وخلف هذا كله، كان تنافس أميركي روسي على مد غاز آسيا الوسطى إلى أوروبا، فواشنطن أطلقت مشروع "نابوكو" من آسيا الوسطى إلى تركيا. وفي المقابل أطلقت روسيا خط "السيل الجنوبي" تحت البحر الأسود وإلى المجر فأوروبا، متجنبة المرور بتركيا. وهذا ما يفسّر شكل الاصطفافات في الأزمة. خيارات دمشق وضعت في الكفة الأولى كل من: روسيا، إيران، الصين، العراق نسبياً، وقوى المقاومة. وفي الكفّة الثانية كل من: أميركا وحلفائها الغربيين، دول الخليج العربية، تركيا، وقوى الإسلام السياسي في المنطقة.
عسكرة الأزمة
لم تكن أسباب الحرب السورية خارجيةً بامتياز، فقد أشعلت القوى الخارجية الفتيل الذي استطاع أن يلقى أرضاً هشة في الداخل ما ساعد بعد حين على انتشار ألسنة اللهب لتطال مناطق عدة. انتقلت سوريا من مرحلة التظاهرات والإصلاحات التي اعتبرها الطرف الآخر تنازلاً ودليل ضعفٍ أو غير كافية، إلى مرحلة عسكرة الأزمة التي أدخلت البلاد في منعطفٍ خطير. وانتشرت بشكل متسارعٍ وفجائي جماعات مقاتلة ومدربة ومجهزة تتمتع بخطوط دعمٍ لوجستية عبر دول الجوار (لبنان، تركيا، الأردن). وكان واضحاً أن الأمر لم يكن وليد ساعته بل هو ثمرة تحضير مسبق.
ومع أن البداية ركّزت على تعميم أخبار الانشقاقات عن الجيش السوري، إلا أن الوقت أظهر سريعاً ارتباطات متطرفة لأغلبية المقاتلين المناوئين للنظام. وسريعاً تراجعت صورة "الجيش الحر" لتحل محلها صورة الإمارات الإسلامية المتوالدة بالعشرات في عموم المناطق التي خرجت عن سلطة الدولة. وكان اللافت في أعمال هذه الجماعات تركيزها على البنى التحتية، والمؤسساتية للدولة، وليس فقط على التشكيلات العسكرية التي تقاتلها. فبدا أن الهدف هو إسقاط الدولة أكثر مما هو إسقاط للنظام. في خريف 2011 برزت "جبهة نصرة أهل الشام" التي ضربت بقلب العاصمة في أيلول بانفجارين استهدفا هيئة الأركان العامة، لتظهر بعد فترة تخمر لا بأس بها، مسميات عدة منها (جبهة النصرة، أحرار الشام، غرباء الشام، لواء الإسلام، وغيرها وكانت أقواها "داعش" التي تحولت لاحقاً إلى "الدولة الإسلامية"). على إثر هذا التحول دعت هلاري كلينتون في نهاية تشرين الأول 2011 المعارضة السورية "إلى مقاومة جنوح الثورة نحو التطرف"، وكان هذا بداية إعادة واشنطن النظر في سياسة دعم المسلحين، لكن هذه التصريحات بقيت سجينة أروقة البيت الأبيض ومجلس الأمن في البداية.
وتلقت دمشق الضربة الأقسى في شهر يوليو-تموز 2012 بتفجير مبنى الأمن القومي ومقتل قادة بارزين من خلية الأزمة تبناه "الجيش الحر" و"لواء الإسلام". وتوالت الضربات بعد ذلك لتطال قيادات فاعلة في القوى الأمنية والمدنية، ولكن موقف القيادة السورية لم يتغير، فكان لا بد من تفعيل الأذرع الأخرى للمشروع الهادف إلى إسقاط دمشق. 
حروب ناعمة
يمكن القول إن حرب سوريا كانت الأقسى من نوعها، والأولى في العقود الأخيرة التي تشهد هذا المستوى من العنف من جهة، ومن تنوع وسائل الحرب من جهة أخرى. لقد سخرت لهذه الحرب آلة إعلامية هائلة الضخامة والتأثير، عممت خلالها معايير جديدة، وعمليات دعاية، وتغيير مفاهيم، وتوجيه الرأي العام بأساليب فائقة المهارة. وركزت هذه الحملة على إحداث شرخ طائفي بصورةٍ حثيثة، مستغلةً انتماء الرئيس السوري إلى طائفة محددة من نسيج سوريا. فتم بث الخوف في الوجدان العربي لتحويل الوعي من المعركة مع إسرائيل ومطامع الغرب، إلى معركة بين أبناء البلد الواحد، بين من يؤيدون الدولة، ووسمهم بصفة الانتماء لإيران مثلاً، وبين من يؤيدون "الثورة"، الذين هم من عموم الشعب المقهور الذي يتعرض للقمع. ولم يتمكن قطاع الإعلام السوري من مواجهة هذا بصورةٍ فاعلة، في بداية الامر.
حرب إعلامية لا هوادة فيها عاشتها سوريا منذ اللحظة الأولى لأحداث درعا، تجسدت في نشر بعض الوسائل لأخبار تلعب فيها على أوتار طائفية عن عبارات شيعية كُتبت على جدران المنازل، تلا ذلك شائعات عن انتشار قوات لحزب الله والحرس الثوري الإيراني في المنطقة قبل تواجدهم فعلياً على الأرض، ووسائل أخرى عملت على تشويه الحدث، فأصبح المواطن عرضة لضخٍ محموم أغرقه بكم ونوعية المعلومات المضللة التي كان يتلقاها من كل حدبٍ وصوب.
وإلى جانب الحرب الإعلامية، كانت العقوبات الاقتصادية على دمشق تختار أكثر نقاط الاقتصاد السوري حساسيةً لتصيبها. لقد كانت حملة لتجريد سوريا من كل وسائل الدفاع. وبموازاة ذلك، خاضت دول عديدة حرب تفكيك السلك الديبلوماسي السوري، من خلال إخراج دمشق من المنظمات الإقليمية والعربية، وإغراء الديبلوماسيين بالاموال والطموح المستقبلي للإنشقاق عن الخارجية السورية. لكن ذلك لم ينجح إلا في حالاتٍ نادرة. وكان ذلك بالنسبة للمراقب من خارج المشهد، مفاجأة غير منطقية.
تبدلات سببتها خيبات الأمل المتلاحقة
كان عرابو "الثورات الملونة" يتوقعون سقوط سوريا سريعاً، مثله كمثل الأنظمة الأخرى التي لم يتحمل أصلبها ضغوط العالم لأكثر من بضعة أشهر. ولكن دينامية الإدارة السياسية في دمشق تمكنت من استيعاب الصدمة الأولى، ثم الصدمات المتتالية التي ترجمت بهجمات الأفواج المتكررة على العاصمة، وملحقاتها الإعلامية والاقتصادية والديبلوماسية والسياسية، حتى أمسكت بالمبادرة الميدانية منذ تحرير مدينة حمص.
لقد غيّرت الإدارة السورية من تكتيكاتها في المواحهة بصورةٍ جذرية. على الصعيد العسكري تحول الجيش السوري وحلفاؤه من أسلوب الجيوش التقليدية إلى المزج بين هذا الأسلوب وأساليب حرب العصابات وتقسيم القوى الميدانية إلى مجموعات صغيرة تتوسل المبادرة والمباغتة، ما زاد من فاعليتها كثيراً. وعلى المستوى الاقتصادي عانت دمشق، لكن الشعب السوري أظهر قدرةً فائقة وجلداً أسطورياً في المواجهة. أما ديبلوماسياً، فقد تماسك الجسم الديبلوماسي السوري بصورةٍ أبهرت المراقبين.
وبموازاة ذلك، أطلقت القيادة السورية جهود الإصلاح والمصالحة، وأصدرت العفو تلك الآخر، لمنع تكتل المندفعين بعاطفتهم وراء الإرهابيين، مع هؤلاء الأخيرين. ففصلت على مدى طويل بين "المضللَين" و"المضلِلين".
ولكن أبرز مهارات القيادة السورية تجلّت عندما تمكنت من إقناع العالم، مع الوقت، بأن خطر الإرهاب سوف يرتد إلى صدور أصحاب الحملة ضدها، وهو ما أكده الأسد مراراً منذ بدء الأزمة. ولم يقتنع الغرب بذلك، إلا بعد أن ذاق لظى الإرهاب في باريس، وسان برناندينيو، وبروكسل، وتركيا مراراً، وألمانيا، وغيرها...
 
فعادت كل دولة إلى دفاتر حساباتها، لتفتش عن سبيل العودة عن سياستها الجامحة، إلى خانة العقل التي تفترض العودة إليها الظروف المستجدة، وفي أولها ضرورة استعادة الأمن ودحر الخطر الإرهابي. فعادت تركيا تبحث عن سلامها المرتبط بسلام الجوار، وراجعت أوروبا نفسها مسلمةً بضرورة الوصول إلى حل سياسي، وانقلبت خيارات الإدارة الأميركية بين أوباما وترامب، وبقيت الدول الخليجية شبه وحيدة في دعم الجماعات المسلحة، والاعتقاد بأن إمكانية إقصاء الأسد لاتزال ممكنة.
وعلى الرغم من بقاء مناطق سورية عدة بين مد وجزر وبين كر وفر، ولكن بتحرير حلب مع نهاية عام 2016، كان أفق الأزمة السورية قد أقفل بوجه المجموعات المسلحة، ليترك الباب موارباً لتلك التي تريد المشاركة في الحل السياسي وإلقاء السلاح.
مهما قيل في هذا السياق الدامي على مدى خمس سنوات، لا يمكن التغاضي عن براعة القيادة السورية في حماية خياراتها، واللعب على وتر التناقضات الدولية والإقليمية، وصولاً إلى تناقضات الجماعات المسلحة في الداخل. والانتقال بين ألغام السياسة والأمن، والرقص على حافة الهاوية، وصولاً إلى فرض شروط طاولة المفاوضات، من خلال القبضة القوية في الميدان، والدهاء في رسم المسارات للحلفاء والخصوم، ودفع كل منهم إلى خانته المنتقاة سلفاً.
المصدر// الميادين