ترجمة :عقيل الشيخ حسين
بقلم :شارل سانا
عن موقع "mécanoblogue"
هنالك مواضيع حساسة إلى الحد الذي نفضل معه جميعاً عدم مقاربتها. وعدم الحديث عنها. حتى إن الحديث عنها يكاد يكون محرّماً. ما لا نريد أن نراه، هنالك آخرون ينظرون ويرونه نيابة عنا. وإنه من الأفضل لنا، ما دام أن في الوقت متسعا، أن نصغي إلى أولئك الذين يعيشون خارج حدودنا وينظرون إلينا ويكوّنون صورة عنا نرفض أن نراها. إذا كنت، أيها القارئ، من ذوي الحساسية المرهفة، فإن هذه المقالة غير موجهة إليك. إذا كنت تريد أن تنام بهدوء، فإن هذه المقالة غير موجهة إليك. إذا كنت ترغب في مواصلة حلمك عن اقتصاد سليم كل شيء يسير فيه على ما يرام، فإن هذه المقالة غير موجهة إليك.
قبل عدة أشهر، كتبت مقالة بعنوان "أيها الألمان، اُخرجوا أنتم أولاً". أقتطف منها ما يلي:
"نهاية ’نموذج الأعمال‘ في دولة الرعاية: الدول الأوروبية، وخصوصاً فرنسا، قامت على فكرة دولة الرعاية. و"الرعاية" تعني أن سير الأحداث ينطلق من فعل كريم تقوم به قوة إلهية (هي الله عموماً). وبالتالي، فإن القوة الإلهية التي تسهر علينا من المهد إلى اللحد هي الدولة.
إنها الدولة التي تعتني بنا من خلال الرواتب التي تقدمها إلى الأسر، ومعاشات التقاعد، والضمان الاجتماعي، وتأمين فرص العمل، ومداخيل التكافل النشط، ومساعدات الإسكان، وتغطية النفقات الصحية. هنالك، على جميع المستويات إجراءات تهدف إلى التخفيف من ضغط المتطلبات الاجتماعية. ونهاية نموذج الأعمال في دولة الرعاية تعني النهاية المحتومة لجميع هذه المساعدات. ذلكم هو الحد من الإنفاق والاستغناء عن تلطيف ذلك عن طريق طباعة أوراق العملة. والحال أن المجتمع الفرنسي لا يمكنه بأي حال بسبب تنوع مكوناته أن يتحمل علاجاً بالتقشف على الطريقة اليونانية. فمجالاتنا الحساسة تعيش إلى حد كبير على التكافل الوطني.
وإلى هذه الإشكالية المالية، تضاف إشكاليات الجماعات السكانية. فعندما تتفاقم الصراعات، يثبت التاريخ البشري أن النصر لا يكون أبداً للمعتدلين. فعناصر ضعف المجتمع الفرنسي تختلف عما هو عليه الحال في ألمانيا. ثمن التقشف الحاد في فرنسا يمكن ألا يتحمله الفرنسيون وأن يفضي إلى مشكلات بين جماعات السكان لا مجال لحلها".
المقالة المذكورة كتبتها في كانون الأول/ ديسمبر 2011. يومها لم تكن مشكلة "مراح" قد وقعت بعد. ويومها، كان نيكولا ساركوزي رئيساً للجمهورية. ويومها كنا نرفض أن نتصور أن التقشف يمكنه أن يتحول إلى واقع. كنا نرفض أن نتخيل للحظة أن الوضع في اليونان هو مقدمة لما يمكن أن نعيشه نحن. اليونانيون هم، في النهاية، من فعلوا ذلك بأنفسهم.
من المستحيل الفصل بين ما هو اجتماعي وبين ما هو اقتصادي. ومن لا يرى في الاقتصاد غير الأرقام والإحصائيات المالية وأسعار البورصة أو حتى مستويات الاستدانة لا يمكنه مطلقاً أن يمتلك رؤية صحيحة للاقتصاد إذا لم يهتم أيضاً بالأبعاد الاجتماعية أو المجتمعية. فالوضع الاقتصادي السوري كان جيداً قبل عدة أشهر، كان بإمكان أسعار العقارات في دمشق وحلب أن تثير دهشة أكثر من فرنسي بمستوياتها التي قد تفوق ما نجده في فرنسا.
وقد أسهمت الحرب في العراق في رفع أسعار العقارات في سوريا لأن عراقيين كثيرين التجأوا إليها. أما الآن، فقد تحولت سوريا إلى مسرح للخراب، إلى بلد تمزقه الحرب الأهلية، وأسباب ذلك هي اجتماعية وسياسية ليس للجانب الاقتصادي فيها إلا أثر ضئيل جداً. قد تردون بلا شك: "ولكن، ما الذي يجمع في ذلك بين سوريا وفرنسا؟". إجابتي: لا شيء. إلا أن ذلك لن يطمئنكم لفترة طويلة.
ليس هنالك على وجه الدقة ما يجمع بين هذين البلدين، ولكن هنالك ثابتة تاريخية قابلة للتطبيق على جميع أمم العالم. فالبلد يكون مستقراً حتى اللحظة التي يصبح فيها غير مستقر. قبل عامين، قالت أنغيلا ميركل بأن نموذج التعددية الثقافية قد مني بالفشل. لكن هذه الكلمات لا تكون بريئة عندما تتلفظ بها مستشارة ألمانيا. فالمشكلة التي أثارها الفيلم "براءة المسلمين" أعادت إشعال النيران وقذفت بالتوترات الدينية إلى الصفحات الأولى في صحف العالم.
لقد بهتت فرنسا عندما اكتشفت إن عدة آلاف من الأشخاص يعيشون فيها ولا يتقبلون الأفكار والقيم الجمهورية الفرنسية. ومنذ تلك اللحظة، تم تسليط جميع الأضواء على السلفيين. وجاء مصرع شابين في أشيرول قرب غرينوبل ليظهر أن مواطنينا ذوي الأصول الأجنبية هم الأكثر معاناة من مناخ بات خانقاً جداً. وبعض السكان طالبوا الرئيس هولند بالتدخل خلال زيارته الخاطفة للمنطقة.
عندما أتحدث مع الناس يعتريني الذهول لما ألاحظه من ارتفاع منسوب المخاوف التي تعبر عن نفسها بشكل صريح وتطغى على مجمل الانقسامات السياسية. كما يصعقني توجه المواطنين عندنا نحو الجذرية. هذا يعني أن بلدنا يشهد حالياً حركة انطواء واسعة عند كل جماعة أو طائفة على نفسها. وإذا ما جاز لنا تبسيط الأمور بعض الشيء، فإن الكاثوليك يشعرون بشكل متزايد بأنهم كاثوليك. من الجهة الأخرى، يشعر المسلمون بشكل متزايد بأنهم مسلمون. الجميع ينسون أنهم قبل كل شيء فرنسيون وأبناء الجمهورية.
عندما أقدم محمد مراح، وبدم بارد، على قتل جنود فرنسيين يرتدون البزّة العسكرية الفرنسية و"يعودون بأصولهم الجسدية إلى التنوع" (أي إلى ما ينبغي قوله بدلاً من أصل "أسود" أو "مغاربي")، فإن ما فعله يشكل استجابة لمنطق "قتل الخائن"، أي ذلك الذي يمثل صورة التدامج في ظل الجمهورية.
وبشكل مشابه وفي الطرف الآخر من أوروبا ومن رقعة الشطرنج السياسية، فإن أندرس بهرينغ بريفيك الذي ارتكب مجزرة أوسلو يستجيب لمنطق مماثل من جميع الوجوه: يجب قتل الاشتراكي، المتسامح، اليساري. فهو أيضاً يخون صفاء الوطن لأنه يقبل الآخر والأجنبي. وفي كل هذا، فإن ما يتغير هم الضحايا، أما أشكال المنطق المشؤوم فتبقى على حالها.
كنت ما أزال صغير السن عندما اندلعت حرب البلقان. ولكنني أتذكر المجازر وأتذكر عبارات كـ "التطهير العرقي" و"المقابر الجماعية". أتذكر ضابطاً فرنسياً برتبة جنرال وهو يقف فوق سيارة "جيب" مكشوفة ويقول للنساء والرجال والأطفال: "لن نتخلى عنكم أبداً". وأتذكر أنهم قد تركوا لمصيرهم. كما أننا سمعنا عبارات من نوع : "لن يحدث مثل هذا أبداً، خصوصاً في قلب أوروبا". حدث مثل هذا، إلا أننا تعمدنا نسيان ذلك.
فضلنا الاعتقاد بأننا لا يمكن أن نكون صرباً أو كرواتاً "من الناحية السياسية"، تماماً كما نفضل الاعتقاد الآن بأننا لا يمكن أن نكون يونانيين "من الناحية الاقتصادية". سبيلنا الوحيد إلى تجنب الكابوس هو أن تتشكل عندنا صحوة وعي وطني. لأننا ذاهبون باتجاه أن نصبح يونانيين "من الناحية الاقتصادية" وصرباً "من الناحية السياسية". أطلب المعذرة من أصدقائنا الصرب على التفوه بهذه العبارة. فأنا لا أطلق عليهم حكماً، بل أعتقد على العكس بأننا لسنا أفضل ولا أسوأ حالاً وبأن التاريخ الذي عاشوه هناك يعيد نفسه عندنا من جميع النواحي. وكلّ تحت أبصارنا، وإن كنا لا نعي ولا نصدق ما نرى.
ففي حين تهدد الأزمة بجر الاقتصاد العالمي إلى الثقب الأسود، وفي حين يقال لنا بأن علينا تدارك ذلك من خلال الإذعان لسياسة التقشف وشد الأحزمة على البطون، علينا أن نعي أن مستقبلنا القريب هو أكثر تماثلاً مع اليونان لا مع نهر طويل وهادئ في انسيابه. علينا أن نعي المخاطر التي تتراءى في الأفق والتي يمكنها أن تحطم استقرار بلدنا أو بالأحرى استقرار أوروبا كلها.
ولا تنفع المشاعر الطيبة أبداً في تدارك هذا الخطر. بل إن مثل هذه المشاعر بالغة الضرر. لا بد من معالجة أمرين. الأول هو الاقتصاد بالتأكيد. إذ بقدر ما تكون الثروة موجودة وموزعة بشكل سليم، بقدر ما تميل إغراءات الحقد نحو الضمور. فالتقشف لا معنى له من الناحية السياسية. ينبغي أن تتم معالجة الناحية السياسية والاجتماعية. لست فرنسياً لأن بشرتك هي بلون معين. ولا تكون كذلك إلا من خلال التمسك غير المشروط بالأساس الذي تقوم عليه القيم الجمهورية، قيم التسامح والمساواة والعلمانية يجب أن تحمى بكل قوة. فالجمهورية لا يجب أن تتراجع أمام أي تطرف مهما يكن. كل تهاون وكل تخلّ عن الشجاعة والعزيمة سيجعلنا أقرب إلى الهاوية.
الواقع أن كل تهاون أياً يكن ضئيلاً يمكنه أن يفضي إلى "التطهير". فالسويسريون بدأوا بالاستعداد للحرب الأهلية الأوروبية. يمكن أن توجه إليّ تهمة التشاؤم من قبل أولئك الذين لا يريدون رؤية ما يحدث، وأولئك الذين يظنون أن الجميع في غاية اللطف وأننا أفضل من الجميع وأن شيئاً مكروها لن يحدث وأن الاستقرار أبدي. ولكن على هؤلاء جميعاً أن يعلموا بأنني أشاطر أصدقاءنا السويسريين تشاؤمهم.
السويسريون هم على وعي بالمخاطر الكبرى المحدقة بالاستقرار السياسي عند جيرانهم. لقد أجروا في أيلول/ سبتمبر 2012 تدريبات عسكرية ضخمة تحت اسم "من أجل الاستقرار؟": نتيجة لانهيار اقتصادي كبير ولتصاعد التوترات بين الجماعات والديانات، فإن الدول الأوروبية الكبرى المجاورة والمنتمية إلى منطقة اليورو ستغرق في الحرب الأهلية، والكثير من اللاجئين اليائسين سيحاولون إيجاد ملجأ في سويسرا.
ومنذ ذلك التاريخ عبأ الاتحاد السويسري 200 ألف جندي احتياطي لضمان أمن الحدود. في القرن الماضي قتل الكثيرون وجرى احتجاز الكثيرين من اليهود في معسكرات الاعتقال. ويمكن للقرن الحالي أن يبدأ بمثل هذه الأفعال، إذا ما أعاد التاريخ نفسه، وإن لم يكن ذلك بشكل مشابه تماماً.
ربما فهمتم ما أقصده. وما أقصده مثير للصدمة: "المسلم" مستقبلاً قد يكون "يهودي" الأمس. لا تقولوا بأن ذلك مستحيل، فكل شيء يتسابق نحو هذا الاحتمال. لا تقولوا بأن ذلك مستحيل في أوروبا وتذكروا بأن ذلك قد حدث فعلا قبل عشر سنوات بالكاد في البلقان.
لا تقولوا بأن ذلك مستحيل لا لشيء إلا لأن الجيش السويسري يستعد لهذا الاحتمال. ولكن قولوا لي ما الذي يمكن أن نفعله معاً لمنع حدوث ذلك. إذا أنكرتم المشكلة، إذا أنكرتم الفرضية والاحتمال، فإن إنكاركم لا يعني أن ذلك سوف لن يحدث. إن استقرار بلدنا يجب أن يوضع في صف الأولوية الاستراتيجية المطلقة والفعل "الاقتصادي" يجب أن يكون تبعاً لذلك.
ولا يمكن تأمين الاستقرار إلا في إطار وطني ومن خلال العودة إلى السيادة الكلية. عندما تتعرض مصالحنا الحيوية للخطر، فإن الاقتصاد وجماعات الضغط ومصالح هذه الجماعة أو تلك سيحل بها الدمار... كما في سوريا. لكننا لا نزال حالياً في مرحلة الركض مباشرة نحو الكارثة. لكن أحداً لا يريد أن يرى ما يحدث.
(العهد الاخباري)