أصل "البقيع" في اللغة يعني الموضع الذي أرم فيه الشجر من ضروب شتى والغرقد يعني كبار العوسج، فلذا سمي ب"بقيع الغرقد" لان هذا النوع من الشجر كان يكثر فيه ولكنه قطع بأمر من حكام الجور والطغيان وأمراء الانحراف وفتاوى وعاظهم المغفلين .
ويروى أن النبي الأكرم (ص) خرج لنواحي المدينة وأطرافها باحثا عن مكان يدفن فيه أصحابه حتى جاء البقيع، وقال (ص):"أمرت بهذا الموضع" حيث كان يكثر شجر الغرقد ، فسميت به.
فهي مقبرة مقدسة وأرض مشرفة ، قطعة من الجنة تقع الى جوار المسجد النبوي الشريف ومرقد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، تضم مراقد الأئمة الأربعة المعصومين من أهل بيت النبوّة والرسالة (عليهم السلام)، وهم الامام الحسن المجتبى ابن أمير المؤمنين (ع)، والامام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، والامام محمد بن علي الباقر (ع)، والامام جعفر بن محمد الصادق (ع)، وكذلك مراقد كل من: ابراهيم بن رسول الله (ص) وسيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء بنت الرسول الأعظم (ص) سيدة نساء العالمين (برواية)، وبعض زوجات الرسول (ص) من امهات المؤمنين وكذلك عمه العباس بن عبدالمطلب (س) وعماته، وكذلك اسماعيل بن الامام جعفر الصادق (ع)، ووالدة الامام علي أمير المؤمنين (ع) سيدتنا فاطمة بنت أسد (س) وكذلك زوجة الامام علي (ع) سيدتنا أم البنين (س)، ومرضعة النبي (ع) السيدة حليمة السعدية، وجمع من الصحابة وعلى رأسهم الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الانصاري (رض) الى جانب الشهداء والصحابة والتابعين المنتجبين للرسول محمد (ص).
لقد كانت لهذه القبور قباب وأضرحة وبناء، وكان لها صحن وحرم، وغيرها من المعالم التي تدل على قدسية أصحابها، فكانت عظيمة في أعين الناس، شامخة في قلوب المسلمين، محفوظة حرمتها وكرامتها، وقد كان الناس يتوافدون على هذه البقعة المقدسة لزيارة المدفونين فيها، عملاً بالسنة الاسلامية من استحباب زيارة القبور وخاصة قبور ذرية رسول الله (ص) وأولياء الله تعالى .
وبتحريك من الاستعمار البريطاني الخبيث وبتأثير أفكار عدو الاسلام أبن تيمية وعميلهم محمد عبد الوهاب المنحرفة ومبادئهم الباطلة ورواياتهم المزيفة التي لا تمت للاسلام المحمدي الأصيل بصلة، عمدت زمرة الوهابية هذه الفرقة الضالة المضللة المنحرفة التكفيرية الاجرامية الدموية والتي تأسست بمكر الثعلب العجوز البريطاني أواخر القرن الثاني عشر للهجرة الموافق القرن الثامن عشر الميلادي وأبنه غير الشرعي وليد اتفاق الدرعية القبيح بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود بذريعة نشر الدعوة السلفية؛ عمدت وفي الثامن من شوال عام 1344هجري قمري ـ الموافق لـ25 نيسان / إبريل عام 1925ميلادي، الى هدم مراقد الأئمة الاطهار عليهم السلام والصحابة الأبرار في بقيع الغرقد كليّاً وتسويتها بالأرض حقداً منهم على رسول المحبة والمودة والسلام وخاتم النبيين محمد بن عبد الله (ص) وعلى أهل بيته الاطهار وأصحابه الأخيار الذين يرقدون في تلك البقعة الطاهرة.. حيث حولوا مقبرة "بقيع الغرقد" الى تراب ومدر وأحجار بعدما كان مفروشاً بالرخام ونهبوا كل ما كان فيه من فرش غالية وهدايا عالية، وسرقوا المجوهرات واللآلئ التي كانت داخل أضرحة أهل البيت عليهم السلام.
وكانت هذه المقبرة الطاهرة قد تعرضت لهدم جزئي على يد آل سعود وفرقتهم الوهابية التكفيرية الضالة عام 1220 هـ.ق ، وبعد أن سقطت دويلتهم اللقيطة الثانية على يد العثمانيين أعاد المسلمون بناء "البقيع الغرقد"على أحسن هيئة من تبرعات المسلمين، فبنيت القبب والمساجد بشكل فني رائع وعادت القبور المقدسة لأئمة الهدى والهداية السماوية لتكون مرة اخرى محط رحال المؤمنين بعد أن ولى خط الوهابيين لحين من الوقت .
فالعملية الاجرامية الدنيئة بهدم المراقد الطاهرة في "البقيع الغرقد" تتناقض مع كل القيم؛ فهي تحمل طابع التناقض مع ذاتها أولاً، وكذلك مع القيم الدينية ثانياً، ومع الحالة الحضارية ثالثاً، ومع واقع الأمّة الاسلامية وتاريخها رابعاً؛ خاصة وإن التناقض في جريمة هدم مراقد البقيع مع ذاتها هي انه إذا كان هدم القبور واجباً شرعياً، فلماذا هدمت بعضها دون بعضها الآخر؟ .
اما تناقضها مع القيم الدينية، فهو إن هذه البيوت التي هدموها هي من البيوت التي أمر الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها أسمه، حيث قال عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي (من كبار علماء أهل السنة) في كتابه "الدر المنثور": عندما نزل قوله تعالى: "في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله و...." – النور:36، قام رجل وقال: يا رسول الله ما هي هذه البيوت؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنها بيوت الأنبياء. فقام ابو بكر وأشار الى بيت عليّ وفاطمة سلام الله عليهما وقال: هل هذه منها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم، من أفاضلها- رواه عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي في الدر المنثور، ج 6، ص 203؛ وأبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري في الكشف والبيان، ج 7، ص 107، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي؛ وعبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي في الجواهر الحسان في تفسير القرآن، ج 7، ص 107؛ والعلامة أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج 18، ص 174؛ وغيرهم من كبار رواة العامة والخاصة.
يعيش العالم الاسلامي هذه الأيام مرارة الذكرى السنوية الحادية والتسعين للنكبة الاسلامية الكبيرة التي تتمثل في الاعتداء على مقدسات أولياء الله بهدم أضرحة أئمة أهل البيت عليهم السلام المقدسة والطاهرة التي أرتكبتها عصابات التكفير الوهابية والسلفية بدعم من سلطات آل سعود المجرمة ب"البقيع الغرقد" في المدينة المنورة، وكذلك قبور العظماء من صحابة الرسول (ص) والتابعين وهي تستغيث وتستصرخ الضمير الانساني خاصة أدعياء حقوق الانسان والحفاظ على التراث وحرية الرأي والتعبير ومنظمة التعاون الاسلامي الى انقاذها من براثن سطوة آل سعود الحاقدين وفرقتهم الوهابية الارهابية المنحرفة التقتيلية التكفيرية التي يعيثون من خلالها الفساد في الارض .
اولئك الذين يريقون دماء الابرياء ويقتلون البشر ويدمرون الحجر وينتهكون المقدسات السماوية لكل الاديان الالهية، يرسمون من خلاله أعمالهم الإجرامية البشعة لا مثيل لها على وجه التاريخ تعكس حقدهم ودناءتهم وقبحهم وبغضهم وكراهيتهم للمسلمين الحقيقيين والمؤمنين بالخالق المتعال خاصة من أتباع أهل بيت النبوة والامامة عليهم السلام، وإنحرافهم عن القيم الانسانية والاسلامية التي يتشدقون بها والاسلام براء منهم جملة وتفصيلاً، عبدة الدرهم والدينار والسلطة والجبروت والظلم والطغيان مواصلين نهجهم المزيف وانتهاكهم لأبسط القيم وإستهدافهم المقدسات حيث لا ينجو منهم لا مرقد طاهر ولا مسجد عامر ولا مركز للعبادة، والمجتمع الدولي المتشدق بحقوق الانسان وحرية الأديان أصم وأعمى وأطرش بفعل بترودولار السعودية وأخواتها الأقزام .
نزلَ الدمارُ بها وغابَ جميلُها كم كان سِحراً فجرُها وأصيلُها
تلك المنازلُ يالها مِن آيةٍ طابتْ وطاب ترابها ونزيلُها
مالي أرى تلكَ الديارِ حزينةً فلقد سَبانا في البقيعِ مَهيلُها
أضحتْ تؤرّقني المشاعرُ نحوّها بفجائعٍ يُبكي الغيورَ عويلُها
يا فجرُ فانظرْ للديارِ بحسرةٍ فالوجدُ والنوحُ الطويلِ خليلُها.
jameelzaheri@gmail.com