2024-11-27 11:44 م

وداعاً أوباما!!

2016-02-07
المصدر: عبد الله زغيب
في 20 أيار 2009، أصبح باراك حسين أوباما الرئيس الـ44 للولايات المتحدة الأميركية. يومها كان وجه الرجل الأسمر وضحكته العريضة ولكنته المنمّقة صاحبة المعجم الاصطلاحي «الفاره»، موضع إعجاب منقطع النظير من فئات مجتمعية واسعة في المنطقة العربية وغيرها من بقاع «عالم الجنوب» الفقير، بكل تنوعاته وتناقضاته العرقية والدينية والوطنية. فلم يحدث من قبل أن خرج رئيس أميركي على الناس، من دون «هيئة خَلقية» و«هندام متوارث» لا يتواءمان مع الصورة النمطية لسادة البيت الأبيض طوال العقود الماضية، خصوصاً أن سلفه المباشر جورج بوش كان «كاوبوي» من الغرب الأميركي، ينشط في قطاع «المدقات» النفطية الأميركية الشهيرة، ويتحدث بـ «وطنية هوليوودية» في كل مناسبة تتطلب ظهوره الثقيل على أجهزة الإعلام، التي لم تستلطفه طوال فترة حكمه، حتى جاءها رئيس شاب، وبسحنة رجل شارع عادي، لم ولن تنسجم على الإطلاق مع الصور التذكارية المنتشرة في أروقة البيت الأبيض، لمن سبقه من الرؤساء.
يومها، أربك الحدث النخب العربية الحاكمة. فهي باشرت قبل وصوله بإجراء سلسلة محادثات استباقية و «طبيعية» مع الجهاز الأميركي الحاكم في المرحلة العازلة بين رحيل بوش الإبن عن الكرسي الرئاسي ومجيء باراك أوباما. فالكل هنا يخشى التقلبات الأميركية، مهما بلغت جدية التطمينات الموزعة من ضباط الارتباط في الاستخبارات المركزية الأميركية، أو حتى من الجهاز القنصلي الأميركي والمعاونين على كثرتهم في وزارة الخارجية في واشنطن أيضاً. السؤال المركزي كان وقتها، هل ستتغير أميركا فعلاً؟ وماذا عن تقييم الرجل لمنظومة العلاقات التاريخية لواشنطن مع حلفائها في الإقليم العربي؟ خاصة بعد ترسخ قناعة لدى الأنظمة العربية الحاكمة منذ مرحلة كامب ديفيد الأول، مفادها أن الإدارة الأميركية لا تنسج سياساتها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من دون مراعاة حلفائها «الراسخين» كإسرائيل وتركيا ودول «مجلس التعاون الخليجي» ومصر. لكن الاهتزاز الذي أصاب هذه القناعة، انطلق من تسويق «فريق اوباما» طوال فترة الحملة الانتخابية، لفكرة الذهاب نحو الهادئ، وهي فكرة ترجمها «أصدقاء» واشنطن في المنطقة بمقدمة للرحيل الأميركي عن الخليج والبحرين الأحمر والمتوسط.
مهمة «الهادئ»: احتواء الصين
اهتمام أوباما بالاتجاه نحو الهادئ لم يكن مجرد تحليلات وتوقعات في نهاية المطاف. فقد باشر الرجل في التخطيط لتعزيز الوجود الأميركي هناك، خصوصاً في «قاعدة داروين» البحرية شمالي استراليا، وهو ما تم تنفيذه لاحقاً في تشرين الثاني من العام 2011 عبر إرسال ألفين وخمسمئة جندي من مشاة البحرية الأميركية إلى القاعدة، ما أثار عندها صخباً ديبلوماسياً صينياً. وهو العام ذاته الذي شهد إطلاق وزيرة خارجية اوباما وقتها هيلاري كلينتون، للتصريح «المدوّي» عن أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن المحيط الهادئ بالنسبة للولايات المتحدة خلفاً للمحيط الأطلسي. أميركا في تلك الأثناء نشطت من خلال قناعات أوباما التي انطلقت من تأثيرات قطاع الأعمال، حيث أظهرت مخرجات الازمة المالية العالمية 2007-2008 أن الصين باتت أحد أكثر اقتصادات العالم «مناعة» في وجه التبدلات الخارجية، مع ملاءة مالية ضخمة واحتياطات دولارية هائلة، بالتوازي مع الواقعية القائلة بأن نصف سكان الأرض ونصف ثقلها الاقتصادي يتواجدان في القارة الآسيوية. كل هذا أحيا «ميلاً» أميركياً جديداً، نابعاً من اعتبارات تمس الأمن القومي من منظور سلة المصالح الإستراتيجية، المتصلة عضوياً بالمدى الحيوي الأميركي. وهكذا أصبحت عملية «احتواء» الصين، «أولوية» أميركية بامتياز.
الخليج والخشية من رحيل الأساطيل
أدركت دول الخليج قبل غيرها أن الأساطيل الأميركية لن تبقى طويلاً في المنطقة، أو على الأقل لن تكون بالكثافة ذاتها ولا الثقل ولا حتى النزعة الدائمة نحو الانخراط المباشر، خصوصاً بعد الإنهاك القياسي الذي تعرضت له في الجبهتين العراقية والأفغانية، وبالتالي استشعر «الأصدقاء» رغبة أميركية بالتخلي عن رومنسيات «النخب المرفوع» في أرض الحجاز. وهي كانت رغبة مبررة الى حد ما. لكن التزامن «التاريخي» غير المقصود، ما بين توجه اميركي نحو الرحيل، وانطلاق «الربيع العربي» بكامل زخمه، أثمر إعادة تموضع نفذها الجميع، وعلى رأسهم الأميركي. فلم تكن الانهيارات السريعة على المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية سوى مقدمة لإطلاق مقاربة أميركية مختلفة للتعاطي مع المنطقة، على ان تتخلى ادارة اوباما عن فكرة الرحيل مؤقتاً، في سبيل ايجاد سياسة «وسطية» ما بين تخفيف زخم «الانخراط» المباشر، وعدم التخلي عن منظومة العلاقات الإقليمية. علماً أن الأخيرة ضمنت لواشنطن سلّة مصالحها المتكاملة ولعقود من الزمن.
يوم أرادت الولايات المتحدة الرحيل عن المنطقة، ظنت لوهلة «مارقة» من التخطيط غير العميق والمستبعد للطارئ من تناقضات العالم العربي، أنها ستترك شرق أوسط «مهجّناً» بامتياز. فالعدو المتمثل بعراق صدام حسين، تم تحييده نهائياً من خلال غزو العام ألفين وثلاثة، فيما خضع العدو الآخر والمتمثل بإيران الجمهورية الإسلامية، لسلسلة عقوبات اقتصادية منهكة، كانت لتضمن في حال نجاح مفاعيلها، ضعفاً إيرانياً متراكماً وعجزاً عن التمدد في الساحات التي ارتضت لها الولايات المتحدة وحلفاؤها واقعاً مخالفاً لمشيئة الإيرانيين وخلفائهم في الإقليم. الواقع «المدرك» أميركياً هذا، أظهرت أحداث «الربيع العربي» مدى عدم صوابيته.
الفوضى «غير الخلاقة» و«تجدد» الانخراط الأميركي
أثمرت «الفوضى العربية» واقعاً شديد التناقض، تداخلت فيه الاعتبارات التاريخية بالآنية، وبنيت صراعاته على أجندات عرقية ومذهبية. وقف حينها الأميركي ليسجل قوة الاهتزازات التي أصابت الحلفاء قبل الأعداء، خاصة في مصر وتونس والبحرين واليمن، مع إرباك واضـــح في التعاطي مع الملف السوري بداية الأمر، لما يتداخل فيه من اعتبارات تتـــعلق بالأمن الإسرائيلي والأمنين التـــركي والعــــراقي، وحتى مع ما ارتضته الإدارة الأمـــيركية ولفترة طويلة، من عـــلاقة وشراكة مع النظام السوري برعاية سعودية، وإن بمنسوب حفظ لسوريا حيز مناورة خاصاً بها، لا سيما في الملفات اللبنانية والفلسطينية. وبالتالي باتت ادارة باراك اوباما امام سلسلة استحقاقات جـــديدة، لا يمكن ان يتم التعامل معــها الا انطلاقاً من قراءة جديدة وإن بخلفية قامت في معظمها على تفسير الصقـــور في معسكر أوباما، خصــــوصاً هيلاري كلينتون، لتركة حقبة بوش وبالتحديد فكرة «الفوضى الخـــلاقة». مع مرور الوقت، أعادت الولايات المتحدة الانخراط الكامل في الإقليم، انطلاقاً من تفسير باراك أوباما لطبيعة المصلحة الأميركية في ظل الانقسام التاريخي الذي تعيشه المنطقة ما بين معسكرين واضحين، بمعزل عن التناقضات التي تتحكم بجزئيات هامشية بين اقطاب المعسكر الواحد. وهكذا تحول الواقع في دول «الربيع العربي» الى نماذج جديدة أعقبت رومنسيات «الرحيل» وتظاهرات الميادين، تتنوع ما بين حرب خارجية على اليمن تسير بالتوازي والتكامل مع حرب اهلية انفصالية ما بين الجنوب والشمال، وحرب أهلية جزئية على شاكلة التمردات المتنقلة كما يجري في سوريا، تتداخل فيها مصالح الرعاة والمنخرطين من المعسكرين، وحرب اهلية خالصة كما يجري في ليبيا، وانهيار لمنظومة «الأمن الاستباقي» كما يجري في مصر وصراعها مع الميليشيات في شبه جزيرة سيناء وكذلك الانسلاخ المجتمعي الهائل الذي تُرجم بتحييد «قسري» شبه كامل لـ «الإخوان المسلمين» عن الساحتين السياسية والشعبية، ونماذج عربية اخرى كاستمرار الحراك السلمي في البحرين مع القطيعة ما بين الحكم وغالبية المواطنين، إضافة للنزف المجتمعي والأمني والسياسي الدائم في العراق منذ الاحتلال الأميركي العام 2003.
أخطأ باراك اوباما قبل غيره من الزعماء في قراءة الحيّز الزمني المتوقع لانتهاء الأحداث. فالانهيار «السطحي» السريع في «واجهة» النظامين المصري والتونسي، والانهيار الدموي، غير المكلف غربياً، لنظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، كوَّنا وعياً خاصاً وخلفيّة مسبّقة لتوقع المقبل من احداث على الساحات الأكثر «أهمية» في القراءتين الأميركية والعربية، وبالتحديد في سوريا واليمن. وبدت ملامح الأخطاء هذه في سلسلة التوقعات «المتسرعة» بانهيار النظام في الشام مع كل اقتراب سنوي لحلول أعياد إسلامية كعيدي الفطر والأضحى.
«صمد» النظام في دمشق. أدار معارك الأطراف. ربح مدناً وقرى وخسر أخرى، واستعان بـ «الصديق والشقيق». لكن النتيجة بقيت على حالها، وهي نتيجة تتخطى «الغالب والمغلوب» إلى نموذج أكثر إرباكاً. الواضح الوحيد فيه، أن النظام ما زال موجوداً، وإن بامتداد مختلف عن مرحلة ما قبل «الثورة». لا يختلف الأمر كثيراً في الحالة اليمنية، التي لم تنجح فيها قوات «عاصفة الحزم» سوى بإعادة إنتاج خط الحرب الفاصل ما بين المتنازعين في الصراع الأهلي الانفصالي العــــام 1994 بين قوات الزعيم الجنوبي علي ســــالم البيض وقوات الرئيس على عبدالله صالح.
«تركة» أوباما.. واقعية أميركية جديدة
في أميركا، يرحل الرئيس قبل أوانه دوماً، حيث تحوله أخبار المتنافسين «الجمهوريين» و «الديموقراطيين» وانتخاباتهم التمهيدية الحزبية، إلى شخصية سياسية «هامشية» من المنظور الشعبي في الولايات المتحدة. وهذا يتمدد الى أماكن النفوذ الأميركي ما وراء البحار، حيث يحاول غالبية حلفاء واشنطن وخصومها، إدخال الملفات المتشابكة معها في مرحلة «سبات» قسري، ويشرعون في عملية بناء تصورات جديدة لطبيعة السياسة الخارجية المقبلة مع الرئيس العتيد، بناء على الخطابات والوعود والعهود التي يطلقها هؤلاء في سباقهم الانتخابي المحموم. وبالتالي، فإن ملامح وداع الرئيس الأميركي «غير التقليدي» بدأت، ومعها عملية مكثفة لـ «استنباط» وجهة البيت الأبيض المقبلة، خاصة أن حلفاء اميركا في المنطقة، حافظوا طوال الفترة الماضية على وتيرة شبه موحدة لتفسير الأحداث، مفادها أن أميركا لم تكن بالزخم المطلوب طوال فترة رئاسة أوباما. وبالتالي فإن انخراط دول كالسعودية وتركيا في صراعات وحروب بشكل مباشر أو غير مباشر، كان في سبيل الدفاع عن مشاريعها ومصالحها بانتظار «الصحوة» المتوخاة في البيت الأبيض. لكنها قراءة قد تصطدم مجدداً بواقعية أميركية بات من الواجب عليهم التعاطي معها، وبناء سياساتهم وتحركاتهم على أساسها، في ظل معطــــيات تخطت قدرة الغرب بأكلمه على حرف الحدث، ومنها فشل سياسة احتواء الصين، وعودة الروس بثـــلاثة ارباع قوتهم زمن الاتحاد الــسوفياتي، وكذلك اقتــناع الأمــيركيين ومعهم أوروبا وبفعل الضرورة، أن إيران لم تعد دولة مارقة أو «شريرة».