2024-11-30 09:24 ص

الاستحقاق الأميركي بعيون عربية

2016-11-08
حارث حسن
إنّ الكليشيهات السائدة عربياً عن الولايات المتحدة من قبيل «هذا بلد مؤسسات، ولا يهم من يكون الرئيس»، أو «إنهم جميعاً متشابهون ولا يعنينا من يكون الرئيس»، لم تعد مفيدة كثيراً لفهم عمق الانقسام المجتمعي ــ السياسي الذي عكسته (وأججته) هذه الانتخابات، والتأثير المحتمل لنتائجها عالمياً.

ديموغرافياً، هنالك استقطاب بين أميركا المتعددة عرقياً والمنفتحة ثقافياً، وبين أميركا البيضاء الخائفة من زحف الألوان الجديدة وتسعى إلى استعادة صورة «متخيّلة بعض الشيء» عن نقاء يكاد يختفي. اقتصادياً، هنالك استقطاب بين ائتلاف ليبرالي معولم يتضمن المستفيدين من الليبرالية الاقتصادية التي تسمح بتدفق حرٍّ (نسبياً) للمال والسلع والأيدي العاملة، والقطاعات المالية و»ما بعد الصناعية» (قطاع المعرفة والمعلومات)، إلى جانب المستفيدين من الخدمات الاجتماعية التي تقدمها برامج الحكومة الفيدرالية (تحديداً الطبقة الفقيرة السوداء)، وبين أميركا التي تعيش طبقتها العاملة البيضاء خريفاً بسبب هجرة رأس المال إلى بلدان العمالة الرخيصة وتردّي الصناعات التقليدية كالتعدين وإنتاج السيارات. ثقافياً، هنالك استقطاب بين اتجاه علماني ليبرالي منفتح على أنماط حياة مختلفة لا سيما في ما يخص قضايا الجنس والإجهاض والتسامح الديني، وبين اتجاه يرى أن الهوية الأميركية هي هوية بروتستانتية بشكل جوهري، وتمثل فيها الكنيسة (كمؤسسة اجتماعية) والقيم الدينية (كمرجعيات للصواب والخطأ) عناصر مهمة لتشكيل الصلات والسلوكيات الاجتماعية. هو إلى حدٍّ ما، وبقدر من التبسيط، استقطاب بين ائتلاف معولم، إمّا من حيث أنماط حياته أو بحكم صلاته وقيمه أو بفعل مصادر قوته، وبين ائتلاف يريد استعادة الروح القومية عبر إعادة تشكيلها لتعكس فهماً محدّداً للهوية الاجتماعية والثقافية، تضفى عليه «جوهرانية» يتم تشكيلها بخطاب الحنين الى ماض انقضى (من هنا شعار حملة ترامب: لنجعل أميركا عظيمة مجدداً).

ما الذي يعني قارئ العربية في كل ذلك؟
أولاً: نحن أمام عالم متغيّر، قد يؤدي صعود النزعة القومية الحمائية ذات السمات الإقصائية في بلده الأقوى إلى شرعنة وفتح المجال أمام إطلاق نزعات مشابهة نجد بعض مخاضاتها المبكرة في أوروبا، وبعض تجلياتها الواضحة في روسيا والهند وتركيا والفيليبين ومصر. عودة لفكرة الأمة منزوعة من أي صيغ ايديولوجية كونية، ومصحوبة بصورة الرجل القوي ومعه الخطاب الذكوري الإقصائي عن الـ»نحن» والـ»هم». سيتكرس عندها تراجع أفكار من قبيل الديموقراطية وحقوق الإنسان وحماية البيئة وغيرها من تمثلات النزعة الليبرالية الغربية، لصالح سياسات قومانية سلطوية تشبه ما عرفه العالم في حقبة الحربين العالميتين.
ثانياً: فوز الديموقراطيين قد يوقف هذه النزعة ويسمح بوقت للتنفس لكنه أيضاً سيعيد بقوة طرح أسئلة مهمة مثل كيف انطلقت هذه النزعات في بلدان تتفاخر بتراثها الديموقراطي ــ الليبرالي، وكيف يمكن التعاطي مع وضع عالمي مولّد لهذه النزعات، إمّا على شكل حركات دينية عنيفة أو قومية غاضبة يمكنها أن تنتقل إلى الممارسة العنيفة في مرحلة مقبلة. وشخصية مثل هيلاري كلينتون يصعب أن تقدّم إجابة مفيدة عن أسئلة من هذا النوع، وبالتالي حلّاً لإشكالية تتعمق في عالم غيّرته العولمة، ويعيد الانترنت صياغة علاقاته ومؤسساته.
ثالثاً: ربما آن الأوان للشرق الأوسط أن يستفيق من وهم المراهنة على ما سيقرره الغرب حول مستقبل هذه المنطقة، ومغادرة خطاب التشكي الذي يلوم الولايات المتحدة على كل شيء، وعلى الشيء ونقيضه، بما في ذلك إخفاق الربيع العربي أو إشعاله، صناعة «داعش» أو محاربته، معاداة إيران أو التفاهم معها، أو خطاب الاتكال الذي يتصوّر أن المشاكل المعقدة لمنطقة في مخاض تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية هائلة يمكن حلها من خلال نوع القرارات التي يتخذها الشخص الجالس في مكتب الرئيس في البيت الأبيض. ما يحدث في الشرق الأوسط ليس منفصلاً عما يحدث في العالم، لكن ارتباطه بما يحدث في العالم لا يجعله رهينة لأشياء تحصل في مكان آخر، بما في ذلك الانتخابات الأميركية.
على الهامش، هنالك نفاق شرق أوسطي في مواقف الكثير من المنحازين لأي من الطرفين. مثلاً، في نقد الإسلاميين للموقف «التمييزي» الذي يتبناه ترامب ضد المسلمين وهم يمارسون أو يتبنون مواقف مشابهة في بلدانهم من تمييز تجاه غير المسلمين وتضييق تجاه من يغايرهم من المسلمين. وبنفس القدر، هنالك نفاق في دعم بعض العلمانيين لترامب بسبب موقفه المتشدد تجاه «الراديكالية الإسلامية» ودعمه للمستبدين العلمانيين في المنطقة، متناسين المنطلقات الثقافية الإقصائية التي يحتويها خطابه والتي تعد بإنتاج كراهيات وعصبيات لا تختلف كثيراً عن تلك التي ينتجها الإسلاميون.)
باختصار، لا تكمن القيمة الأساسية لهذه الانتخابات بالنسبة إلينا في ما سيفعله أيٌّ من المرشحين، في حالة الفوز، تجاه منطقتنا، على أهمية ذلك، بل في ما سيعنيه صعود أو هبوط أيٍّ من التيارين المتصارعين في عالم لا تزال الولايات المتحدة محركه المركزي.
*باحث عراقي
المصدر: صحيفة "الاخبار" اللبنانية