وسيم ابراهيم
إلى أين نذهب؟ الوجهة النهائية ليست معروفة سلفاً للكثيرين منهم. وهم كثيرون. الآلاف، عشرات الآلاف، مئات الآلاف. ذلك الدفق المتواصل، المسير المهيب، طلباً لحياة بلا مهانات. لكن إلى أين؟ سؤال يحضر في مجالس الاستشارات العاجلة، في رسائلهم المتجولة بحثاً عن يقين في دهاليز الانترنت. أوروبا الغربية والاسكندنافية كبيرة ومحيّرة. الطريقة الأنجع تبقى الإقصاء، إلى أين نذهب؟ على قائمة أسباب الحذف يكررون: إلى حيث لا تهددنا جرائم واعتداءات الكراهية والتطرف. صعود هذه الموجة لا يشكل خطراً عليهم فقط، بل يهدد أيضاً الأحزاب التقليدية في أوروبا، التي تراقب بخفر صعود موجة اليمين الشعبوي.
على هذا المنوال، لم تعد المانيا تصدّر صورة الترحيب الصافية تلك، حينما وقف العشرات في محطات القطار للتصفيق والترحيب بالغرباء المستجيرين. تزاحمها الآن إحصاءات الاعتداءات المسجلة ضد اللاجئين، ومرافق استقبالهم. وزير الداخلية الالمانية توماس دو مايزر حذّر أخيراً من أن بلاده «تواجه خطر تطرف في أجزاء كبيرة من المجتمع». ذكر قبل أيام أن وزارته سجّلت نحو 500 اعتداء على اللاجئين، منذ بداية العام.
الظاهرة لم يعد بالإمكان التغافل عنها بتصريحات الطمأنة، بالحديث عن أقلية هامشية أمام غالبية انسانية. بندقية واحدة تكفي لإحداث الضجيج، فكيف إن تكاثرت. بات لا يمر يوم، تقريباً، من دون أخبار عن حوادث الاعتداء. حرق مساكن لاجئين ومهاجرين، إصابتُهم، غمر شقق بالمياه، الاعتداء على سياسيين يؤيدون احتضانهم.
اللافت أن ثلث المشتبهين المعروفين هم متعاطفون مع اليمين المتشدد، لهم سوابق عنفية، والثلثان الباقيان هما لمواطنين ليس هناك سجل جنائي سابق لهم. وقائع جعلت دو مايزر يقول إنها «وصمة عار لألمانيا». هكذا وجد مكتب الشرطة الجنائية الاتحادية الألماني ضرورة إصدار تحذير، بكل صراحة، معلناً أن اللاجئين «معرضون بشكل متزايد لهجمات معادية للأجانب».
هذه التحذيرات والأرقام لا تفاجئ مدير «الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية» ميكائيل بريفو. خلال مقابلة مع «السفير»، يلفت إلى أن «المسألة ليست محصورة بألمانيا. إنها ظاهرة واسعة الانتشار الآن، عنف اليمين المتطرف يزداد أيضا في بلغاريا والتشيك وسلوفاكيا ودول أخرى».
أما لماذا لا تشكل الأرقام مفاجأة، فالجواب واضح بالنسبة للشبكة. يقول بريفو «نرى منذ بداية الأزمة مؤشرات سلبية في النقاش السياسي، هذا واضح على مواقع التواصل الاجتماعي، خطاب الكراهية حاضر بوضوح، هنا يبدأ كل شيء، لذا لا نتفاجأ حينما يتحول إلى أفعال ملموسة».
وفق هذا المقياس، تبدو تحذيرات المسؤولين الألمان مبررة تماماً. وسط تزايد اعتداءات الكراهية في المانيا، رأت صحيفة «بيلد» الواسعة الانتشار، أنه من الأفضل وضع المجتمع «أمام المرآة». نشرت على امتداد صفحتين رسائل الكراهية، المتداولة على الانترنت بأسماء مغفلة. بعضها حمل تعليقات صادمة جداً لمجتمع يحاول، بكل الطرق، دفن إرث الحقبة النازية. أحد التعليقات يقول مخاطباً اللاجئين «إذهبوا إلى أوشفيتز وبوخنفالد (معسكرات اعتقال نازية)، هناك مكان كافٍ، والأفران تحتاج فقط إلى تسخين».
يتحدث مدير الشبكة عن «تكتيكات ناجحة»، يستخدمها اليمين المتطرف. يقول «إنهم يحولون جوهر سردية اللجوء تماماً، ليكون وقع خطاب التخويف أكثر تأثيراً، وبالتالي جذباً للداعمين». يضيف بريفو موضحاً خلاصة بحثهم «إنهم يركزون على رهاب الإسلام لأنه يقوّي شعاراتهم. إنهم يعتبرونه الطريقة الأنجح لمخاطبة الناس، خصوصاً أن اللاجئين باتوا أكثر حضوراً وظهوراً في المجتمع الآن».
حركة «بيغيدا» (الوطنيون الاوروبيون ضد أسلمة الغرب) وجدت «أزمة اللاجئين» هدية كبيرة. قبل أيام، نظمت تظاهرة احتفالية، لمرور عام على ولادة تجمعها في مدينة دريسدن الالمانية. نحو 20 ألف شخص ساروا خلف شعاراتهم، تلك التي لا تغلف كراهيتها بأي تحايل لفظي.
حتى الآن، لم تحقق الحركة نجاحاً انتخابياً يذكر، قياساً بالضجة التي تثيرها، لكنها تشكل رافداً لأحزاب تعتمد الكراهية «المهذّبة». منها، حزب «البديل لألمانيا»، المعادي للهجرة، الذي يكسب تأييداً متزايداً في استطلاعات الرأي، بعدما تجاوز سبعة في المئة، ليبلغ ضعف النسبة في مدن تشهد اعتداءات متزايدة على اللاجئين.
لكن تلك الوصفة (لاجئون ومهاجرون يساوون مسلمين) لم تعد حكراً على الحركات المعادية للإسلام. بعض أحزاب اليمين الوسطي في أوروبا بدأت ترفع علناً شعارات «حماية الهوية المسحيية» لأوروبا. أبرزها حزب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، مع أنه من عائلة «المسيحيين الديمقراطيين» نفسها، التي ينتمي إليها حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
عائلة «المسيحيين الديموقراطيين» لم تقاطع أوربان، واكتفت باحتجاجات لفظية، مع أن قمع حكومته وصل حد الصدام مع اللاجئين واعتقالهم، ووضع الجيش على الحدود ثم أغلقها بالكامل. لكن المنظرين الداعمين له يحاججون دائماً بأنه يملك مبرراً «سياسياً». يقولون إنه يتنافس الآن عملياً مع حزب يميني متشدد في المجر، وهذا الحزب يحتل المرتبة الثانية ويحاول استخدام ورقة اللاجئين لكسب تأييد أكبر. داعمو أوروبا يقولون أن ليس أمامهم سوى اتباع نهج «صارم»، يقنع المجريين الذين يسود بينهم التوجه المحافظ، ليسحب ورقة اللاجئين من خصومهم المتشددين.
هذا التفهّم لأوربان كان حاضراً، ولو مغلَّفاً، في المؤتمر السنوي لأحزاب «المسيحيين الديموقراطيين» الذي انعقد هذا الأسبوع في مدريد. هذه العائلة تسمى «حزب الشعب الأوروبي»، وتضم تحت مظلتها تقريباً نصف حكومات دول الاتحاد الأوروبي.
أوربان كان هناك، إلى جانب ميركل، ونظيره الإسباني ماريانو راخوي، ووفود من مئات السياسيين والمسؤولين الأوروبيين. باسمهم جميعاً، باسم «المسيحيين الديموقراطيين»، طلب المؤتمر إنجاز «تعديل شامل» لسياسة الهجرة الأوروبية. خلاصة كلامهم تشديد سياسات الهجرة واللجوء. طالبوا بالفصل بين «المهاجرين الاقتصاديين واللاجئين» قبل دخول الاتحاد الأوروبي، في إشارة إلى ضرورة إقامة مخيمات تجميع خارجه. كما دعوا لتغيير التوجه الأوروبي المتعلق بلم الشمل»، العائد لعام 2003، لأنه برأيهم «يمثّل عامل جذب» للاجئين.
كل هذا يؤكد أن قضية اللاجئين جعلت المنافسة محتدمة بين اليمينيْن الوسطي والمتشدد. يذهب فابيان زوليخ، مدير «مركز الدراسات الأوروبية»، خطوة أبعد بالقول إن المنافسة «أحدثت انزياحاً لدى اليمين الوسطي، ليصير يمينياً أكثر».
يعتبر زوليخ في حديثه لـ «السفير» أن «اليمين الشعبوي مقلق أكثر من اليمين المتطرف»، مشيراً إلى الأحزاب التي تعتمد خطابات مغلّفة بالمحاججة السياسية، قبل أن يضيف «هذا ما جعل استجابة الاحزاب الوسطية تذهب لانتهاج سياسات أكثر تشدداً بالنسبة لقضايا الهجرة واللجوء».
هذا النوع من الاستجابات بات مساراً واضحاً بالنسبة إلى حكومات أوروبية عديدة. وفد اليمين الوسطي السويدي طلب في مدريد دعماً من عائلته الكبيرة. سمعت ميركل ونظراؤها تقييمهم: تكلفة استقبال اللاجئين كبيرة، وهناك احتمال انهيار الحكومة مع تصدّر حزب «الديموقراطيين السويديين» الاستطلاعات.
هذا الحزب هو مثال عن «اليمين الشعبوي»، الذي تحدث زوليخ عن خطورته. الاستطلاعات أعطت الحزب 25 في المئة من دعم السويديين، ليكون الحزب الأول. قضية اللاجئين لعبت دوراً مركزياً، فالسويد هي البلد الأكثر استقبالاً للاجئين في أوروبا، نسبة لعدد سكان لا يتجاوزون 10 ملايين نسمة. في انتخابات العام الماضي، حصل «الديموقراطيون السويديون» على 13 في المئة من الاصوات، أعطتهم 49 مقعداً في برلمان يشمل 349، وترجمات الاستطلاعات الأخيرة تعني أنهم مرشحون لفوز تاريخي!
مزاحمة اليمين الشعبوي للأحزاب التلقيدية تظهر في دول أخرى، ودائماً باستثمار عنوان اللاجئين والتخويف من «المسلمين». المستشارة الألمانية أمام ضغوط داخلية كبيرة. في الجارة النمسا، الوضع أسوأ، فهناك يتضخم حزب «الحرية» المعادي الصريح لاستقبال اللاجئين.
القضية تتكرر في الدنمارك، مع حزب يميني شعبوي بات شريكاً في الائتلاف الحاكم. فرنسا تتحدث عن نفسها، مع «الجبهة الشعبية» وزعيمته مارين لوبين. كل هذه الأحزاب تشكل تحدياً فعلياً للاتحاد الأوروبي ومشروع زيادة اندماجه، الذي تقوده المانيا وفرنسا، ومعهما مجمل طيف الاحزاب التقليدية. هكذا باتت قضية اللاجئين مضماراً للتنافس بين الطرفين: التقليديون يريدون حلاً على طريقة «اوروبا أكثر»، واليمين الصاعد يريد «أوروبا أقل». طبيعة الحل، أياً كانت، تعني في النهاية الوجهة التي سيسلكها مستقبل الاتحاد الأوروبي، علاوة على السرعة التي سيمضي بها إليه.
وسط كل هذا السجال، يغيب الكلام عن حقائق مهمة، سمعها طبعاً قادة المؤسسات الأوروبية حينما اجتمعوا خلال القمة الأوروبية السابقة مع الأمين العام لـ «اتحاد النقابات الأوروبية» لوكالي سانتيني. في حديثه لـ «السفير»، يقول إن «الفرص أكبر من أي حديث عن تهديد». ويضيف «أنا مقتنع تماماً أن اللاجئين يشكلون فرصة لأوروبا، لأسباب مختلفة. لدينا التغير الديموغرافي، حيث هناك مواليد أقل، ولدينا عدد كبير من الوظائف الشاغرة».
الفرصة لأوروبا، برأي سانتيني، «تمتد خصوصاً بعد اكتمال مرحلة الإدماج للوافدين الجدد في سوق العمل. يقول «ما يدفعه المهاجرون كمساهمة في الضرائب والضمان الاجتماعي، هو تقريباً ضعف ما يتلقونه من الخدمات والتقاعد»، مشدداً على أن «هذا يعني أن المهاجرين المندمجين، العاملين، هم في هذه اللحظة يمولون دولة الرفاه الأوروبي».
كل هذه المحاججات لا تنفع مع اليمين المتطرف، خصوصاً أن خطاب الكراهية لا ينمو إلا فوق «اللامنطق» متجسداً بالمخاوف المضخمة. هذا ما يؤكده بريفو. يقول إن الحديث عن منافع اللاجئين أمام متطرفين «مضيعة للجهد». ويستطرد «حينما يقال لهم إن اللاجئين يسدون النقص في سوق العمل، سيقولون إنهم يسرقون وظائفنا، وفي الحالة المعاكسة سيقولون مباشرة إنهم هنا ليعيشوا على المعونة الاجتماعية».
assafir.com