2024-11-28 07:35 م

الإرهاب «ينتقم» في برج البراجنة.. ولبنان يرد بالتماسك الوطني

2015-11-13
إنها الرسالة الأكثر دموية وإيلاما.. ووضوحا في الحرب المفتوحة مع قوى التكفير الحاقدة والعمياء.
إنها مصيبة وطنية تتجاوز محلة برج البراجنة ومنطقة الضاحية الجنوبية وجمهور المقاومة. تتجاوز كل من فقد عزيزا أو أصابته سهام الإرهاب في جسده أو مسكنه أو متجره أو مسجده أو في أي مكان عام كان يفترض أنه آمن.
إنها إشارة إنذار متجددة بوجوب عدم التهاون مع هذه المجموعات التي يلفظها كل دين وأخلاق وشعور إنساني.
إنها دعوة مفتوحة للمسؤولية الوطنية التي يفتقدها لبنان، ولو بحدها الأدنى، بدليل ما شهده مجلس النواب في جلسة الأمس، من «عبوات» ونكايات ومزايدات و «حروب طائفية» وإنتاج قوانين عشوائية وعنصرية وإرساء تقاليد لا تمت بصلة للمصلحة الوطنية.
نعم، المجرم واحد. من آخر تفجير استهدف مسجدا في نجران قرب حدود اليمن إلى تفجير برج البراجنة، مرورا بكارثة الطائرة الروسية في سماء شرم الشيخ وتفجيرات صنعاء وبغداد وتركيا...
ولأنه كذلك، يفترض أن يكون الرد واحدا، من صنعاء إلى بيروت، وعنوانه التماسك الوطني، ولو أن الأحقاد والمصالح تعمي العيون هنا وهناك. من الدول التي تصر على ممارسة سياسة التعامي، فيتسلح الإرهاب من مالها وحدودها ومنابرها ومستودعاتها، إلى «الشعوب» التي تطلق النار أو توزع الحلوى، عندما تحرق النار، من يخاصمها سياسيا عند الضفة السياسية المقابلة!
عندما نشهد معركة كتلك الجارية في أرجاء المنطقة اليوم، تكون جريمة كتلك التي أصابت برج البراجنة متوقعة سياسيا، في كل ساعة وكل يوم. ولعل الإجراءات المتخذة في مناطق لبنانية عدة، وخصوصا في الضاحية الجنوبية، منذ سنوات عدة، خير تعبير على أن فرضية الاستهداف قائمة في كل حين.
حتما، تتصاعد وتيرة التدابير أو تتراجع، تبعا لإيقاع الميادين الملتهبة عند الحدود أو في سوريا وربما أبعد من ذلك. ثمة مناسبات تستدعي أكبر قدر من الجهوزية والاستنفار (نموذج إحياء مناسبتي عاشوراء ويوم الشهيد) وثمة أوقات يغلب على الاجراءات طابعها الروتيني، فيما تبقى العبرة في أحيان كثيرة في قدرة الاستعلام والأمن الاستباقي لدى الأجهزة، على شاكلة آخر عملية شهدتها العاصمة يوم اقتحم الأمن العام في الخامس والعشرين من حزيران 2014، فندق «ديروي» في الروشة فأقدم انتحاري على تفجير نفسه، لينجو مطعم «الساحة» في الضاحية من عمل أمني كبير.
ومن يدقق في أرشيف التحقيقات مع عشرات، لا بل مئات الموقوفين الإرهابيين في السنوات الأخيرة، يتبين له أن هذه المجموعات باتت تملك بنية تحتية متكاملة من التخطيط إلى التجنيد والتسليح.. وصولا إلى التنفيذ على الأرض بكل متطلباته اللوجستية والبشرية والأمنية، والمؤسف أكثر هو وجود «بيئات حاضنة» متعددة الجنسيات!
تختلف أساليب المجموعات، بحيث يختار بعضها عادة التوقيت الذي يناسبه سياسيا لتنفيذ عملية إرهابية، وبعضها الآخر يتسلل عندما يجد نقطة الضعف بمعزل عن التوقيت السياسي، لكن النتيجة واحدة.
بهذا المعنى، لا يمكن فصل ما جرى في برج البراجنة، وما يمكن أن يتكرر في أية منطقة لبنانية، عما يجري على أرض سوريا من جهة، وعما تقوم به الأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية من انجازات متتالية في مواجهة الإرهاب من جهة ثانية.
لقد اختار الإرهابيون المكان بهدف إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا. منطقة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية. شارع سكني وتجاري. توقيت الذروة. عشية يوم جمعة. وقت الصلاة. حسينية ومسجد وفرن ومقهى وطريق عام، بالإضافة إلى عدد كبير من المحلات التجارية. لا تشهد الضاحية زحمة كتلك التي تشهدها هذه المنطقة المستهدفة، إلا في عمق خزانها البشري: حي السلم.
ويشكل الشارع المستهدف امتدادا طبيعيا لمخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، ولعل من اختار المكان أراد أن يصيب خزان المقاومة.. والأخطر محاولة دق إسفين في العلاقة بين جمهور المقاومة والمخيمات الفلسطينية، من دون إغفال الواقع الاجتماعي المأساوي لهذه التجمعات، وما يمكن ان تولده من ظواهر لا تمت بصلة إلى حقيقة معظم أهلها.
قرابة السادسة من مساء أمس، تسلل انتحاريان على الأقل، إلى شارع سوق الحسينية في منطقة عين السكة، وتحديدا إلى نقطة قريبة من «فرن مكي» (يسكن فوقه ذوو قيادي كبير في «حزب الله») وحسينية جامع الرمل التي يؤمها عادة الشيخ احمد قبلان، وكان موجودا فيها، لحظة الانفجار. كان الفارق بين كل انتحاري والآخر حوالي 15 إلى 20 مترا، وما أن فجر الأول نفسه وهو يعتلي دراجة نارية بالقرب من «فرن مكي»، حتى خرج المحتشدون في الحسينية القريبة على وقع الانفجار، فدوى صوت الانفجار الثاني، ليسقط عندها العدد الأكبر من الضحايا من الشهداء والجرحى.
وفيما راجت معلومات عن انتحاري ثالث (بيان قيادة الجيش) وحتى عن رابع وعن القاء القبض على أحدهما، أكدت مصادر أمنية واسعة الاطلاع لـ «السفير» أنه لا دليل قاطعا حتى الآن على وجود الانتحاري الثالث، ورجحت فرضية أن يكون الانتحاري الأول قد فجر الدراجة النارية التي كان يستقلها فانشطر جسده، ولم ينفجر الحزام الناسف الذي كان يزنر صدره به، فيما تناثرت الأجزاء السفلى من جسده، أما الثاني، فهو الذي فجر نفسه بالحزام الناسف وظل رأسه واضح المعالم، فيما تناثرت بقايا جسده في أرجاء المكان.
وحتى ساعة متأخرة ليلا، أظهرت الإحصاءات سقوط نحو 300 شهيد وجريح، معظمهم من المارة أو سكان المنطقة، فيما تم تشديد الإجراءات في عمق الضاحية الجنوبية وعند كل مداخلها، بالتنسيق بين الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية والحزبية وشرطة اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية.
أما التحقيقات الأمنية والقضائية فتتمحور حول الآتي:
أولا، كيف تمكن الانتحاريان من الوصول الى الضاحية، وهذا الأمر يتطلب مراجعة عدد كبير من الكاميرات، خصوصا وأن وجهي الانتحاريين الأول والثاني ظلا مكتملين..
ثانيا، هوية الانتحاريين، وهو الأمر الذي يمكن أن تساعد في كشفه محاولة التعرف عليهما من خلال صورتيهما، خصوصا اذا كانا يحملان جنسية لبنانية أو سورية أو فلسطينية.
ثالثا، يجري التدقيق في أرشيف التحقيقات لدى كل الأجهزة الأمنية حول اسماء شبكات معينة، وخصوصا تلك التي تم تجنيدها في بعض مخيمات العاصمة وتجمعات النازحين السوريين.
رابعا، يساعد عدم انفجار الحزام الناسف مع أحد الانتحاريين والذي كان مدعما بأكياس من النايلون المقوى وهي تحتوي مئات الكرات الحديدية، في محاولة اجراء مقارنات مع تفجيرات أخرى ومع أحزمة تم العثور عليها، وخصوصا مع أحد الموقوفين في الشمال (من آل الأحدب) اذ انه كان اعترف بتفصيل واعداد 15 حزاما ناسفا بتكليف من اسامة منصور وشادي المولوي.
خامسا، المقارنة بين الحزام الناسف الذي لم ينفجر والحزام الناسف الذي عثر عليه فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، فجر أمس، مع أحد عناصر «داعش» ويدعى (ب. ج) في محلة القبة بطرابلس، والذي قدرت زنته بنحو خمسة كيلوغرامات من المواد الشديدة الانفجار، مع أرجحية عدم التطابق، لأن التقديرات تشير الى أن حزامي برج البراجنة تقدر زنة عبوة كل منهما بما لا يقل عن سبعة كيلوغرامات.
سادسا، ثمة محاولة للمقارنة بين أكياس الكرات الحديدية التي عثر عليها مع الحزام الذي لم ينفجر، وبين تلك التي تم العثور عليها في بعض الأماكن، ومنها المستودع الذي داهمه الأمن العام في صيدا وكان يخص الشيخ الموقوف أحمد الأسير.
سابعا، القنابل اليدوية يكون لها عادة رقمها التسلسلي و «كود» محدد، ولذلك، تجري مقارنة القنبلة اليدوية التي انفجرت وتلك التي لم تنفجر بقنابل أخرى لم تنفجر أو صودرت، فضلا عن محاولة الاستفادة من دول المصدر عن الجهة التي اشترت هذه القنابل.
ثامنا، ثمة نقطة يتوقف عندها المحققون وهي استخدام انتحاريين في عملية واحدة، بينما كان يمكن أن يقوم كل واحد بتفجير نفسه، في فترات زمنية متباعدة وفي أمكنة مختلفة، وهذه النقطة، تؤشر الى نقطة يجري نقاشها على مستوى الدوائر الأمنية في لبنان، وتتمثل بتفكك المجموعات الارهابية، بحيث لا يمر يوم دون القاء القبض على واحد أو اثنين، فضلا عن كشف بنية مجموعات كاملة خصوصا في الشمال وعين الحلوة.
واذا صحت الفرضية الأخيرة، فان هذه العملية ربما تحمل في طياتها اشارة الى ما يسميه المحققون «دومينو» تداعي الشبكات الارهابية، بحيث قررت أن تضرب مرة واحدة ومن دون تتابع، ولو أنها نجحت في اختيار الهدف (منطقة مكتظة بالسكان).
تاسعا، التدقيق في البيانات التي أصدرها تنظيم «داعش» حيث تبين بصورة أولية أن البيان الأول الذي تبنى العملية وأعلن عن أسماء المنفذين الثلاثة (فلسطينيان وسوري) غير دقيق وأن البيان الثاني الذي اكتفى بتبني العملية وبأن منفذيها اثنان، هو الأدق.
عاشرا، استدعاء عدد من الموقوفين في أعمال إرهابية من أجل محاولة ربط خيوط بين المجموعات والتفجيرات وصولا الى التعرف على هوية الانتحاريين، بالتزامن مع تفعيل شبكة الاستعلام على مستوى كل الأجهزة الأمنية في الوجهة نفسها.
عن صحيفة "السفير" اللبنانية