2024-11-28 10:54 م

الانتخابات الرئاسية الفرنسية على أبواب ربيع اليمين المتطرف

2016-12-08
سركيس أبو زيد
أرخى المشهد الانتخابي الأمريكي بظلاله على المشهد الانتخابي الفرنسي، لكن، الفارق هنا أن التوقعات ذهبت إلى صعود اليمين المتطرف في القارة العجوز، فمن يصنعون مشھد الحاضر الأوروبي ھم أحزاب تختلف في تاريخھا ومنحى بروزھا، لكنھا تجتمع على الإمساك بالمزيج السحري لطيف متسع من الحانقين على الحاضر السياسي وصُنّاعه. ھذا الطيف يثير الرعب الآن في قلب النخبة السياسية الحاكمة، من أحزاب الوسط التقليدية من عائلة اليمين أو اليسار، مع ترقب لانتخابات تشريعية حاسمة بعد أشھر في ھولندا وفرنسا والمانيا، تتخللھا استحقاقات أخرى ستكون مناسبة لقياس المخاطر.
فاليمين المتطرف يزحف ويتقدم في 12 دولة أوروبية: فرنسا قلقة. 63 % يؤيدون خطاب اليمين المتطرف. 48 % في بريطانيا أخرجتھا من الاتحاد الأوروبي. 55 % في ھولندا، النخب فيھا متوجسة. زعيم "الحرية" المتطرف يعيش "الربيع القومي". بولندا سقطت بيد اليمين المتطرف المقنع. 78 % من البولنديين يؤيدون الأفكار المتطرفة. المجر يعيش حالة "اليمين الوسطي" كأنه متطرف ومتشدد. النمسا تنجو من ھذه الموجة الرجعية. ايطاليا في دائرة الخطر . الدنمارك والسويد متخوفتان. ألمانيا تتخوف وتتحصن. 
والحدث الأبرز الذي يتصدر المشهد الأوروبي حالياً سباق الرئاسة الفرنسية الذي انطلق باكرا وبمفاجآت متلاحقة أعادت خلط الأوراق وجعلت كل شيء ممكنا ومتوقعا:
 المفاجأة الأولى: تمثلت في بروز مارين لوبن رئيسة الجبھة الوطنية اليمينية المتطرفة منافسة جدية ومرشحة بسھولة لبلوغ الدورة الثانية، وھذا ما تعزز بعد فوز دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.
المفاجأة الثانية: تمثلت في إعلان رئيس الحكومة مانويل فالس رغبته في الترشح عن الحزب الاشتراكي متجاوزا ومتجاھلا الرئيس فرنسوا ھولاند الذي صارت حظوظه بولاية ثانية شبه معدومة.
المفاجأة الثالثة: تمثلت في سقوط مريع لكل من نيكولا ساركوزي وآلان جوبيه كمرشحين لليمين الوسط وصعود مثير لـ"فرنسوا فيون" مخترقا كل التوقعات والاستطلاعات، فقد حصل فيون على نسبة تلامس عتبة الـ 70 %  مقابل 30  %  لـ"جوبيه"، ليصبح المرشح الرسمي لليمين واليمين الوسط، لا بل ليصبح على أبواب قصر الإليزيه.
وفي المناظرة الأخيرة تطرق  فيون إلى الملف السوري، متسائلا: "ھل يمكن الدفاع عن مسيحيي الشرق وإغفال واقع أن ھؤلاء المسيحيين، في غالبيتھم الساحقة، يدعمون الرئيس السوري بشار الأسد؟".
وكان اللافت في ھذه الانتخابات ھو تصويت الكاثوليك بكثرة لصالح فرنسوا فيون. وبحسب المحللين لنتائج الانتخابات فإن 68 في المئة من ناخبيه كاثوليك. فقد راھن فيون على اليمين الكاثوليكي المحافظ الذي عانى كثيراً من الشطط الساركوزي، ثم تعرض منذ وصول ھولاند الى الحكم لھجمات متتالية ضاعفت من مخاوف قوى اليمين والوسط، كقانون زواج المثليين، والھجمات الإرھابية التي غذت لدى ھذه الفئات مشاعر الإسلاموفوبيا، فضلا عن تدفق أعداد متزايدة من اللاجئين الذين يخشى اليمين الكاثوليكي أن يشكلوا تھديداً لـ"الھوية الفرنسية"، ما يدفعنا الى التساؤل عن سبب ھذا التصويت في فرنسا العلمانية، وھذا يعود الى عدة أسباب أبرزھا: 
أولا: سيرة فرنسوا فيون الشخصية، فھو مسيحي كاثوليكي ملتزم. في كتابه الصادر في العام 2015 يذكر رئيس الوزراء السابق أنه تلقى تربية بيتية مسيحية كاثوليكية وأنه يقوم برياضات روحية سنوية في دير "سوليم" الشھير للآباء البنيدكتان في ضواحي باريس، فھو بذلك يجسد بالنسبة الى الناخب الكاثوليكي الفرنسي القيم المسيحية كما عبّر أحد الناخبين لمراسل صحيفة "لوموند" الفرنسية. وھذا بحد ذاته مستغرب في فرنسا العلمانية التي تھتم أولاً وأخيراً بالقيم الجمھورية.

فيون

ربيع التطرف الاوروبي
ثانيا: معارضة فيون لزواج المثليين ورفضه الواضح لتبنيھم الأولاد. وھذا ما يؤيده المسيحيون الملتزمون والكنيسة.
ثالثا: منذ العام 2015 يعلن فرنسوا فيون دعمه الواضح لـ"المسيحيين الذي يُذبحون في الشرق من قبل مقاتلي الدولة الإسلامية "داعش"". 
وھذا يعني الكثير للكاثوليك الفرنسيين الذين يرتبطون بعلاقات تاريخية مع الكنائس الشرقية الكاثوليكية تمتد الى القرن الخامس عشر. ففي حزيران 2015 قام المرشح اليميني بتنظيم لقاء في باريس ضم أكثر من 1600 شخصية سياسية ودينية لدعم مسيحيي الشرق الأوسط. وأعلن في خطابه "أن السياسة ھي أيضاً في خدمة القيم الأساسية". والمسيحية بالنسبة إليه ھي إحدى ھذه القيم. وقد استتبع مبادرته ھذه بزيارة لبنان والعراق للوقوف على أوضاع المسيحيين في البلدين وإظھار الدعم لھم. وفي حزيران 2016 قام فرنسوا فيون بزيارة الصرح البطريركي والتقى البطريرك الماروني بشاره الراعي. كما التقى بطريرك السريان الكاثوليك في أربيل، وھناك التقى أيضاً متطوعين في جمعيات تدعم المسحيين المشرقيين.
رابعا: لم يتخذ فرنسوا فيون موقفاً رمادياً تجاه "الإرھاب الإسلامي" و"الأصولية الإسلامية"، كما يسميھا، وطريقة التصدي لھا في المجتمع الفرنسي. فھو أعلن صراحة وقوفه ضد "الأصولية" وضد "التوتاليتارية الأصولية".  وأصدر كتاباً بعنوان:"دحر التوتاليتارية الإسلامية". وعلى ما يبدو أن تسمية الأشياء بأسمائھا تجذب الناخب الفرنسي  المسيحي الذي يخشى تنامي الأصولية الإسلامية، بخاصة بعد أن شاھد إرھابھا يضرب على الأراضي الفرنسية خلال السنوات الأخيرة وكانت آخر عملياته مجزرة نيس. ھذه المجزرة كانت الدافع الى إصدار كتاب فيون الذي قال صراحة في مقابلة مع صحيفة "لو فيغارو" إن "ھناك صعوداً للأصولية الإسلامية في المجتمع الفرنسي". وقد اقترح لمعالجتھا فرض رقابة على المساجد وعلى الخطب الدينية وعلى التمويل الخارجي لھا، وطالب بإعادة النظر في العلاقة مع الدول الداعمة والمموّلة للأصولية الإسلامية. كما يؤيد طرد الأفراد الذين يدورون في فلك الإرھاب وضد عودة الفرنسيين الذي ذھبوا للقتال الى جانب "داعش". 
في المقابل بقيت مواقف منافسه آلان جوبيه رمادية وغير واضحة تجاه تزايد عدد النازحين السوريين والنقاش الحاد الذي جرى حولھم ليس فقط في فرنسا وإنما في أوروبا بكاملھا. 
إن السمة البارزة في طبع فيون، وفي برنامجه السياسي الذي يخوض على أساسه الحملة الانتخابية الرئاسية، ھي أنه محافظ على المستوى الاجتماعي وليبرالي على المستوى الاقتصادي، وتميل مقترحاته الاقتصادية إلى "التاتشرية"، بينما يدافع عن القيم الاجتماعية التقليدية. وفي الآونة الأخيرة، ركز فيون في حملته على قضايا العائلة والتعليم.
ويرى مراقبون أن فرنسوا فيون الى حد ما امتداد لظاھرة دونالد ترامب، من دون شعبويته، بصيغة أوضح وأكثر تبلورا خطابا في ميدان السياسة الخارجية تحديدا، وخطابا ثوريا فيما يتعلق بالنزاع في سوريا، ومواجھة "داعش"، رغم أنھا لم تكن عنصرا أساسيا في فوزه في الانتخابات مؤخراً.
 فالرجل الذي يبدأ مسيرته نحو الإليزيه لخلافة فرانسوا ھولاند، لم ينتظر حملة الانتخابات الأولية لإعلان نيته الانقلاب على كل السياسة، التي اتبعھا نيكولا ساركوزي، وفرانسوا ھولاند. والأرجح أنه سيستفيد من تقاطع المواقف مع الترامبية في أولوية مواجھة "داعش"، وإعادة ترتيب السياسات الفرنسية في سوريا على ھذا الأساس. بل ذھب فيون أبعد من ترامب في دعوته الى ضم حزب الله وإيران والجيش السوري والأكراد والرئيس بشار الأسد الى تحالف دولي لمكافحة الإرھاب، واعتبارھم شركاء شرعيين وجديين في محاربة "داعش". كما دعا منذ ثلاثة أعوام الى إعادة العلاقات مع دمشق والتنسيق معھا، وفتح السفارة الفرنسية فيھا. وكترامب أيضا، يعبّر فيون أيضا عن تعاظم تيار فرنسي داخل المؤسسة الفرنسية يعمل على إعادة التفكير بطبيعة العلاقات مع السعودية التي اعتبرھا أحد مصادر التھديد الإرھابي في أوروبا، ودعا الى مراجعة العلاقات معھا ومع قطر. وفرنسوا فيون، مفاجأة جيدة للروس، إذ يدعو الى إعادة النظر بالسياسة الأوروبية التي تدفع روسيا نحو آسيا، كما قال، و"كلما كبرت آسيا اقتصاديا، كبر الاتجاه فيھا للعب دور عسكري، ودفع روسيا نحو آسيا ھو نتيجة لسياستنا الحالية التي ينبغي أن تتغيّر".
باختصار، نحن أمام واقع جديد في أوروبا يعيد تشكيل السياسة فيها. فالظاھرة باتت أوسع، لكنھا تختصر اليوم بربيع اليمين المتطرف، فوق أرض خصبة تنتعش فيھا معاداة النخب الحاكمة، على طول القارة وعرضھا.
المصدر: موقع "العهد" الاخباري