2024-11-28 11:50 م

2017 تحت المجهر: ما هو مصير تركيا وأردوغان؟

2017-01-04
بقلم: أمره أوسلو (*)

منذ عام 2012 أحاول أن أضع العام التالي تحت المجهر في الشهر الأخير من كل عام، مستشرفًا ما سيشهده من أحداث ووقائع. وكما يعلم قرائي الأحباء فإنني انقطعت عن الكتابة اليومية لفترة، إلا أن هذا لا يمنعني من استخدام عدستي المجهرية هذه المرة.

يبدو أن الانتخابات الرئاسية والأوضاع الاقتصادية ستكونان العاملين الأساسيين اللذين سيحددان ملامح تركيا خلال رحلتها في 2017. قضية الانتخابات الرئاسية ليست عبارة عن اختيار رجب طيب أردوغان رئيسًا في ظل النظام الرئاسي. فهو الرئيس بالفعل حاليا، ولن يستطيع أحد أن يزحزحه من منصبه حتى وفاته. وهذا ما شهدناه بالفعل في الانتخابات البرلمانية في 7 يونيو/ حزيران 2015، فعندما خسر حزب العدالة والتنمية الانفراد في الحكم فاجأ أردوغان الجميع بعصاه السحرية التي أخرجها من عباءته وأعاد الانتخابات ليفوز حزبه بالحكومة منفردًا مرة أخرى من خلال لعبه على ورقة “الإرهاب” في المناطق الكردية. لذلك فإن خيار رحيل أردوغان عن طريق انتخابات نزيهة ليس واردا في ظل الظروف الراهنة، حيث لم تعد تحمل الانتخابات إلا معنى رمزيا. فهل بقي في البلاد مؤسسة واحدة لديها القدرة على مراقبة الانتخابات والتأكد من وجود تلاعبات أم لا؟ وذلك لسبب بسيط وهو أن أي شخص إذا ما ادعى وجود حيلة أو تلاعب بالنتائج فسيواجه مباشرة تهمة الانتماء لحركة الخدمة وسيجد نفسه في السجن. وبما أن مرحلة الانتخابات الحرة النزيهة قد انتهت فأردوغان هو “الرئيس الأبدي” لتركيا! في الحقيقة أردوغان هو من يصرح ذلك علنًا، ولذلك يصر على الانتقال بالبلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي. وإذا أردنا أن نصارح أكثر فإنه يريد النظام الرئاسي ليقيم النظام الأردوغاني الدكتاتوري بدلا من النظام الكمالي السلطوي.

بالتأكيد هناك نتائج طبيعية تترتب على تغيير النظام القائم في البلاد تتعلق بتعريف هوية النظام الجديد الذي يجري تأسيسه. فهذا النظام الجديد يرى تركيا كـ”قيمة استراتيجية”، ويجري حساباته على القيم الاستراتيجية لتركيا أكثر من قيمها الثقافية والمعيارية. ولا شك أن تفعيل هذه القيمة الاستراتيجية يجري وفق الغرب. بمعنى أن تركيا بالنسبة للغرب هى عبارة عن قيمة استراتيجية والنظام الجديد سيقوم عليها.

الفكر الكمالي الأتاتوركي كان محاولة لتطبيق مشروع التحديث على الشعب عبر يد الدولة الغليظة من الأعلى، من أجل اللحاق بالمعايير الغربية. أما الفكر الأردوغاني فلا يقترح أي مشروع من هذا القبيل، على العكس تماما يوصد كل الأبواب في وجه القيم والمعايير الأوروبية، بل يسعى لتسويق موقع تركيا الاستراتيجي للغرب مع الحفاظ على قيمها المحلية. وهذا الأمر يتطلب تصفية كل المعارضين الذين يتمتعون بعلاقات جيدة مع الغرب ويشكلون تهديدا للنظام الأردوغاني الجديد.

وعند النظر إلى القوى التي بدأ أردوغان يستهدفها خاصة في أعقاب أحداث متنزه غازي في يوينو/ حزيران 2013، نجد أن القاسم المشترك بينها جميعا تقريبا هو دفاعها عن التعايش السلمي مع القرب. فبحسب وجهة نظر أردوغان، فإن كل الذين يهاجمهم، بدءا من حركة الخدمة إلى جريدة “جمهوريت”، ومن الزعيم الكردي صلاح الدين دميرطاش إلى الزعيمين القوميين المنشقين من حزب الحركة القومية مرال أكشانار وأوميت أوزداغ، ومن الرئيس السابق عبد الله جول إلى رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو.. هم “غربيون” ومن دعاة “التغريب”، على حد زعمه.

يرى أردوغان العالم من خلال المنظور التالي: إن الغرب يريد القضاء عليّ والإطاحة بي، وأنه ضغط على زر الإطلاق في أعقاب أحداث متنزه غازي باركي بمدينة إسطنبول. وأنا أقاومه، ولكي أنجح في هذه المقاومة يجب علي أن أصفي “الغربيين الخونة”، وإن نجحت في ذلك سأتمكن حينها من تسويق تركيا الجديدة (الأردوغانية بالطبع) للغرب باعتبارها قيمة استراتيجية.

لنلق نظرة سريعة على هجمات أردوغان على المعارضة الداخلية:

–     يعلم الجميع جهود حركة الخدمة التي تستقي فكرها من فتح الله كولن لإقامة حوار مع الغرب. وكانت تصريحات كولن التي قال فيها “لا تصفوا متظاهري جيزي باركي باللصوص الجبناء” النقطة الفاصلة أو القشة التي قصمت ظهر البعير في علاقته مع أردوغان. عقب ذلك أشعل أردوغان فتيل إغلاق مراكز دروس التقوية الخاصة التي تعد الخدمة من أكثر الناشطين في هذا المجال، ولا تزال الحرب المندلعة بين الطرفين مستمرة حتى اليوم.

–     أما أزمة الأكراد؛ فمع أن أردوغان يصافح الزعيم الكردي المعتقل عبد الله أوجلان، ويرتدي معه الثوب نفسه، ويشاركه السفرة نفسها، ويأكل معه في طبق واحد، ويحذو حذوه في المساعي الرامية إلى إقامة “السلام الكردي”، لكن الإرهابي – بجسب رأي أردوغان – هو زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش وليس أوجلان!! يبدو أنه لا يمتلك أحد القدرة والشجاعة على أن يخرج في وجه أردوغان ليقول له إن أوجلان هو من أسس تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي وليس دميرطاش، فلماذا تمشي معه جنبا إلى جنب وتهاجم ذاك؟! أعتقد أن السبب الحقيقي الكامن وراء عداء واستهداف أردوغان للحزب الكردي العامل في البرلمان التركي بحسب الدستور والقوانين وزعيمه دميرطاش ليس عدم وضعه مسافة بينه وبين حزب العمال الكردستاني، كما يزعم ويدعي أردوغان، بل سعيه لمد الجسور بين حزبه والغرب. فلو كان همّ أردوغان هو الضغط على صلاح الدين حتى يضع مسافة بينه وبين العمال الكردستاني حقا لابتعد هو نفسه عن أوجلان الإرهابي قبل الآخرين! ورغم أنه يستمر في الحفاظ على اتفاقه مع أوجلان، إلا أنه يعتقل صلاح الدين بتهمة قربه من العمال الكردستاني. ياله من تناقض!

–     هجوم أردوغان على صحيفة جمهوريت، في الوقت الذي لا يتعرض بشيء للصحف المحلية الفاشية من أمثال صحيفتي “سوزجو” و”آيدنليك”، يعود إلى السبب عينه، حيث إنها، أي صحيفة جمهوريت، لديها نزعة غربية. تذكروا إذ أجرى سفراء الدول الغربية، وعلى رأسهم السفير الأمريكي، زيارة إلى مقر الصحيفة عقب اعتقال رئيس تحريرها جان دوندار وزميله أردم جول. منذ ذلك الحين رأى أردوغان أن هذه الصحيفة تمثل مركزا ومحورا للمعسكر الغربي. لذلك فهو سيسعى لانتزاع هذه الصحيفة من أيدي الغربيين ليسلمها للكماليين المحليين. أليس هو من وضع جانبا كلا من رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، والوزير المسئول عن الشئون الاقتصادية سابقا علي باباجان، لمجرد أنهما مواليان للغرب؟

–     ومن هنا لن يكون من الصعب أن نتكهن بمن سيكون هدف أردوغان الجديد: بالتأكيد كمال كيليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، والطائفة العلوية التي يقول أردوغان عنهم إنهم يحاولون خلق “علوية بدون علي!”، فضلا عن اعتقاده بأنهم يتلقون دعما وتمويلا من ألمانيا بصفة خاصة. بناء على ذلك فإن عام 2017 سيكون صعبا على الطوائف العلوية “الغربية” وكمال كيليتشدار أوغلو وزملائه في الحزب؛ إذ سيبادر النظام الأردوغاني إلى تصفيتهم وإغلاق مؤسساتهم. ومن الممكن أن نقول انطلاقا من ذلك فإنه قد حان وقت انسحاب آيدين دوغان، رئيس مجموعة شركات “دوغان”، التي تنطوي تحتها أكبر مجموعة إعلامية في تركيا، بما فيها قناة سي إن إن التركية وصحف “مليت” و”حريت” و”بوسطا” اليومية و”فاناتيك” الرياضية. فإما رئيس هذه المجموعة سينسحب من الساحة وسيسلم لأردوغان كل ما يملك من الشركات والوسائل الإعلامية أو سيزج به أردوغان في السجن مثل الآخرين. بمعنى أن عام 2017 سيكون عام القضاء على آخر خصوم أردوغان ليمكن تأسيس النظام الأردوغاني على أنقاض قلاع معارضيه “الموالين للغرب”.

وهذا يعني فعليا أن أردوغان سيتوجه إلى استحداث أجهزة ومؤسسات بعد هدم الأجهزة والمؤسسات القديمة ليستكمل إنشاء نظامه الجديد. إنه سيبني هذا النظام على الجثة الهامدة للنظام القديم بعد إزالة مخلفاتها، أي أن النظام الأردوغاني الجديد سيحذو حذو النظام الكمالي القديم وسيعاقب “الخونة الحاليين” مثلما عاقب هذا الأخير “الخونة القدماء” عند تأسيس الجمهورية التركية الحديثة قبل نحو قرن.

الفارق بين أردوغان وأتاتورك: لم يواجه مصطفى كمال أتاتورك صعوبات كبيرة في تأسيس مؤسسات وأجهزة نظامه؛ نظرا لأنه ورث مجتمعا منغلقا نسبيا واقتصادا منهارا، أي أنه أسس نظامه على أرض فضاء. أما أردوغان فسيهدم أولا النظام الكمالي وما أنتجه من غربية مرنة، ثم سينظف الأرض من هذه الأنقاض ليبني عليها أجهزة ومؤسسات نظامه. وستكون التكلفة الاقتصادية لهذا باهظة للغاية.

وعليه يتوقع أن يواصل الدولار الأمريكي ارتفاعه أمام الليرة التركية حتى يسجل 5 ليرات خلال النصف الأول من عام 2017 بعد أن كان 1.77 قبل بدء تحقيقات الفساد في 2013. وتظن المعارضة أن الأزمة الاقتصادية المتوقعة إذا رفعت الدولار إلى هذا الحد ستكون نهاية أردوغان. لست متأكدا من صحة القضية الثانية (نهاية أردوغان)، لكن من السهولة بمكان التوصل إلى صحة القضية الأولى، أي ارتفاع الدولار إلى 5 ليرات، بينما يؤسس أردوغان نظامه الجديد.

باختصار: سيواصل أردوغان ممارسة الضغوط على المعارضة الموالية للغرب في عام 2017 حتى يرسخ قواعد نظامه الجديد، والنتيجة الاقتصادية لذلك ستكون انهيار الليرة التركية أمام الدولار وارتفاعه الى 5 ليرات.

لا شك أن الأزمة السورية والمشكلة الكردية ستكونان من المشاكل الكبيرة التي سيواجهها أردوغان في طريق بنائه نظامه الجديد. والقوة المؤسساتية للنظام الأردوغاني الجديد ستحدد وستغير مسار القضية الكردية في المستقبل. أما العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس الجديد دونالد ترامب لن تسهل أمور تركيا، على عكس ما يتوقعه أردوغان والدائرة المحيطة به؛ لأن ترامب كان واضحا من البداية أنه سيوجه الجزء الأكبر من اهتماماته إلى الإصلاح الداخلي، بحيث سيركز على البرامج والمشاريع الاقتصادية إن لم تقع مفاجئة غير متوقعة أو حدث جلل.

فضلا عن أن البنتاجون سيكون متحكما أكثر في تحديد السياسات الخارجية من وزارة الخارجية نفسها. بمعنى أن أردوغان إذا ما أجرى مساوماته مع الغرب، مع البقاء ضمن المعسكر الغربي سيرافقه الحظ وستكون له الفرصة، لكن إذا ما استمر في اعتقاده بأن الغرب يريد القضاء عليه وواصل وضع مشاكل وعراقيل أمامه فإن الأوضاع الداخلية في تركيا ستتجه نحو الأسوأ – للأسف- .

بناء على ذلك، فإن الغرب الذي ستهتم به تركيا لن تكون الولايات المتحدة الأمريكية بل سيكون الاتحاد الأوروبي. ولا يخفى على الخبير أن هناك فروقا بين السياسات الأمريكية والأوروبية. ومع أن أردوغان يعتقد أن النعرة المضادة لـ”الأجنبي” ستقتصر على حدود دول الاتحاد الأوروبي؛ لكن علينا أن لا نتفاجأ إذا بدأت أمواجها تلاطم سواحل تركيا أيضا. وبطبيعة الحال، فإن ذلك سيتمخض عن نتائج اقتصادية وسياسية.

من الممكن أن أختصر توقعاتي للعام الجديد على شكل نقاط كما يلي:

– أردوغان سيمضي قدما في طريقه للقضاء على المعارضين الموالين للغرب، وسيكون كيليتشدار أوغلو والعلويون الموالون للغرب هدفه الجديد. وسيخطط لسلب رئاسة حزب الشعب الجمهوري من كيليتش دار أوغلو ومنحه إلى غريمه الداعم له (أردوغان) متين فايزي أوغلو حيث يرفض وجود ممارسات التعذيب على المعتقلين في السجون. كما أن رئيس مجموعة “دوغان” الإعلامية آيدين دوغان الذي يتهمه أردوغان بتنفيذ فعاليات “الطابور الخامس” للغرب، تنتظره فترة عصيبة، ولن يستطيع إنقاذ نفسه وإعلامه حتى ولو أصبح ذيلا لأردوغان مثل ذبابة الخيل.

– لن يكون من المفاجأ إذا ما انهارت نجاحات أردوغان الاقتصادية، حيث من المفترض أن تستمر الاضطرابات الاقتصادية ويصل الدولار الأمريكي 5 ليرات تركية.

– ستغطس تركيا في المستنقع السوري أكثر، وقد يزداد الأمر صعوبة على أردوغان في حال توصل ترامب وبوتين إلى اتفاق على بقاء الأسد في السلطة.

– ستزداد عملية انفصال الأكراد عن تركيا.

أما عن أردوغان نفسه:

فقد استمر نجمه في اللمعان في سماء العالم الإسلامي حتى أصبح قائدا نموذجيا له، إلا أنه لم ينجح في الحفاظ على هذه الصورة واستبدلها بصورة القائد الدكتاتوري للعالم الإسلامي للأسف، إذ كان يبدو كقائد أوحد بمقدوره التوحيد والمزج بين الحداثة والإسلام، غير أن العالم بات يراه داعما لتنظيم داعش الإرهابي.

– تحول من قائد ديمقراطي سيقود تركيا إلى الاتحاد الأوروبي إلى قائد يسعى لإخراجها منه نهائيا.

– تحول من حامي حركة الخدمة في الداخل والخارج إلى عدو لها.

– ذاع صيته كعدو لتنظيم أرجنكون ونظامه القديم المسمى بالدولة العميقة، إلى محام خاص يدافع عنه.

– تحول من قائد محارب للفساد إلى قائد ملطخ بالفساد بدءا من رأسه حتى أخمص قدميه.

– تحول من عدو لإسرائيل إلى صديق مقرب لها.

– تحول من رجل يعمل على إصلاح الاقتصاد إلى رجل يسعى جاهدا لخرابه.

– كان زعيما أعاد حرية الحجاب في الجامعات إلا أنه أخرج جيلا من الفتيات الإسلاميات يضعن على رؤوسهن حجابا شكليا، لكنهن محرومات من دماثة الأخلاق والوقار بحيث باتت بعض المحجبات المخلصات يهربن منهن حتى لا يذكرن معهن.

– جاء إلى السلطة كزعيم مدافع عن الإسلام إلا أنه شوه صورته، بممارساته الدكتاتورية وفساده وسرقته لدرجة أن البعض بدأ يقول إذا كان المسلم ديكتاتورا ولصا فأنا لست مسلما.

وعندما أعود إلى الوراء وأتساءل في نفسي إن كان هناك يظل صرح واحد لم ينته أردوغان من هدمه بعد أن بناه لا أرى شيئا. وإن كنت مصيبا في قرأتي للمسار الذي يتجه إليه أردوغان، فإن الصروح التي أقامها بأيديه حطمها كلها بأيديه كذلك.

أجل، إن كانت هذه القراءة صحيحة، بمعنى أن أردوغان أدى دوره وانتهى منه في إطار القدر الكلي لله عز وجل، واستكمل مشواره دون أن يترك وراءه أي قيمة ليذكرها وارثو الأرض ما عدا قصوره الفارهة وحياته المترفة وعائلته المرفهة وسفن أولاده الكبيرة، فلعل عام 2017 هو آخر عتمة الليل وبداية بزوغ الفجر.

(*) أمره أوسلو، الكاتب الصحفي والخبير في الشؤون الأمنية والتنظيمات الإرهابية.
صحيفة "زمان" التركية
الترجمة: يافوز أجار