لقد كان اغتيال "اسحق رابين" على يد متطرف في اليمين الصهيوني يعني عملياً المسمار الذي دق في نعش اتفاق أوسلو قبل أن يجف الحبر الذي وقع به في واشنطن وفي أي توجه للجم وكبح نهم الصهاينة في ابتلاع المزيد من الأرض الفلسطينية في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية والضرب بعرض الحائط بأي مسعى يفتح الباب أمام منح الفلسطينيين جزءاً من حقوقهم المشروعة وعلى الأقل حقهم في تقرير المصير وفق ما تنص عليه الشرائع الدولية المنصوص عليها في مواثيق الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة في هذا الشأن ، فما اتضح من عملية الاغتيال يعني الرفض المطلق صهيونياً لنهج رابين مع الفلسطينيين ما بعد الاتفاق ، مما يؤكد النزعة العدوانية التي تعتمر صدور الصهاينة وتعشعش في عقولهم والرافضة لمجرد قبول مبدأ التعايش مع العرب سواء كان مع الفلسطينيين أصحاب الأرض في فلسطين خصوصاً أم مع العرب عموماً ، حيث أن لهم أجندتهم الخاصة وأساليبهم الملتوية في تنفيذ مخططاتهم وأطماعهم وفق أهداف مرسومة يجري تحويلها إلى أرض الواقع بمنهجية تقوم على البلطجة والعدوان والاستيلاء على المزيد من الأرض الفلسطينية في القدس والضفة الغربية وإنشاء المغتصبات التي تحيط بالتجمعات السكانية الكبيرة للفلسطينيين ونشر الفوضى في ربوع الوطن العربي في ظل تجاهل أو تساوق دولي مع ممارسات الصهاينة وهذا اتضح مؤخراً من بيان اللجنة الرباعية الختامي التي اجتمعت للنظر في المبادرة الفرنسية والدعوة لعقد مؤتمر دولي من أجل تنفيذ مشروع حل الدولتين حيث لم يشر لا من قريب ولا من بعيد عن الهدف الذي عقد لأجله ، النظر في التجاوزات المستمرة للكيان الصهيوني التي حولت ما يطرح حول حل الدولتين بل تساوق مع ما كان يطمح إليه نتنياهو وعصاباته المجرمة وقادة الحركة الصهيونية من اليمين الصهيوني المتطرف والآيباك ، اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية والذي يروج أحد أركانه هنري كيسنجر بأن الحرب العالمية على الأبواب وأن الكيان الصهيوني سيحتل أجزاء شاسعة من الأرض العربية ويحرض هذا الكيان على إبادة أكبر عدد ممكن من العرب في هذه الحرب المتوقعة وفق تصوره وكافأت الرباعية الدولية هذا الكيان بإدانتها للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة لمقاومتهم للاحتلال في سبيل الدفاع عن أنفسهم أمام ممارساته اللإنسانية من قمع وتصفيات جسدية في الميدان واستيلاء على المزيد من الأرض الفلسطينية بعد كل اجتماع تشاوري للرباعية الدولية وهذا ما اتضح من خلال ما أعلن عنه نتنياهو من توسيع للمغتصبات الصهيونية في القدس والضفة الغربية بعد البيان الختامي لهذه الرباعية الدولية .. فتساوق الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي مع سلطة الاحتلال يقدم الغطاء والحماية الدولية واللوجستية والعسكرية للممارسات الصهيونية الحاقدة ويدفعها قدماً في السير بخطاها نحو هدم أسس أي تعايش ممكن أن يقوم على العدل والإنصاف في المنطقة في ظل انشغال العرب بترتيب وضع أقطارهم داخلياً أمام تداعي أسس منظومة الأمن والأمان في غالبية تلك الأقطار بصنع غربي صهيوني ممنهج . . ولمن لا يعلم فإن الصهاينة في تفكيرهم يعتبرون أنفسهم أنهم فوق كل قانون ، لا تحكمهم شريعة سوى شريعة الحقد والكراهية والغاب ضد غير بني جلدتهم من عرب وغير عرب حتى لمن يقدمون لهم الدعم والحماية .. ويرون أنفسهم أنهم الأعلى بين كل البشر ويسعون لبرمجة هذا العالم ليكون اليد الطيعة في أيديهم لإقامة دولتهم التي تفرض سطوتها على العالم بأسره بالجبروت والعدوان المستمر فأطماعهم لا حدود ولا نهاية لها وأن الحائل دون تحقيقهم لأوهامهم التي يرسمونها في مخيلاتهم هم أبناء فلسطين المحتلة ومن يقف إلى جانبهم في الجدار العربي والإسلامي والقوى الخيرة في هذا العالم ، المعين لهم على الصمود ومواصلة التحدي في وجه هؤلاء المغتصبين.. لقد كان اغتيال رابين رسالة واضحة لكل من سيخلفه بأن يكون مصيره كمثله لدى التزامه بمواثيق وعهود تعطي الفلسطينيين حق تقرير المصير والحق في إقامة دولتهم المستقلة حتى ولو على جزء يسير من أرض آبائهم وأجدادهم في فلسطين .. لأن ذلك يعني وفق تصورهم انتهاء الحلم الصهيوني بفرض إرادتهم على العالم بأسره من خلال إقامة دولتهم التي ستحكم العالم الجديد الذي تغنى به بوش الإبن بعد احتلال العراق بالعهد القديم " التوراة ". . وقد زاد الأمر سوءاً ما دهم أرض العراق في العام 2003 من احتلال أمريكي بعدوان ستيني أسقط نظام الحكم فيه والذي كان قادته الداعم الرئيسي لانتفاضة الأقصى فادلهمت نذر الشؤم على الأرض العربية التي أصبحت بحاجة ماسة لإعادة ترتيب أوراقها لدرء الأخطار التي تسوقها الإدارة الأمريكية لمنطقتنا العربية وتبشر بخلق فوضى اعتبرتها خلاقة لتفتت أركانها وتتركها عاجزة عن حفظ أمن سكانها وحدودها خدمة للمخطط الصهيوني الذي يسعى للهيمنة على كل المنطقة العربية التي جرى ترتيب أوراقها في نهاية الحرب العالمية الأولى وفق اتفاقية سايكس بيكو لشرذمتها من جديد والدفع بمكوناتها نحو الاقتتال الدامي حتى لا تقوم لها قائمة وتبقي العلاقة بين هذه المكونات وفق ما يقول المثل الشعبي " حط حيلهم بينهم". . ولو تتبعنا الممارسات الصهيونية في الضفة الغربية منذ عام 1967 وحتى الآن والتي ارتفعت وتيرتها بتسارع أشد وأقوى بعد أوسلو واحتلال بغداد وإخراجها من المعادلة الإقليمية لوجدنا أن مجموع ما يسيطر عليه الكيان العبري من الأراضي الفلسطينية بذرائع ومُسوغات مختلفة يربو عن 50% من إجمالي مساحة الضفة الغربية والقدس ، ما بين أراضي دولة ومناطق عسكرية مغلقة ومناطق إطلاق نار ومغتصبات صهيونية أقيمت على أراضي فلسطينية خاصة .. ناهيك عن شبكة الطرق الإلتفافية الصهيونية الخاضعة للحراسة الأمنية لجيش الإحتلال الصهيوني والبالغ طولها نحو939 كلم حيث تحتل إقامتها على مساحة 120كلم² من الأراضي الفلسطينية أي ما يشكل 2.1% إضافية من إجمالي مساحة الضفة الغربية.. ناهيك عن سيطرة الكيان العبري على 139 ألف دونم على شواطىء البحر الميت وما أعقبها من مصادرة 410 الف دونم أخرى أعلنت عنها كأراضي دولة لتوسيع مستوطنة معالي أدوميم باتجاه البحر الميت في كانون الثاني من العام الماضي بمجموع (549000 دونم - 549 كلم مربع - 9.6 % من مساحة الضفة الغربية. ولا يفوتني هنا من أن أسلط الضوء عن الحفريات الصهيونية في القدس عاصمة الدولة الفلسطينية الأبدية وبالذات حول وتحت المسجد الأقصى بهدف البحث عن وهمهم المزعوم بالعثور على هيكل سليمان الذي لا أساس له إلا في مخيلة وأوهام بنات أفكارهم .. وقد أنشأوا لهذا الغرض كنيساً تحت أساساته وما زالت أعمال الحفر مستمرة وتهدد بانهياره كاملاً في أية لحظة مضافاً إلى ذلك محاولاتهم المستمرة تدنيسه من قبل مهووسية من المغتصبين بدعم من القيادتين السياسية والعسكرية الصهيونية.. فما يقوم به الكيان الصهيوني من مصادرة للأرض الفلسطينية بإعلانها أراضي دولة أو املاك حكومية أو غائبين أو تحت أي من الذرائع ما هو إلا مُحاولة صهيونية غير شرعية للالتفاف على القانون الدولي والإنساني والأخطر من ذلك محاولة قادة الكيان الغاصب الالتفاف على واقع أنه يمثل دولة احتلال وأن كافة القوانين التي يسنها بصفته سلطة قائمة بالاحتلال، باطلة ولاغية، وأن احتلاله للضفة الغربية والقدس هو غير شرعي وفقا للقرارات والشرائع الدولية وما صدر عن هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وبصفة خاصة ما صدر عن مجلس الامن الدولي بهذا الشأن حيث أن كافة ما قامت به تل أبيب منذ حزيران 1967 وحتى الان وفق تلك الشرائع والقرارات باطل ولاغٍ بما في ذلك مُصادرة الأراضي بكافة أنواعها وبناء المغتصبات والبؤر الاحتلالية وجدار الفصل العنصري وهدم المنازل وتدمير الممتلكات والمس بحرية التنقل وكل ما قامت وتقوم به من إجراءات توسعية هو غير شرعي وعلى العالم أن يعي جيداً بأن محاولات الكيان الغاصب تنصيب نفسه كوريث للضفة الغربية والقدس منذ العام 1967 غير قانوني وغير صحيح بحكم الشرعية والمعاهدات والمواثيق الدولية.
وبالعودة إلى ممارسات سلطة الاحتلال للتهرب من التزاماتها في تنفيذ ما جرى التوقيع عليه في واشنطن في العام 1993 وفق أسس ومبادئ وثيقة أوسلو من خلال تصفية من قام بالتوقيع على وثيقة واشنطن من الصهاينة رابين فقد انقضى العام 1999 دون أن يتحقق أي شيء نحو التوجه لتمكين السلطة الفلسطينية من ممارسة حقها في تسيير الأمورعلى أراضي الضفة الغربية بل تمادى الاحتلال في غيه بالاعتداء على المسجد الأقصى بمحاولة تدنيسه من خلال قيام شارون محاطاً بثلاثة آلاف جندي من جيش احتلاله في العام 2000 باقتحام المسجد الأقصى مما أثار حنق السلطة الفلسطينية والشعب العربي في فلسطين فانفجرت الانتفاضة الثانية ، انتفاضة الأقصى ، حيث تحللها أعمال عنف ومقاومة مسلحة قام العدو إثرها باقتحام واجتياح مناطق السلطة الفلسطينية بعد قصف مقارها ومراكزها الأمنية بطائرات إف 16 المتطورة جداً والأباتشي ودروعه ومشاته ومغتصبيه وحصلت مواجهات دامية واشتعلت الأرض تحت أقدام الغزاة وركز العدو هجماته على المدن ومخيمات اللجوء الفلسطينية في الضفة الغربية وتمثلت باقتحام رام الله أولاً مركز تواجد قيادة السلطة الفلسطينية ورئيسها الرئيس الشهيد ياسر عرفات وحصاره في مقر إقامته برام الله حتى جرى تسميمه من قبل سلطات الاحتلال وبتوجيه من أجهزة مخابراته من شاباك وموساد وبأمر من شارون ، وكانت أشد المعارك شراسة معركة مخيم جنين التي دمر فيها العدو الغاشم هذا المخيم بعد معارك طاحنة جرت حوله وداخله بعد اقتحامه واستمرت طويلاً رغم عدم تجاوز مساحته الكيلو منر المربع الواحد. واستمرت هذه الانتفاضة لسنوات عديدة زج فيها بالآلاف في سجون الاحتلال من أبناء المناطق المحتلة كما سقط الآلاف من الشهداء والجرحى ، وأقيم بعد ذلك جدار الفصل العنصري الذي ابتلع مساحات شاسعة من أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية وشدد بموجب هذا الجدار الحصار على التجمعات السكانية الفلسطينية في المدن والقرى بتلك الجدر إلى جانب الشوارع الالتفافية التي يجري إنشاء المزيد منها بين فينة وأخرى لإحكام الحصار والاستيلاء على المزيد من الأراضي وعرقلة تحركات الفلسطينيين بين مناطق تجمعاتهم وتحويلها لكنتونات أشبه بالغيتوهات التي كان يتعايش فيها اليهود في مناطق تجمعاتهم في العالم الغربي مع فرق أن تلك الغيتوهات كانت من صنع أيديهم ولم تكن محاصرة من الدول التي يتواجدون فيها بعكس الكونتونات الفلسطينية التي أحاطها الاحتلال بالحواجز ومغتصبيه لتضييق الخناق على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. واستمرت المعاناة والتشدد الصهيوني في ممارساته وتفننه في كيفية تشديد الحصار على الفلسطينيين وعرقلة تحركاتهم والتمادي في اعتداءاته على المسجد الأقصى المبارك الذي وبموجب معاهدة وادي عربة الموقعة بين الجانبين الأردني والصهيوني أصبح تحت الوصاية الهاشمية ، وجرى الاتفاق أردنياً وفلسطينياً على ذلك في مارس/ آذار 2013 حيث وقّع جلالة الملك عبدالله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، اتفاقية بهذا الشأن تعطي للأردن حق”الوصاية والدفاع عن القدس والمقدسات “ في فلسطين. لكن العدو الصهيوني المعروف عنه أنه لا يلتزم بأي اتفاق وناقض للعهود والمواثيق استمر في انتهاكاته وحاول وما زال يحاول فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى ليعطي الحق للصهاينة ممارسة طقوسهم فيه والاستيلاء عليه تمهيداً لهدمه وإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه .. هذه الاعتداءات حين اشتدت وتيرتها انطلقت الانتفااضة الفلسطينية الثالثة ، انتفاضة القدس ، التي ما زالت مستمرة حيث سأتناول الحديث عنها في الحلقة السادسة من حيث أسبابها ومبرراتها وتداعياتها وتفاعلاتها فلسطينياً وإقليمياً ودولياً.
النكسة ما زالت آثارها مستمرة (5)
2016-07-09
بقلم: عبدالحميد الهمشري