داليا قانصو
لم تأت أقل أمنيات الليبيين طموحاً بنهاية العام قريبةً مما اشتهوا. فالتهنئة من الرئيس الأميركي باراك أوباما بذكرى استقلالهم الـ64 كانت آخر ما ينقصهم، وشكلت فرصة للتهكم على تدخل دولي «قطعهم في أول الطريق»، وتحوّل في العام الخامس لـ «الثورة» إلى نقمة، بعدما أوصل البلاد إلى حرب أهلية، ووضع اقتصادي يتدحرج نحو القعر، مع أكثر من مليوني نسمة بحاجة ماسة إلى مساعدة إنسانية عاجلة في ليبيا الغنية بالنفط، والتي تقف رغم ذلك، على حافة الهاوية الاقتصادية والاجتماعية. أما الحديث عن دولة فاشلة، فيطرح تهكماً آخر، يصب في خانة ما إذا كان هناك دولة في الأصل.
وإذا كان من حصيلة ليبية لنهاية 2015، فقد تفيد ربما الإشارة إلى أن تقييمها يجب أن يبدأ من منتصف العام الذي سبقه، وتحديداً حين انقلب قسمٌ من الليبيين على نتائج الإنتخابات التشريعية التي أفرزت برلماناً جديداً في حزيران 2014 ولو بنسبة مشاركة ضعيفة، لم يرض بها الإسلاميون الذين خرجوا من السلطة، فكانت السيطرة عسكرياً على العاصمة طرابلس وإخراج كتائب «الزنتان» من مطارها الدولي، شرارة اندلاع حرب أهلية أوصلت البلاد إلى سلطتين تحاربتا بالسلاح لإثبات الوجود والسيطرة على مقدرات الدولة.
ولكن هذا الانقسام بين سلطتين في الشرق والغرب، في ليبيا التي لم تذُق يوماً طعم الديموقراطية، ولم تتمكّن بعد أعوام على مقتل زعيم لم تعرف غيره طيلة 42 عاماً، من الخروج من العباءة التي ألبسها إياها، هو تبسيطٌ للمشهد الليبي، قد يسهل فهم الأزمة من بعيد، لكن تعقيداته من الداخل أكثر تشعباً ودراماتيكية، مع وجود أكثر من 1700 ميليشيا مسلحة تتحكم بالمناطق والحدود، وقبائل تسعى إلى الحصول على امتيازات ومطالب اعتادت عليها في العهد السابق كجزء من سياسة احتوائها، وخلقت لنفسها ميليشيات تحمل لواء «الجهاد» و «الثورة»، مع استمرار التأثر بالاختلافات القبلية وولاءاتها.
فعقيدة «البدوقراطية» التي انتهجها معمر القذافي، والتي يعتقد البعض أنها كرسته رجلاً حديدياً، كانت قي الواقع سياسة ضرورية لزعيم عادى مفهوم الديموقراطية، عرف طبيعة الأرض ولم يغيّرها، ولكنها أفرزت نمط إدارة غرق في الفساد. أما «القطط السمان» الذين سادوا في عهده وعرقلوا محاولة ابنه سيف الإسلام في العقد الماضي إحداث تغييرات على الصعيد الداخلي الليبي، لربما يفسّرون اليوم، ولو بشكل رمزي، بأي ذهنية تُدار ليبيا ما بعد «الثورة»، أو قد تُدار، بمعزل عن خطر الإرهاب والتدخل الخارجي.
الأزمة لا تتوقف هنا، ولا حتى عند تحوّل البلاد إلى بازار للسلاح الذي ينهب من المخازن ويُباع في السوق السوداء، ليصل إلى غزة وسوريا وسيناء ومجاهل أفريقيا. نهايات 2014 سجلت ثلاثة تطورات على الساحة الليبية امتدت إلى العام الحالي، أولها ظهور «داعش»، وثانيها انطلاق تدخل أممي لمعالجة الأزمة أفضى إلى حوار ليبي لم يحقق الكثير، ومسودات حلول أوصلت إلى توقيع غير مضمون على حكومة وحدة، يتحدث البعض عن أنها ستضطر للعمل من تونس.
ويتمثل التطور الثالث بأزمة الموانئ النفطية، إذ فاقمت الانقسامات السياسية التي ظهرت في تموز 2014 من النزاع على أصول النفط والغاز ومنشآتهما، ما تسبب بتجدد انخفاض الإنتاج والصراع على حوض سرت بالأخص. وبعدما كان إنتاج النفط في المرحلة السابقة يتأثر بشكل خاص بإضرابات ومطالب تحركها أطراف داخلية، إذا ما عرفنا أن رجلاً ذا نفوذ (ابراهيم جدران) كان متحكّماً مثلاً بمعظم عملية ضخ النفط، فقد أطلقت قوات مصراتة (فجر ليبيا) بدعم من سلطات طرابلس في 27 كانون الأول 2014 عملية «الشروق»، ما حوّل منطقة الهلال النفطي منطقة منكوبة لفترة أشهر.
ولأن إيرادات النفط هي الدم الذي يقدّم الحياة لليبيين، فإن انخفاضها قد يؤدي إلى كارثة إنسانية في هذا البلد. اليوم، تتحكّم طرابلس بهذه الإيرادات، بالرغم من القرارات الأممية التي تعترف بسلطات طبرق، التي حاول كثيراً رئيس «مؤسستها الوطنية النفطية» الحصول على عقود نفطية من دون جدوى. طرابلس تتباهى بأنها تدفع حتى للجيش الليبي الذي يديره خصمها خليفة حفتر. هذا ما يقولونه، ولكنه قد يفهم الكثير عن صعوبة أن يكون في ليبيا حكومة واحدة، فالسيطرة على طرابلس هي مفتاح أساسي للإسلاميين والدول التي تدعمهم، لكن ليبيا، جراء ذلك، تواجه في الحد الأدنى خطر التقسيم، إذا لم يكن الصوملة.
من جهة أخرى، قد يكون القتال في خليج سرت ساعد في توفير الظروف التي مكنت «داعش» من التقدم في 2015، جزئياً لأن اللاعبين الموجودين على طرفي الصراع لم يكونوا محصّنين هناك، وركزوا قتالهم ضد بعضهم البعض. منذ شباط الماضي، بدأت مجموعات لـ «داعش» هجمات ضد حقول نفط جعلتها غير قابلة للتشغيل، وفي تشرين الثاني الماضي، هاجم ميناء السدرة. لم يسيطر التنظيم على أي منشأة نفطية ليبية حتى الآن، ولكن سياسته الأساسية تقوم على محاولة تدمير الشريان الاقتصادي الأساسي للبلاد، ما سيؤدي أكثر إلى إضعاف الدولة.
ليست تهنئة أوباما وحدها «خبر الموسم» الليبي. أن ينتشر خبر أن «خليفة داعش» أبو بكر البغدادي انتقل إلى ليبيا، وأن التنظيم يتدرّب في سرت على قيادة الطائرات، وأن أعداد مقاتليه وصلوا هناك إلى خمسة آلاف، منهم الكثير من التونسيين، دليل أقلّه على أن بؤرة الإرهاب في الشمال الأفريقي تتوسّع، وستكون حالة بارزة في 2016.
نفّذ التنظيم عمليات عدة في ليبيا، في طرابلس ودرنة خصوصاً. وأعدم أقباطاً مصريين وعمالاً أثيوبيين، وهاجم سفارات العاصمة. لضرورات أمنية، لم يعُد حتى للصليب الأحمر الدولي مقرّ له في البلاد، فيما تختلف التقارير حول تقدير قوة التنظيم المتطرف في البلاد، بين ما إذا كان منظماً أم يفتقر إلى الخبرات أو يسعى إلى الاستعراض لتعويض خساراته. ولكن الأكيد أن معسكرات التدريب في ليبيا كثيرة، خاصة في الجنوب، وتستقطب الآلاف. وإذا ما أضيف ذلك لشائعة مرت في العام 2012 تتحدث عن زيارة زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري لليبيا، فمن الممكن تصور الأهمية التي توليها الجماعات المتطرفة لهذا البلد، حيث تدرك جيداً أهمية التغذي من فوضاه.
ناقوس الخطر هذا، بعد سنوات من تعويل الولايات المتحدة على استيعاب الإسلاميين «المعتدلين» في ليبيا، في إطار المرحلة الثانية من الفوضى الخلاقة التي أفرزها «الربيع العربي»، يوازيه خطر التدخل الخارجي مجدداً في البلاد، بطلب من حكومة الغرب. هكذا بدأت إيطاليا وبريطانيا ودول أخرى تستعد للضرب في ليبيا والتدريب والنزول إلى الأرض.
2,5 مليون ليبي (من أصل ستة ملايين) بحاجة إلى مساعدات انسانية عاجلة. آلاف القتلى، بنى تحتية مهدمة، أمراض وأوبئة ودمار.. ومقابر جماعية بلا أسماء لمهاجرين إلى الشمال. الحالة الليبية لا تشبه غيرها. ليس هناك الكثير من يراقب في ليبيا. الكل يضع يده في «الطبخة». هناك من يقول إن زمن التسويات حضر في المنطقة.. لكن «ليبيا الغد» لا تزال بعيدة.
عن صحيفة "السفير" اللبنانية