كتب د. محمد السعيد إدريس
يعتقد بعض قادة اليسار «الإسرائيلي» المأزوم أمام السطوة المتزايدة لنفوذ تيارات اليمين الأصولية- التوراتية المتطرفة في أوساط الدولة والمجتمع بالكيان الصهيوني، أن الكيان بات معرضاً لدفع أثمان لم تكن متوقعة لدعوة تحويل «إسرائيل» إلى «دولة يهودية». كان بعض هؤلاء يتصورون أن دعوة الدولة اليهودية هي مجرد دعوة ذات أبعاد قومية وسياسية، بمعنى جعل «إسرائيل» دولة استيعاب لكل يهود العالم من ناحية، والتوسع والتهويد في القدس والضفة الغربية ؛ لتصبح أرض فلسطين التاريخية هي أرض الدولة اليهودية، لكن الواقع بات يفرض أبعاداً جديدة أبرزها ما يمكن اعتباره «تديين» الدولة، أي جعلها دولة دينية، واستبعاد كل ما هو مدني أو حتى ديمقراطي، وبمعنى آخر إقامة دولة أخرى بديلة غير دولة «إسرائيل» كما هي معروفة والانحراف بها في مجرى تأسيس الدولة الدينية الأصولية.
هناك معالم كثيرة تؤكد هذا التحول ،بعضها يخص الدولة وبعضها يخص المجتمع. من بين المعالم التي تخص الدولة يمكن إدراج صعود قيادات يمينية دينية على رأس الأجهزة الأمنية بكافة أنواعها، فبعد أن أصبح يوسي كوهين رئيساً للموساد، بات من الممكن القول إن ثلاثة من بين أربعة أجهزة أمنية «إسرائيلية» صارت تحت قيادة رجال متدينين يرتدون القبعة أو القلنسوة اليهودية الشهيرة المعروفة باسم «كيبا» هم إضافة إلى يوسي كوهين كل من يورام كوهين رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، وروني الشيخ ليغدو المفتش العام للشرطة، ولم يبق خارج هذه الدائرة سوى الجنرال غادي ايزنكوت رئيس أركان الجيش.
وجاء انضمام الزعيم الديني المتشدد ارييه درعي وزيرا للداخلية ليكمل الشكل العام لأجهزة الأمن التي باتت تخضع لقيادة رجال ينتمون إلى التيار الديني المتشدد. فقد وافقت الحكومة على تعيين درعي (56 عاماً) زعيم حزب «شاس» المتشدد، والذي كان يشغل منصب وزير تطوير الجليل والنقب، وزيراً للداخلية في الوقت الذي تم فيه تجديد زعامة بنيامين نتنياهو لحزب الليكود، في انتخابات داخلية مبكرة أرادها نتنياهو، وكان من المقرر أن تتم في 23 فبراير/ شباط المقبل، ولكن عدم تقدم أي مرشح منافس على المنصب حتى لحظة إغلاق باب الترشيح يوم الأحد الماضي (2016/1/10 ) جعل من نتنياهو مرشحاً أوحد وفائزاً بالتزكية كرئيس للحزب، ومرشحاً لمنصب رئيس الحكومة في الانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2019.
وصول هؤلاء القادة اليمينيون للمناصب العليا في الأجهزة الأمنية على وجه الخصوص يعكس تحولاً مهماً في أدوار النخبة الدينية اليمينية على حساب النخب الديمقراطية أو المدنية من تياري اليسار والليبراليين التقليديين الذين كانت لهم الغلبة في إدارة الدولة الصهيونية في العقود الماضية، على نحو ما ذكر الكاتب «الإسرائيلي» بن كاسبيت في صحيفة «معاريف» بأن «معتمري القبعات الدينية يصلون إلى المواقع العليا لأنهم موجودون، أو لأن لهم وجودهم الفعلي. فهم يتجندون ويتطوعون ويتقدمون ويضحون ويندمجون، ويستحيل توجيه اتهامات لهم على ذلك». على العكس من تقاعس نخب التيارات الأخرى التي بدت مهزومة وعاجزة عن القيادة.
لم يشأ الكثيرون أن يقدموا تفسيرات علمية لظاهرة عجز التيارات اليسارية والليبرالية عن قيادة الدولة مقارنة برموز التيارات الدينية المتشددة التي أخذت قائمة أسمائهم تمتد في معظم مواقع النفوذ في الدولة. فهذا العجز أو الفشل له جذوره الاجتماعية، وهي أن المجتمع «الإسرائيلي» يتحول نحو التطرف الديني، أو بالتطبيع الثقافي مع أطروحات التيارات الأصولية الدينية حتى تلك التي أخذت تتحدث وتعمل من أجل بناء «المملكة اليهودية» على أنقاض دولة «إسرائيل» الحالية على غرار جماعة «تدفيع الثمن» تحت رعاية الحاخام اسحق غينزبرغ التي لا تعترف بالدولة وتؤمن بمرجعية هيئة عليا تملي عليهم كيف يتصرفون. فهم يحتقرون الديمقراطية وما يعتبرونه «أكذوبة حكم الشعب» يرون المرجعية دينية بالمطلق.
ميل المجتمع «الإسرائيلي» لهذا التيار تجاوز حدود الإنصات له أو الاعتراف به، بل أضحى يؤيده ويدافع عنه على نحو ما تكشف في الأسابيع الأخيرة بعد أن اضطر جهاز الأمن الداخلي إلى إعلان نتيجة تحقيقاته في الجريمة البشعة التي ارتكبها متطرفون ينتمون إلى «شبان التلال» من أبناء المستوطنات بإحراق عائلة «دوابشة» من قرية «دوما» الفلسطينية.
حدث هذا التعاطف مع المجرمين القتلة على كل المستويات «الإسرائيلية» بما فيها شخص رئيس الحكومة نفسه نتنياهو، على الرغم من نص الاتهام الموجه من «الشاباك» ضد هؤلاء المجرمين والذي تضمن أن أعضاء هذه المنظمة يقولون إنه «لا حق لدولة («إسرائيل») في الوجود، وأن حلمهم هو إسقاط النظام «الإسرائيلي» بواسطة العنف والتمرد من أجل تنصيب الملك».
وعلى الرغم من عرض الفيلم الذي جرى تحريزه كدليل على الجريمة ، وتضمن احتفال عرس اثنين من أعضاء المنظمة بعد ارتكاب الجريمة مباشرة، كانوا يرقصون خلاله بهستيرية وهم يحملون بأيديهم سكاكين وأسلحة يلوحون بها تحدياً لمن يقف في طريقهم.
نتنياهو انتفض للدفاع عن هؤلاء المجرمين الذين أكد جهاز «الشاباك» أنهم من جماعة شبيبة التلال برئاسة يمكر ايتينغر حفيد الحاخام مائير كاهانا والتي كان مركزها في بؤر عدة في شبلا، وتطورت في تطرفها عملاً بتعليمات الحاخام اسحق غينزبورغ المتطرف. فقد حرص نتنياهو على تقزيم الجريمة أو «تصغير الإرهاب» نظراً لصغر سن مرتكبي هذه الجريمة، ومقارنتهم بما اعتبره «الإرهاب الكبير» الفلسطيني ضد الدولة ««الإسرائيلية»».
وضع نتنياهو معياراً جديداً من وجهة نظره للإرهاب: إرهاب صغير يجب التغافل عنه والتهوين من شأنه، وعدم اعتباره ظاهرة، وذلك الإرهاب الكبير الذي يقوم به، من وجهة نظره أيضاً «إرهابيون فلسطينيون» يجب أن يحظى بالأولوية للتصدي له.
وجاء كتّاب ومثقفون ينسجون على أنغام نتنياهو ويزعمون أن هؤلاء الإرهابيين اليهود «الصغار» ليسوا نتاج الثقافة الحاخامية الاستيطانية ، بل نتاج «الرد عليهم» أي أنهم «مجرد رد فعل» لمظالم مجتمعية، في محاولة دؤوبة لنفي أن هؤلاء الإرهابيين لم يخرجوا من رحم الحركة الأمة، ولم يتربوا ولم يترعرعوا في أحضان حاخاماتها، ولم يتعلموا «نظرية الملك»، أي إقامة المملكة اليهودية وإعادة بناء هيكل سليمان من إرث الخلايا السرية اليهودية التي لعبت دوراً أساسياً في تأسيس الدولة الصهيونية.
الأمر لم يتوقف على ذلك، بل بدأ الهجوم على جهاز «الشاباك» نفسه واتهامه أنه انتزع اعترافات من المتهمين بارتكاب الجريمة تحت التعذيب، وتأكيد أن المستشار القانوني للحكومة يهودا فينشتاين أعطى «للشاباك» تصريحاً باستخدام التعذيب لانتزاع اعترافات في التحقيق.
معالم التحول المجتمعي في «إسرائيل» باتجاه إقامة «دولة دينية بديلة» يؤكدها تنامي وعي شعبي ونخبوي بأن القضية المحورية الآن في «إسرائيل» لم تعد مركزة حول «كيف يمكن الحفاظ على الدولة، بل في كيف يمكن عدم إفشال إقامة دولة دينية»، ولعل هذا ما يفسر دوافع الحملات التي شنها مستوطنون بينهم وزراء على جهاز «الشاباك» بعد اعتقاله خمسة من المتطرفين بتهمة ارتكاب جريمة إحراق عائلة «دوابشة»، فقد تأكد أن هذه الحملة يقودها حاخامات ورجال سياسة، في مؤشر مهم مفاده اختلال التوازن الذي كان قائماً بين العلمانية والفكر الديني لصالح الأخير، لدرجة أن فتاوى الحاخامات باتت تنافس نصوص القانون المدني، وبات حاخامات اليهود لا يتورعون عن الإفتاء ليس فقط بسرقة العربي واغتصاب أرضه وأملاكه، وإنما أيضاً بقتله حتى لو كان رضيعاً، باعتبار أن ذلك «تقرباً إلى الله»، حتى وصل الأمر الآن إلى درجة البحث في أيهما يملك الصلاحية الأعلى القانون أم الشريعة، القائد السياسي أم الزعيم الديني.
هذه المعالم التي تؤكد أن المجتمع «الإسرائيلي» بات يميل نحو الأولوية للمرجعية الدينية على حساب المرجعية القانونية، وتنامي تغلغل قادة التيار الديني في المناصب العليا السياسية والأمنية بالدولة، وتطبيع العقل الشعبي للقبول ب «الإرهاب الأصولي التوراتي» والإنصات لدعوة إسقاط الدولة وإقامة الدولة الدينية، أي بناء «مملكة الرب» ورمزها في إقامة الهيكل المزعوم، وهو ما يسمونه حالياً ب «الثورة الإيمانية» وعلو شأن تيار «المتعطشين للانبعاث» أي انبعاث المسيح مجدداً لبناء «مملكة الرب»..كلها معالم لم تحدد أفق تطور المجتمع والدولة في الكيان الصهيوني، وهو أفق لا يختلف كثيراً مع الأفق الذي يبشر به تنظيم «داعش» لبناء «الخلافة الإسلامية»، ما يعني أن دعوة الدولة الدينية في «إسرائيل» لم تعد مجرد شعار سياسي أو مزايدة سياسية للمزيد من الاستيطان والتهويد للأراضي الفلسطينية المحتلة ،بل هو تطور خطر وحقيقي جوهره ما يسمونه ب «الثورة الإيمانية».
المصدر: الخليج الاماراتية