2024-11-25 06:39 م

الإختصاص الجنائي العالمي في مواجهة الجرائم الدولية

2016-11-19
بقلم: الدكتورة صديقي سامية 
يعد مبدأ الإختصاص الجنائي العالمي بمثابة آلية إجرائية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية باعتباره يقوم على ركيزة الدفاع عن المصالح والقيم ذات البعد العالمي، ويتجسد في فكرة أن من حق كل دولة محاكمة مرتكبي ومعاقبة الجرائم المذكورة في الاتفاقيات الدولية أو القانون العرفي، والتي تتمثل أساسا في جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة وكذا جنسية مرتكبها والضحايا، ولما كانت ظاهرة الإفلات من العقاب توجد بالأساس عندما تتقاعس السلطات المحلية في البلدان التي تأثرت بالجرائم من متابعة المجرمين مكن مبدأ الإختصاص الجنائي العالمي النظم القضائية لجميع الدول الأخرى من النهوض بمهمة النظر في تلك الجرائم بالنيابة عن المجتمع الدولي. لقد جاء مبدأ الإختصاص الجنائي العالمي كنظام قانوني من أجل تجاوز الثغرات القانونية الموجودة في القانون الدولي لأن الهدف منه ضمان تقديم المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية معينة للعدالة، وبالتالي الحيلولة دون هروبهم من المساءلة عما ارتكبوه من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني بسبب اختلاف قواعد الإختصاص بين قوانين الدول المختلفة، فمن غير المعقول أن يحاكم من يرتكب جريمة من جرائم القانون العام على صعيد التشريعات الداخلية، في حين يجد من يرتكب جريمة دولية سبيلا للإفلات، مما لاشك فيه أنه ليس ثمة اختلاف بين الاختصاص الجنائي العالمي و اختصاص القضاء الجنائي الدولي و إنما هما مكملان لبعضهما بعض باعتبار أن لهما سلطة مباشرة الدعوى التي تتوقف على وقوع انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني وحقوق الإنسان، وإن كان تحديد الجرائم الدولية التي تدخل في نطاق الاختصاص الجنائي العالمي متوقف على الالتزامات الدولية للدولة صاحبة هذا الاختصاص والتي تفرض أو تجيز لها الأخذ به و لا يمكنها توسيع نطاق الاختصاص الجنائي العالمي في قانونها الوطني بما يتجاوز التزاماتها الدولية، وهنـــاك نقطة أخرى يشترك فيها الاختصاص الجنائي العــالمي و الاختصاص الـقضائي الجنــــائي الدولي، وتتمثل في أن كلاهما ينشدان الهدف نفسه المتمثل في كفالة عدم تمتع مرتكبي الجرائم الدولية بالإفلات من العقاب، ويختلفان من ناحية أن الدول هي التي تمارس الولاية القضائية العالمية أما اختصاص القضاء الجنائي الدولي تمارسه المحاكم الجنائية الدولية. يستمد الاختصاص الجنائي العالمي مصدره من العرف حيث كرس منذ القدم في مواجهة الجرائم الدولية المكيفة على أنها قانون الشعوب طبقا للقانون الدولي العرفي، وهذا ما يتجلى بوضوح في العديد من الجرائم الدولية كجريمة القرصنة البحرية في أعالي البحار لمنع إفلات القراصنة من العقاب وحرمانهم من ملاذ آمن، إضافة إلى جرائم التعذيب و الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، ونشير إلى أن اعتماد الإختصاص الجنائي العالمي على القانون الدولي العرفي يجعله قائما بالنسبة إلى الدول غير الأطراف في الاتفاقيات الدولية التي تكرس مبدأ الإختصاص العالمي ويجعله ساريا حتى بالنسبة إلى جرائم التي لم تضعها الاتفاقيات داخل نطاق الإختصاص العالمي، وهو ما تبينه الفقرة 02 من المادة 01 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا النزاعات الدولية المسلحة لسنة 1977 على أن المدنيين و المقاتلين في الحالات التي لا ينص عليها هذا الملحق أو أي اتفاق دولي أخر تبقى تحت حماية و سلطان مبادئ القانون الدولي كما استقر عليها العرف و مبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام، ومن اتفاقيات دولية التي كرست مبدأ الاختصاص العالمي نجد اتفاقيات جنيف الأربعة المنعقدة في 12 أوت 1949 التي حثت الدول الأطراف المتعاقدة بأن تتعهد باتخاذ أي إجراء تشريعي يلزم بفرض عقوبات جزائيـة فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون بارتكاب إحدى الانتهاكات الجسيمة لهذه الاتفاقيات، كمـا يلتزم كل طرف متعاقد بأن يقوم بملاحقـة المتهميـن بارتكاب هذه الجريمة و بتقديمهم إلـى المحاكمة أيا كانـت جنسيتهم، وأن تقوم بتسليمهم للطرف الأخر المتعاقد لمحاكمته مادامت تتوفر لديه أدلة اتهام كافية ضد هؤلاء الأشخاص،كما أن المادة 07 من اتفاقية مكافحة جريمة التعذيب 1984 ألزمت الدولة الطرف التي توجد في الإقليم الخاضع لولايتها القضائية شخص يدعي ارتكابه لأي من الجرائم التي تشكل جريمة تعذيب ، بعرض القضية على سلطاتها المختصة بقصد تقديم الشخص للمحاكمة في حالة لم تقم بتسليمه للسلطات المطالبة به. ومن العراقيل التي يمكن أن تحول دون تطبيق مبدأ الاختصاص العالمي عدم التعاون القضائي بين سلطات الدولة مكان ارتكاب الجريمة والدولة القائمة بالمتابعة بسبب رفض استقبالها للجان التحقيق خصوصا إذا تعلق الأمر بالتحقيق مع الشخصيات الرسمية لبلادها كرئيس دولة أو وزير لأنها تعتبره مساسا بسيادتها يقف حائلا أمام عدم مساءلة المتهم أمام القضاء الداخلي للدولة التي ينعقد اختصاصها استنادا إلى مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، بإضافة إلى ذلك نجد أن آلية الاختصاص العالمي باهظة الثمن لأنها تتطلب مبالغ مالية لتنفيذ كل الإجراءات المتعلقة بالمتابعة وهو ما يدفع بعض الدول إلى تأجيل المحاكمات الجنائية أو التنصل من اتخاذ إجراءات المتابعة بالرغم من توفر كل الشروط لتحريك الدعوى العمومية ضد المتهمين بارتكاب جرائم الدولية خطيرة، فالتحقيق في الجرائم الواقعة في إقليم أجنبي يتطلب من الدولة انتقال السلطة القضائية إلى مكان وقوع الجريمة قصد إجراء التحقيق والمعاينات اللازمة وجمع المعلومات وأدلة الإثبات وسماع الشهود، وكذا التحقيق مع الضحايا إضافة إلى نقل كل هذه العناصر إلى الدولة التي تمارس اختصاص القضاء العالمي بالنظر في الجريمة لذا لابد من توافر الموارد المالية المناسبة في ميزانية الدولة لمباشرة اختصاصها العالمي. هناك عدة المحاكمات التي أقيمت على أساس مبدأ الإختصاص العالمي من بينها قضية رئيس التشيلي بينوشيه التي شكلت سابقة دولية على صعيد تفعيل مبدأ الإختصاص القضائي العالمي، وذلك لمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها خلال رئاسته لدولة الشيلي في الفترة الممتدة ما بين سنة 1973 و سنة 1990، أين اقتحم أوجستنو بينوشيه مع رجاله في 11 سبتمبر 1973 القصر الرئاسي و قتلوا الرئيس الشيلي أليندي و نصب نفسه على رأس النظام العسكري الذي تم تشكيله بعد الإنقلاب، كما طاردوا اليساريين في كل أنحاء البلاد ونتيجة لأفعال المجلس العسكري فقد تم قتل أكثر من ثلاثة ألاف تشيلي، كما أدى إلى اختفاء الكثير منهم وتعذيب وسجن أكثر من سبعة وعشرين ألف ونفي الكثير من الأشخاص الذين هربوا طالبين اللجوء السياسي، وفي 26 ديسمبر 1999 أصدرت المحكمة العليا في الشيلي حكم يقضي بأن الحالة الصحية لبينوشيه البالغ من العمر 90 سنة تسمح له بالمثول للمحاكمة، وذلك استنادا إلى تصرفاته التي تجعله قادرا على الصمود غير أن بينوشيه توفي بأزمة قلبية في 01 ديسمبر 2006 ولم تتم محاكمته أبدا على الجرائم التي تم إتهامه بإرتكابها،إضافة إلى محاكمة إرييل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أمام القضاء البلجيكي حول مجازر صبرا وشتيلا التي يعود تاريخها إلى 16 سبتمبر 1982 حيث ارتكبت أبشع جرائم في حق حركة المقاومة و التحرير من طرفه رفقة المجموعات الإنعزالية اللبنانية المتمثلة بحزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي، إثر الحصار الذي قاموا به على مخيمي صبرا وشتيلا وراحوا يقتلون المدنيين دون استثناء رجال ونساء وأطفال والقيام بعمليات اغتصاب، وكانت إسرائيل قد أغلقت مداخل النجاة للمخيم فلم يسمح للصحفيين ولوكالات الأنباء بالدخول إلا بعد انتهاء المجزرة، ولكن المحكمة البلجيكية أصدرت حكمها في 12 فيفري 2003 رافضة الدعوى بحجة أن القانون الدولي لا يسمح للدول بالمساءلة الجنائية لذوي الصفة الرسمية في الدولة أثناء أداء وظائفهم، و إرييل شارون يعتبر رئيس وزراء لإسرائيل وقت تقديم الشكوى ضده من الأشخاص المعنيين، وفي وقت صدور الحكم المطعون فيه وبالتالي يتمتع بالحصانة في مواجهة الدعوى الجنائية، ونضيف في هذا الصدد أنه في ظل عدم مباشرة المحكمة الجنائية الدولية للجرائم المرتكبة في سوريا وفلسطين و حتى لا يتم إفلات المجرمين من العقاب يمكن محاكمتهم على أساس مبدأ الإختصاص العالمي باعتبار أن الجرائم المرتكبة في فلسطين و سوريا من الجرائم الأكثر خطورة والتي تمس البشرية جمعاء. ومبدأ الاختصاص الجنائي العالمي كنظام قانوني جاء من أجل تجاوز الثغرات القانونية الموجودة في القانون الدولي لأن الهدف منه ضمان تقديم المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية معينة للعدالة، وبالتالي الحيلولة دون هروبهم من المساءلة عما ارتكبوه من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني بسبب اختلاف قواعد الإختصاص بين قوانين الدول المختلفة، فمن غير المعقول أن يحاكم من يرتكب جريمة من جرائم القانون العام على صعيد التشريعات الداخلية، في حين يجد من يرتكب جريمة دولية سبيلا للإفلات،ومن أجل تفعيل مبدأ الإختصاص العالمي لابد من التمييز بين تبني القانون الوطني لهـذا الاختصاص وبين ضمان تطبيقه من الناحية العملية، فالنص على الاختصاص العالمي يرد في مقام تحديد نطاق تطبيق قانون العقوبات من حيث المكـان، أما تفعيل امتداد هذا التطبيق خارج إقليم الدولة يقتضي جهودا أخرى تنفيذية تتجـاوز مجرد النص التشريعي، فلا يكفـي مجرد تجريم فعل محدد والنص على اختصاص الدولة بملاحقة المتهمين بارتكابه بل لابد من تفعيل هذا النص بمنح السلطات الوطنية المختصة مهمة القبض على المتهمين وحبسهم ومحاكمتهم، وما قد يتطلبه من اتخاذ إجراءات التعاون القضائي من شأنه أن يكلف ميزانية الدولة نفقات تتجاوز بطبيعة الحال ما تنفقه عند تطبيق قانون العقوبات وفقا لمبدأ الإقليمية.