2024-11-29 12:54 ص

الشعبوية وحروب ما بعد الحداثة

2016-11-17
بقلم: زينب عقيل

يحكى أن البرجوازية في أوروبا أدت إلى صعود الفاشية والنازية والستالينية وكل ما ينضوي تحت لواء الشمولية في القرن الماضي. وزعموا أنها صعدت بأدوات الحداثة، وتسخير القوى التكنولوجية، والتنظيم السياسي الحديث. وانتهت إلى الحرب العالمية الثانية، كنتيجة حتمية، كما يرى المفكرون والمنظرون في الغرب.

واليوم، يبدو أن الديموقراطية الليبرالية في الدول الغربية، أدت إلى صعود الشعبوية القومية والتيارات الانعزالية، بأدوات ما بعد الحداثة ومعاداة الدول العميقة (أي المؤسساتية)، متجاهلةً قوة وسائل الإعلام كأداة تكنولوجية. إلا أن معالم الحرب التي قد تنتهي إليها، لم تكتمل فصولها بعد. لكن، عندما سئل أينشتاين يومًا عن شكل الحرب العالمية الثالثة، أجاب بأنه لا يستطيع أن يجزم كيف ستكون، لكنه أكّد أن الرابعة ستقوم بالأخشاب والعصي.

الواقع أن ما بعد الحداثة باعتبارها "المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة"، بدأت في وقت مبكر من الحرب الباردة. يمكن فهمها أيضًا على أنها ردّ فعل على الحداثة. انبلج فجرها من أنقاض الدمار الذي طال أوروبا إثر الحرب العالمية الثانية. إذ ارتفعت الحصانة عن الحداثة السياسية والاقتصادية وفقدت الثقة. وفي حين أن الحداثة كانت ترتبط بالهوية والسلطة والوحدة واليقين، فإن ما بعد الحداثة، ترتبط بالفروق والانفصال والنصية والتشكك.

اميركا ما بعد الحداثة : فوضى وشعبوية

ليس بعيدًا عن الحداثة، أنجز العالم الاجتماعي الأميركي هارولد لاسويل عام 1927 كتابًا تحت عنوان: "تقنيات الدعاية خلال الحرب العالمية". كان الكتاب من أول البحوث التي بيّنت كيف أن وسائل الاتصال قد "أصبحت من أهم الأدوات الضرورية لإدارة وتسيير الرأي العام من طرف الحكومات". إلى ذلك يؤكد لاسويل أن وسائل الاتصال "هي الوسيلة الوحيدة لخلق الانتماء والولاء لدى الجماهير" وأنها "أكثر اقتصادية من العنف". مؤلفات عدة ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي، دعمت نظرية لاسويل، لعلّ أبرزها كتاب "الدعاية السياسية واغتصاب الجماهير" لسيرج تشاكوتين. في هذا السياق تعتبر مختبرات القياس أن انتخاب روزفلت 1932، وسقوط هتلر 1945، والاتحاد السوفياتي 1991، من أبرز مصاديقها. "إن شعوب أوروبا الشرقية ثارت على الشيوعية لأنها تمكنت من التقاط برامج التلفزيون الغربي والأميركي" يقول جورج شولتز وزير الخارجية الأميركي الأسبق.

تأسيسًا على ذلك، ظنّت النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية في الغرب أن ترامب سيسقط في جعبة هذه القدرة الهائلة والمثبتة لوسائل الإعلام. يتضح اليوم، أن عقيدة هؤلاء المؤمنة بالإعلام كأداة "أنجع من الأسلحة النووية" كما عبّر شولتز، قد سقطت. وباتوا محتاجين إلى أداة جديدة. مشهد مشابه في بريطانيا، هو فشل المؤسسة وأذرعها الإعلامية في منع تصويت البريطانيين لخروج المملكة من الاتحاد الاوروبي. وفي نفس السياق، يؤكد مراقبون أن وضع "الشعبوية" في فرنسا وألمانيا ليس أقل خطورة.

المفكر الاميركي فرانسيس فوكوياما يتوقع "أساليب أكثر خشونة" للتعاطي مع خطر الشعبوية التي أسقطت القدرة على التوقعات. نبوءة ٌ للأكاديمي آلان ليتشمان تقول إن النخبة من الجمهوريين سيعمدون إلى عزل ترامب. ونقاشٌ يجري في بريطانيا حول إمكانية تصويت البرلمان على مخالفة نتيجة الاستفتاء المتعلق بخروج المملكة من الاتحاد الأوروبي. إنها الديموقراطية التي "تنتحر نفسها إذا استمرت"، نبوءة الرئيس الأميركي الثاني جون آدمز تتحقق.

على صعيد متصل بالانتحار، تبرز الحروب العالمية. زُعِم للحرب العالمية الأولى أنها ستضع حدًا لكل الحروب. أُطلق عليها لقب "حرب الكيميائيين"، وللحرب العالمية الثانية لقب "حرب الفيزيائيين". زُعم لها أنها الأخيرة أيضًا، على خلفية انتصار الليبرالية السياسية والاقتصادية، والتنظير لها – أي الليبرالية- بأنها "الشكل النهائي للحكومة الإنسانية". لكن الوقائع في الغرب اليوم تثبت أن صراع الأيديولوجيات لم ينتهِ. ما يفتح الباب مجددًا على حرب عالمية ثالثة.

يُقرأ في نبوءة أينشتاين أن الحرب العالمية الثالثة ستسدل الستار على كل الحضارة الانسانية، ليعود الإنسان أدراجه من عصر ما بعد الحداثة إلى عصر ما قبل التاريخ. فالقدرة التكنولوجية، والسباق إلى التسلح، ومعدلات الإنفاق على التسلح تسجل أرقامًا تصاعدية. وهي قادرة بقيادة أي مجنون، ليس فقط على إعادة البشرية إلى ما قبل البدائية، بل على تفتيت الكوكب إلى مليون شظية. وما أكثر الحكام المجانين الذين تعاقبوا في التاريخ.

قد ينكر العقل البشري النزق هذه الحقيقة، لكن القاعدة الفلسفية المعروفة بقانون غابور تقول: "كل ممكن سيُنجَز على الدوام". فهل تنجز الشعبوية المتعاظمة، القائمة على العداء للمؤسسات، وعلى الخوف من أخطار قد لا تكون مبررة، هذا الممكن؟ وأسئلة كثيرة أخرى، تشغل العالم اليوم، بعدما اعتلى عرش الديموقراطية الأول في العالم، رجل "مجنون"، يكره النخب المثقفة، صاحب خطاب "شوارعي"، ولا يعرف أن بلجيكا دولة وليست مدينة.