2024-11-28 10:48 م

الطريق إلى ما بعد أوسلو

2015-10-17
أنس حسونة
ما تزال المُدن الفلسطينيَّة، بعد مرور عشرة أيَّام على اندلاع هبَّة أكتوبر الشعبيَّة، تنأى بنفسها عن أي تواصل معها ومع نقاط التماس المشتعلة، فيما عدا مرور الجنازات المهيبة للشهداء من شوارع المدن الرئيسية وصولاً إلى المقابر، وينطلق الشباب والشابات من بعدها إلى نقاط التماس مرَّةً أخرى. 
ليس من المنصف أن يتم الحديث عن المدن الفلسطينيَّة بصفتها تلك، بل عن تجمُّعات إقتصاديَّة وسياسيَّة وأمنيَّة فلسطينيَّة ذات ثقل عالٍ في داخل المدن الفلسطينيَّة. هذه التجمُّعات تشكِّل اليوم مظاهر المدينة الفلسطينيَّة كما هي الآن. في نقاشات هبَّة أكتوبر الشعبيَّة، يتم الحديث عن "انتفاضة شعبيَّة" بجدِّية مبالغ بها من قبل وسائل الإعلام وبعض الفصائل، بالمقابل تلتزم جهات أخرى الصمت، عن المشاركة أو الدعم وتتوارى عن الأنظار، على رأسها السُلطة الفلسطينيَّة. لكلِّ جهةٍ دوافعها، سواءً كانت تعبيراً عن مصالح سياسيَّة، أم مناكفات سياسية. من يتحدث في وسائل الإعلام، كممثِّل لأوسلو، أو لمؤسسة معينة، ليس مهماً بقدر أهميَّة ما يقوم بتمثيله: مُجتمع أوسلو.
هناك في مجتمع أوسلو، في رام الله على سبيل مثال، نظريَّة قويَّة طوَّرت نفسها على مرِّ السنين العشر الماضية، وبنَت العديد من المؤسسات، الروابط، المصالح المتشابكة، هرميَّة لا بأس بها تستطيع أن تتحمَّل الكثير من نقاط التماس المشتعلة، وتستمر في عملها بل وتحسن في شروط عملها مع انتهاء الهبَّة لأنَّها تستفيد من الاهتزازات، ولكنَّها لا تسقط بفعلها.
 هناك جيلُ حجارة نراه اليَوم ذا شدَّة أكبر نتيجة خبرة متراكمة. نراه في القُدس التي ما يزال المجتمع الفلسطيني في داخلها على هامش المُجتمع الإقتصادي والسياسي الصهيوني وأيضاً خارج نطاق سلطة أوسلو. بينما لدينا في الضفَّة الغربية "أطراف مجتمع". أوسلو ليست السُلطة بالفلسطينيَّة، بل مجموع المؤسسات الحكوميَّة وغير الحكوميَّة ــ السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافيَّة ــ التي تغلغلت على مدى العشرين سنة الماضية، ولديها مئات الآلاف من الموظفين والمستفيدين والمرتبطين مصلحياً بها، وكُّل من هؤلاء، فرداً فرداً، يقوم برقابة ذاتيَّة على نفسه تمنعه من الانخراط ولو فكرياً بما يُسمى فعلا مقاوما. 
لا يُمكن الحديث عن "ما بعد أوسلو"، بوصف أوسلو مؤسسة أمنيَّة فقط، ومن دُون طرح متماسك من قبل قيادة موحَّدة تقود المرحلة المقبلة بنظريَّة كاملة وشاملة لمجتمع ما بعد أوسلو. لا يُمكن تحفيز فعل مقاوم إلا إذا كان مشروطاً بتنمية المناطق المهمَّشة والفقيرة في الضفة الغربية. ولا يُمكن إشراك النخب الفاسدة في المدن، أمنيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة، في أي قيادة موحَّدة تحت بند الوحدة الوطنيَّة الذي ينادى به منذُ الحسم العسكري لحماس في قطاع غزة، بدافع الحفاظ على ما سمِّي آنذاك بالشرعيَّة. هُناك انقسام جغرافي فلسطيني، ولكنَّه ليس بالإنقسام الشعبي، وهو ليس بالإنقسام الذي يجب العمل على رأبه بدافع الحديث عن وحدة وطنيَّة ما بين نهج مقاوم في قطاع غزة – وهناك العديد من المشاكل المتعلقة بحكم حماس لقطاع غزة – وما بين نهج متعاون مع الإستعمار الصهيوني في الضفَّة الغربية. ولن يكون بصالح القضيَّة الفلسطينيَّة. 
الطريق إلى ما بعد أوسلو، لن يمر بانتفاضة. فهذه بحاجة إلى قيادة ذات نظريَّة اجتماعيَّة اقتصاديَّة سياسية، من ضمن وسائل عملها المقاومة بكافة أشكالها في الضفة الغربيَّة. وعلى الرغم من قوَّة هذه المؤسسات، وتغلغلها العميق في الضفَّة الغربيَّة في داخل المجتمع الفلسطيني، إلَّا أن خروج هذه الأعداد الكبيرة من الشبان والشابات إلى نقاط التماس، إلى "أساليب الإنتفاضة"، إلى رفع شعارات والإدلاء بكلمات مناقضة تماماً لطبيعة أوسلو ووظيفته، يُؤشِّر إلى هشاشة هذا البنيان الاستعماري وأنه اعتداء تاريخي مساوٍ لاعتداء وعد بلفور.. 
في ورقة تقدير موقف صادرة عن "دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي"، تحت عنوان:"الهبَّة الشعبيَّة: فرص وتحدِّيات"، يشار إلى أمرين: الأوَّل هُو ما يتم تكريسه من قبل مؤسسات ووسائل إعلام هذا المجتمع الأوسلوي المؤسساتي في الضفة الغربيَّة من صورة الفلسطيني الضحيَّة بدلاً من صورة الفلسطيني المقاوم، إضافةً إلى الطريقة التي يتم تناول المستوطنين فيها ، والكلمات التي يتم استخدامها لوصف المنهجيَّة الميليشيويَّة، كعصابات تمارس عربدة أو قطع طريق أو اعتداءات، بدلاً من تكريس المستوطنين كجزء لا يتجزأ من منظومة استعماريَة يشكّلون فيها رأس الحربة وتقوم بالدور الذي قامت به عصابات الهاغانا من قبل. هذا بالإضافة إلى ما يتم إدخاله في الوعي الفلسطيني من التفريق ما بين المستوطن في الضفَّة الغربيَّة، وما بينَ الإسرائيلي المواطن في فلسطين المحتلَّة. ويندرج هذا في إطار الخطاب القانوني الإنساني الذي اجتاح المجتمع الفلسطيني منذ عشر سنوات وأكثر، كخطاب الدولة الفلسطينيَّة المؤسِّسَة للسلام في المنطقة. والحديث عن انتفاضة بهذا القاموس الإنساني القانوني، يفرِّق ما بين الصهاينة بناءً على الجنس، اللون، المنطقة الجغرافيَّة، الوظيفة، هو حديث عن احتجاج مدني وليس إنتفاضة شعب تحت نير الاستعمار. الشعب الفلسطيني ليسَ بحاجة إلى مجتمع مدني كما يتم الإدعاء وصرف الأموال من قبل الدول المانحة والمؤسسات المستفيدة من هذه الدول، بل هو بحاجة إلى تنظيم ثوري. 
وربَّما تكون بذور هبَّة أكتوبر الشعبيَّة تشير إلى إدراك كون الاستيطان الصهيوني في الضفَّة الغربيَّة يُشكِّل خطراً حقيقياً يمسَّ بالحياة وليس فقط بالأرض، وفي المقابل، لَن تَكون عمليَّة بناء وعي مناقض للوعي الأوسلوي (ليس وعياً جمعياً، إنما هو وعي أفراد)... من دون رؤية السُلطة الفلسطينيَّة أو المؤسسات الأخرى التي تنشأ عن وجود اتفاق أوسلو وتعمل وفق خطاب أوسلو، كسُلطة وجودها الوظيفي يتطلَّب منها أن تكون متعاونة مع الإستعمار الصهيوني. هناك أمثلة عديدة عن مجموعات فلسطينيَّة تحاول العمل على إيجاد خطاب منافي لخطاب أوسلو، وخارج دائرة مؤسسات أوسلو. منها دائرة سليمان الحلبي تلك التي أنشأتها مجموعة من الشباب والأكاديميين، إضافةً إلى "ملتقى نبض" الشبابي.. لإنتاج ثقافي فلسطيني توعوي، في إطار محاربة الوعي المفروض على الشعب الفلسطيني من قبل المؤسسات الحكوميَّة وغير الحكوميَّة. ومن أهم سمات هذا الخطاب، أنَّه ليس ناشئاً عن فصيل أو عن مؤسسة، إنما عن جهد بحثي وطني لا يلتزم بالقواعد المفروضة على كيفية إنتاج المعرفة وعلى كيفية نشرها. لعل تلك مبادرات للعبور من مرحلة أوسلو إلى مجتمع يناقض وجود مستعمره ولا يتماثل مع هذا المستعمِر.
المصدر: السفير اللبنانية