2024-11-30 06:30 ص

تركيا أمام امتحان سلاح الخوف والسلطان الجامح

2015-11-02
خليل حرب
منح الأتراك رجب طيب أردوغان ما لم يكن يحلم به الآن. غالبية مريحة في صناديق الاقتراع، ستتيح للرجل الذهاب بعيداً في جموحه السياسي. الانفراد مجدداً بحكومة لحزب «العدالة والتنمية» الذي لا شريك له!
ليس نصراً انتخابياً هذا. في السياسة هو أكثر من ذلك بكثير. وهو بالإضافة الى أنه إنجاز كبير لرجب طيب أردوغان في مساره السياسي، إلا انه أيضاً، وربما أكثر أهمية من ذلك، يفتح الباب أمام الأسئلة الكبرى، أمام حزبه المتجدد شعبيا، وحكومته الإقصائية، والأهم ما سيحمله ذلك من أخطار، لا على مستوى الانقسامات الداخلية سياسياً وعرقياً وايديولوجياً فحسب، بل على المستوى الإقليمي أيضاً.
وصلت الرسالة. «سلاح الخوف» أتى أُكله. الأرقام واضحة لا لبس فيها. «أعطوني أصواتكم بقوة، أُعد اليكم الاستقرار» قالها أردوغان علانية. خمسة شهور من الترهيب السياسي والأمني، فعلت فعلها بالأتراك. الأرقام تؤكد ذلك. القفزة التي حققها «العدالة والتنمية» ليست منطقية، ولم تكن متوقعة حتى من أكثر المحللين والسياسيين الموالين للأردوغانيين، تفاؤلاً، ولا من كل استطلاعات الرأي التي أجريت. صحيفة «ايدنليك» المعارضة عنونت أمس «يوم انهيار السلطنة»! صحافي إسلامي معارض لأردوغان علق ساخرا من أجواء الخوف السائدة «انه كيوم البربارة الأميركي!».
نجح الخوف في أكثر من مدينة ودائرة انتخابية. خمسة شهور لم تكن فيها تركيا بما هي عليه اليوم من غموض وقلق، أقله منذ «الانقلاب الأبيض» على حكومة نجم الدين اربكان في العام 1997.
خمسة شهور منذ انتخابات حزيران الماضي، تبدلت فيها الأحداث وآليات الصراع الداخلي، سياسياً وأمنياً، وأخذت معها الهواجس الى مستويات جديدة من الخوف.
لم تتورع حكومة «حزب العدالة والتنمية» عن التلويح العلني لمؤيديها وخصومها على السواء، وهي تخرج من صدمة صناديق الاقتراع في 7 حزيران الماضي، بشعار «نحن أو الفوضى»، ما داموا لم يمنحوا الحزب ما كان يطمع به من أغلبية تتيح له الذهاب منفردا نحو تشكيل حكومة. وتصرفت أمس، وكأنها تمنحهم فرصة ثانية لتصحيح ما اقترفته أيديهم في 7 حزيران، بتعديل تصويتهم في الأول من تشرين الثاني.
ليست فكرة عابرة هذه. إنها الظل الأساسي الذي خيّم فوق رؤوس أكثر من 50 مليون ناخب دُعوا للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية التي حملت كل هذه المفاجآت، فمنهم من ذهب متوجساً ومنهم من ذهب متحدياً في هذا اليوم الانتخابي الطويل... بلا سلاح ولا خمور.
أخذ «العدالة والتنمية» ما لم يتوقعه. عزز رصيده البرلماني حاصدا من أصوات الآخرين، وتحديدا من الشارع الكردي والشارع القومي. تراجعت مقاعد «حزب الشعوب الديموقراطي»، الممثل للأكراد خصوصا، كما تراجعت مقاعد حزب «الحركة القومية» التي تردد أن زعيمها دولت باهتشلي قد يضطر الى الاستقالة.
وبينما راوح «حزب الشعب الجمهوري» مكانه تقريبا، سلب حزب أردوغان ما يصل الى مليون صوت إضافي من أصوات الناخبين الأكراد في مجمل تركيا، كما سلب من «الحركة القومية» نحو ثلاثة ملايين صوت من أصوات مؤيديه. وفي لواء الاسكندرون (هاتاي) حصل حزب أردوغان على 37 في المئة من الأصوات في حزيران الماضي، لكنه هذه المرة نال 44 في المئة، وهي نسبة زيادة أثارت الكثير من الاستغراب والتساؤل.
وبالإجمال صوّت حوالي 48 مليون ناخب، نال منهم «العدالة والتنمية» 49.38 في المئة، وفقاً لما أظهرته نتائج التصويت بعد فرز 99 في المئة من الصناديق، و «الشعب الجمهوري» 25.41 في المئة، و «الحركة القومية» 11.94 في المئة، و «الشعوب الديموقراطي» 10.69 في المئة. أما نسبة الإقبال فقد ارتفعت عن الانتخابات الماضية ووصلت الى نحو 85.69 في المئة ممن يحق لهم التصويت. وأدخل «العدالة والتنمية» 316 نائبا الى البرلمان، بعدما كان له 256 نائبا وفق انتخابات حزيران. وفي المقابل، خسر «الشعوب الديموقراطي» 21 مقعدا مقارنة بحزيران، بينما فقدت «الحركة القومية» 39 مقعدا في ضربة أردوغانية واحدة.
لوّح الأردوغانيون بـ «سلاح الخوف» ما إن تجلت الخسارة المؤلمة قبل خمسة شهور، وشهروه في عدة مظاهر: اتهام «حزب الشعوب الديموقراطي»، مفجر المفاجأة الكبرى وقتها، بالارتباط بـ «الإرهاب الكردي»، ثم تفجيرا أنقرة وسيروج اللذان أوقعا عشرات الضحايا من خصوم «حزب العدالة والتنمية»، ثم إعلان الحكومة الحرب على «حزب العمال الكردستاني» وتجميد عملية السلام مع الأكراد لملاحقتهم في الجبال والسهول سواء في العراق أو سوريا، مع تصاعد الحملات الأمنية على الخصوم الداخليين، بما في ذلك وسائل الإعلام التي لا تواليه.
لم تكن الهجمات التي استهدفت الأكراد وممتلكاتهم في أكثر من مدينة تركية أحداثا عابرة. كانت ضمن موجة الترهيب التي مورست. قال احمد داود اوغلو علانية ان سيارات الاستخبارات التركية قد تجوب مناطقكم مجددا، مذكراً بحقبة الاغتيالات وخطف المعارضين الأكراد. من الطبيعي أن ترتد عندها أصوات الناخبين الكرد ومؤيديهم، وتتراجع. وفي مناخ العداء القومي هذا، سيكون من الطبيعي ايضا، أن تذهب أصوات من مؤيدي «الحركة القومية» المعادية تاريخيا للأكراد، الى من يظهر عداء أكبر قولا وفعلا أي «حزب العدالة والتنمية».
هذا هو الإنجاز الحقيقي لأردوغان أمس. لن يتحدث عنه صراحة. لكنه جوهر ما جرى في الشهور الماضية.
أونال طانق، رئيس تحرير موقع «روتا خبر» الالكتروني، المعروف بدقة اطلاعه على المشهد السياسي التركي، قال لـ «السفير» إن «الإرهاب جرى إيقاظه في ما بعد انتخابات 7 حزيران، وكأن هناك من ضغط على زر التفجير. الرسالة كانت واضحة، إما العدالة والتنمية أو الفوضى. وفي جنوب شرق تركيا، تلقى الناخبون الرسالة بوضوح، فإذا لم تراجعوا حساباتكم، فالاستقرار مهدد. الناخب فهم الرسالة جيدا... أردوغان وحزبه استطاعا تأديب الشارع التركي».
والآن، اذ يتخطى حزب أردوغان، حاجز الـ276 مقعدا بكثير، سيشكل حكومته منفردا، وأسقط بذلك خيار الائتلاف مع أي كان، وهو ما كان سيجبره على تقديم تنازلات سياسية مؤلمة لخصومه. كما أنه بهذا الانتصار الانتخابي، تجنب الانزلاق مجددا الى الخيار المر، أي العودة الى صناديق الاقتراع في الربيع المقبل.
ويمنح هذا التموضع الجديد لأردوغان ورئيس الحكومة احمد داود اوغلو، مساحة التحرك داخليا وخارجيا... لكن الى أين؟ هذا هو السؤال الأساس.
سيكون بإمكان أنقرة الخروج من عنق الزجاجة التي أقحمت نفسها فيها، سياسيا. هذا في المبدأ، لكن الاختبار الرئيسي، مرتبط بما اذا كان أردوغان سيقرر تحكيم العقل ومحاولة إخراج تركيا من الانشطار القومي الآخذ في التوسع، بعدما تلاعب به باستخفاف لأغراض انتخابية ضيقة.
ومهما يكن، فإن من مفارقات هذه الانتخابات، ان كثيرين في الشارع التركي كانوا يعتقدون أن الأمل الأمثل أمام بلادهم الآن، يتمثل في إنزال هزيمة مضبوطة الإيقاع، بأردوغان، لعله يتعقل بعدما أظهر كل هذه الشراهة السياسية في محاصرة خصومه وترهيبهم في الشهور الماضية، فإذا به ينال تفويضا واسعا.
وبمعنى آخر، فإن نجاح أردوغان في نيل كل هذه المقاعد البرلمانية المريحة، قد يعني بالنسبة الى كثيرين هنا في تركيا، انه سيمضي قدما في جموحه، ما سيولد احتقانا أكثر خطورة، مقارنة بمناخات ما بعد السابع من حزيران الماضي، وقد يدفع البلاد الى انفجار شامل.


عن "السفير" اللبنانية