صباح أيوب
لماذا لم يستنفر الإعلام الأميركي قواميس واستعراضات «الإرهاب» و«الهلع» بعد هجوم سان بيرناردينو في كاليفورنيا قبل ثمانية أيام؟ لماذا غاب الخوف والتفجّع والعدائية عن عناوين المقالات الأولى حول الحدث؟ هل فعلاً قرّر الإعلام الأميركي، ذو الخبرة البروباغندية على أنواعها، أن يكبح غرائزه «بانتظار اكتمال التحقيق»؟ ما معنى أن يتجاهل إعلام ما بعد 11 أيلول أسماء وأصول وديانة قاتلي المواطنين الأميركيين، وهي باكستانية ــ سعودية ــ مسلمة، ثم يكتفي بذكرها كمعلومات شخصية إخبارية في التغطيات الأولى؟ ما الذي أبقى إعلام التهويل هادئاً يستخدم عبارة «حادثة إطلاق النار في سان بيرناردينو»، بدلاً من «اعتداء إرهابي يستهدف الداخل الأميركي»؟
كل تلك الأسئلة مشروعة عند تقييم أداء الإعلام الأميركي المستغرَب حول حادثة قتل 14 مواطناً أميركياً وجرح 21 آخرين في مركز للخدمات الاجتماعية في كاليفورنيا، وتفخيخه بقنابل على يد الباكستانية الأصل تاشفين مالك (27 سنة) وزوجها سيّد رضوان فاروق (28 سنة) الأسبوع الماضي.
قد يقول البعض إنّ المجتمع الأميركي وإعلامه اعتادا حوادث إطلاق النار، لكن هجوم سان بيرناردينو جاء بعد 19 يوماً فقط على حوادث إطلاق النار على مدنيين في العاصمة الفرنسية. رغم أنّ الاختلاف في حجم الحدثين وعدد الضحايا واضح بين كاليفورنيا وباريس، لكن التشابه في هوية القتلة والأسلوب والتوقيت العام أكثر وضوحاً. هذه المرّة، لم يرد الإعلام الأميركي (أم النظام؟) أن يحوّل مأساة كاليفورنيا إلى «هجوم إرهابي وحشي ضد أبرياء»، ولم يشغل به العالم ويدعوه لاستنكاره والتضامن مع ضحاياه والحقد على المرتكبين «كارهي الحرية». لم يشأ الصحافيون (أو البيت الأبيض؟) على غير عادتهم أن يربطوا فوراً الحدث الأمني بأصول مرتكبيه وبالسياسة الخارجية. بعد مرور حوالى ستّ ساعات على التغطيات الأولى، اختار معظم القنوات التلفزيونية الأميركية التريّث بعدم تصنيف الحدث. كرّرت «سي. أن. أن» مثلاً عناوين كـ «14 قتيلاً بإطلاق نار في كاليفورنيا وسقوط المهاجمين والدوافع ما زالت غامضة».
وفي الصباح التالي، اجتمعت افتتاحيات معظم الصحف السائدة على نداء واحد وهو «مراقبة بيع السلاح وضرورة ضبط انتشاره بين المواطنين الأميركيين». وعلى مدى الأيام الثلاثة الأولى لم تعلُ صرخات صحافية تطالب بـ «زيادة استخدام القوة» ضد «داعش»، ولا بـ «إسقاط نظام بشار الأسد»، ولا بـ «الانسحاب من سوريا ومستنقع الشرق الأوسط»، بل ركّزت معظم التقارير الإخبارية والتحليلية على القضية التي يُدرجها الرئيس الأميركي باراك أوباما في أجندته الداخلية؛ أي الحدّ من انتشار حيازة السلاح بين الأميركيين. أوباما أيضاً فضّل ربط مذبحة كاليفورنيا بظاهرة انتشار السلاح، واكتفى بـ «عدم استبعاد احتمال الإرهاب»، كما ردّد المحققون في الساعات والأيام الثلاثة الأولى. ثم بعد أربعة أيام اعترف الرئيس، في جملة بسيطة وعابرة ضمن خطابه من المكتب البيضاوي، بأنّ العمل كان «إرهابياً مستَلهماً لكن ليس مُداراً من قبل تنظيم داعش».
وفي الخطاب نفسه، ساوى أوباما بين مرتكب مجزرة كاليفورنيا وأي مهاجم آخر استهدف أو قد يستهدف مواطنين أميركيين «لأي سبب». فوضعهما في كفّة واحدة أمام مشكلة «رفض البعض فرض تدابير على حيازة السلاح». هل من طريقة أفضل لتحجيم مذبحة إرهابية في خضم «حرب أميركية معلنة على الإرهاب»؟
ربمّا، لم يكن لمهاجمَي سان بيرناردينو صلة مباشرة بمجموعات متطرّفة، وربّما العكس. ربّما كانت العملية مجرّد فعل فردي من دون أن ترتبط بقرار منسّق مع «داعش»، وربما العكس. لكن أليست تلك الفرضيات المنطقية مشروعة وواجبة في كل الأحداث «الإرهابية» السابقة؟ لماذا التروّي ورفض تصنيف العملية فوراً هذه المرة؟
أداء الميديا الأميركية في الأيام الثلاثة الأولى يوحي كما لو أنّ هناك تعميماً أو طلباً رسمياً أجبر معظم المؤسسلات الإعلامية المحلية على تهدئة لهجته فجأة في خضمّ حرب عسكرية وإعلامية ضد مجموعات «إرهابية» متطرّفة. هل أراد أوباما أن يحتوي إعلامياً الأحداث الإرهابية التي تضرب بلاده منذ بداية احتدام الأزمة السورية بطمسها أو من خلال إيهام الرأي العام بعدم ارتباطها بسياسته الخارجية؟
كان على المتابعين أن ينتظروا خمسة أيّام قبل أن تبدأ التقارير حول «ارتباط المهاجمين عقائدياً وفكرياً بتنظيم داعش، وتلقّي المهاجِمة تعاليم إسلامية متشدّدة في السعودية وباكستان»، إضافة إلى «إشهار تأييدها لـ «داعش» قبيل ارتكاب الجريمة، وهوس زوجها بمعاداة إسرائيل»... Too late! فقد نجحت الاستراتيجية الإعلامية منذ أسبوع بامتصاص حدّة الاعتداء وتحجيمه. أما لماذا لم ينشغل روّاد فايسبوك وتويتر والمواطنون حول العالم بإضاءة الشموع ونثر الزهور والتضامن مع ضحايا كاليفورنيا كما فعلوا مع الحدث الباريسي؟ فهذا يتطلب دراسة من نوع آخر.
عن "الاخبار" اللبنانية