وصفي الأمين
شكّل انتشار القوات الروسية في شبه جزيرة القرم تأكيداً عملياً على جدية موسكو في الالتزام بعقيدتها العسكرية الجديدة التي وقعها الرئيس بوتين قبل نحو شهر من ضمّ الإقليم الى روسيا، وكان مؤشراً على تغيّر جذري في سياسات روسيا تجاه توسّع «حلف الأطلسي»، الذي ينتشر على حدودها من أوروبا إلى آسيا الوسطى، مهدّداً أمنها القومي. روسيا باتت محاصَرة بجملة تهديدات ميدانية مباشرة، من تصاعد الصراع في أوكرانيا إلى القواعد العسكرية على حدودها، مروراً بالدرع الصاروخية، وليس انتهاءً بالتهديد الاستراتيجي الذي يمثّله سقوط سوريا في القبضة الأميركية.
الدخول الروسي العاصف الى الميدان السوري، هو، بالدرجة الأولى، دفاعٌ عن أمن روسيا ودورها ومصالحها، ولحماية الدول الأوراسية. وأي فشل في حماية سوريا، لا يعني فقط خروجها نهائياً من المنطقة، وتهديداً مباشراً لموسكو، بل فقدان مصداقيتها لدى دول أوراسيا، وتصاعد الثورات الملوّنة في المحيط الحيوي لروسيا، وفي داخلها. ويعني أيضاً تنفيذ مشروع خط الغاز القطري والسوري واللبناني و «الإسرائيلي»، الذي يمر في سوريا عبر تركيا الى أوروبا، لمحاصرة روسيا اقتصادياً، وحرمانها من أبرز أدوات الضغط السياسي على أوروبا، وهو حاجتها للغاز الروسي. وسوريا «أميركية»، تعني تمدّد حرب التكفيريين إلى الجمهوريات الإسلامية في روسيا. وتعني سقوط العراق ولبنان، وفرض حصار كامل على إيران، حليفتها الإقليمية الأقوى، في مقدّمة لإسقاط نظامها، ما يسهّل على واشنطن ابتزاز الصين ايضاً، التي يمكن أن يكون النفط الإيراني احتياطاً استراتيجياً لها.
ليس لدى الروس أوهام القدرة في القضاء على الإرهابيين في سوريا، ولا همّ في وارد الذهاب بعيداً في الحرب الدائرة. هم يعيدون ترتيب أولويات الصراع في المنطقة، مستغلين ضعف أوروبا اقتصادياً وسياسياً، ويستفيدون من انغماس حلفاء واشنطن في مشاكلهم الداخلية، كتركيا، وفي حروب استنزاف خاسرة كالسعودية، والانهماك في مواجهة تهديدات وجودية كـ «إسرائيل»، فضلاً عن فشل استراتيجية حلف واشنطن في «مواجهة الإرهاب» وفي وقف تقدّم جماعاته على الأرض. ويتكئون على طلب رسمي من الحكومة السورية الشرعية للتدخل والمساعدة، وفقاً للقوانين والمواثيق الدولية، ما يوفر غطاءً شرعياً لعملياتهم، بخلاف الحلف الأميركي الذي ينتهك السيادة السورية.
لا شك في أن بوتين وإدارته يدركان عدم قدرة بلادهم على تحمّل الكلفة الاقتصادية للانغماس طويلاً في هذه الحرب، فالتجارب السابقة ماثلة (فييتنام، أفغانستان، العراق، واليمن...) ويعرفون أن الضربات الجوية لا تحسم حرباً، والنماذج حاضرة. كما أن الحديث عن دعم جوي مباشر للقوات السورية، يساعدها على التقدم في مناطق سيطرة المسلحين (باستثناء مناطق محددة) فيه الكثير من المبالغة. فالقضاء على الجماعات المسلحة في سوريا، كما في العراق، خط أميركي أطلسي أحمر.
الحضور العسكري الروسي المباشر في سوريا، يستدعي حماية النظام، لضمان وجود على الساحل السوري، يمكنه من خرق الحصار الغربي، من دون وجود مؤشرات على أن الهدف الأساس يتجاوز تأمين «سوريا المفيدة»، التي تضمّ الساحل السوري ودمشق وحمص، والأخيرة توفر لهم إطلالة ضرورية على العراق، وتسمح لهم بالتحكم بمشروع خط آخر للنفط والغاز يمرّ عبر صحراء تدمر الى ساحل المتوسط («الخط العربي» الذي ينقل الغاز والنفط الخليجي، والخطين العراقي والإيراني).
بين الأولويات الروسية، ضرب آلاف المقاتلين الروس في صفوف «داعش» و «النصرة»، وربما استدراج التكفيريين الروس إلى سوريا والتخلّص منهم على أرضها. الأساس في التدخل المباشر، هو دفع واشنطن لأخذ مصالح موسكو وأمنها القومي بعين الاعتبار في أي ترتيبات مستقبلية في المنطقة والعالم، إلى جانب تأكيد أن التعددية القطبية أصبحت واقعاً وعلى الولايات المتحدة التعايش معه.
التدخل الروسي في سوريا ليس جديداً، لكنه بشكله الحالي، يحوّل الصراع من إدارة بالواسطة عبر قوى محلية، إلى تدخل مباشر يضع القوتين العظميين وجهاً لوجه، الأمر الذي سيترك تداعيات قد تقوّض مصالح ونفوذ بعض القوى، خصوصاً حلفاء واشنطن الإقليميين، دولاً ومنظمات. صحيح أن التدخل يقلق الحلف الأميركي، أكثر من أي وقت مضى، لكنه يستفز الكثيرين في العالم الإسلامي، ويستعيد ذكريات أفغانستان والشيشان، وسيجذب أفواجاً من التكفيريين إلى سوريا، ما يعني تصعيداً للصراع. والأخيرون هزموا الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بدعم أميركي، وساهموا في تفكيكه. فكيف سيتطوّر التدخل الروسي، إذا قررت واشنطن إغراق القوات الروسية في الأزمة بدعم عسكري ولوجستي كثيف ونوعي للجماعات المسلحة؟ ماذا لو نجح الإرهابيون بتنفيذ عمليات انتحارية ضد الجنود والمنشآت الروسية في سوريا، أو قرّروا الردّ في شوارع المدن الروسية؟ ماذا لو تورط أردوغان أو الإسرائيليون أكثر في الأزمة السورية، بناءً على حسابات خاطئة؟
تحوّلت سوريا اليوم إلى أكبر مركز تجمّع للجيوش والمقاتلين في العالم، وأكبر وأخطر مخزن سلاح بلا ضوابط. هي اليوم ساحة حرب عالمية محدودة في الجغرافيا، لكنها مفتوحة على أخطر الاحتمالات وأسوئها. أجواؤها تعجّ بالمقاتلات والقاذفات التابعة لدول كبرى وأخرى إقليمية. وأرضها متخمة بالجنود والمقاتلين التابعين لدول وقوى، تتناقض أهدافها، وتتضارب مصالحها، ويعيش بعضها تهديداً وجودياً، وبعضها الآخر يرى أمنه القومي في دائرة الخطر المباشر. الساحة السورية أصبحت مصدر التهديد الأكبر على استقرار المنطقة والعالم، وأدخلتهما مرحلة جديدة، أكثر خطورة وتعقيداً، ستحدّد نتائجها خريطة العالم الجديدة.
ما هي استراتيجية إيران، وسط هذه التعقيدات والمخاطر والتهديدات؟
روسيا دخلت المعركة باستراتيجية واضحة، لا تستبعد التصعيد، لكنها تعمل على تسوية لتقاسم النفوذ والمصالح مع واشنطن. وهي لن تحارب سوى دفاع عن أمنها ومصالحها. ولا مصلحة لها في كسر قواعد وشروط التنافس والصراع التي وضعتها الولايات المتحدة. ولم تنسَ تأكيد حرصها على أمن إسرائيل. صحيح أن القيادة الروسية تعي حاجتها الماسة لمحور المقاومة، وأهمية تحالفها معه الآن. فما هي خطة هذا المحور لمواجهة أي تحوّل روسي تجاه هذا التحالف؟ ما هي أدوات ووسائل الضغط التي يمكن استخدامها في هذه الحالة؟
واضحٌ السعي الروسي لإعادة الاعتبار إلى شرعية الحكومة السورية. روسيا تفضل العمل مع الدول والقوى المناهضة للمشروع الأميركي وللتكفيريين، ولا تنظر إلى المنطقة من زاوية مكوّناتها الطائفية والمذهبية والعرقية، وتتجنب العمل على هذا الأساس، ولا تفرق في عملياتها بين الجماعات الإرهابية، كما خفف تدخلها المباشر من حدة التحريض ضد الشيعة. بعكس الاستراتيجية الأميركية القائمة على تقسيم المنطقة الى طوائف ومذاهب وجماعات، وعلى تصنيف الإرهابيين إلى معتدلين ومتطرفين. ولكن، إذا عجزت روسيا عن كسب المعركة، أليس وارداً أن مصلحتها ستقتضي إطالة أمد الحرب في سوريا والعراق، لإبقائها بعيدة عن أرضها؟ وما هي خطة إيران لمنع الحلف الأميركي من استغلال تعقيدات الأزمة السورية، وتحويلها إلى صراع روسي ـ إيراني؟ كيف سيستفيد محورها من المستجدّ الروسي لتعزيز مواقعه السياسية والعسكرية؟ مهمة «غرفة التنسيق الاستخباري الروسي ـ الإيراني ـ السوري ـ العراقي» لا تختلف عما هو قائم منذ خمس سنوات، فهل لدى طهران تصور لتحويلها إلى تكتل إقليمي؟ هل فعلاً، يرى محور المقاومة أن التقدّم الروسي يعني انكفاءً أميركياً؟ هل سيقبل الأميركيون بتحقيق الروس إنجازاً في سوريا، يشجع العراقيين على الطلب جدياً مساعدةً روسية، ويشجع موسكو على قبولها؟ أليس منطقياً أن واشنطن، ومعها «حلف الأطلسي»، هما بصدد الإعداد للردّ؟ أين محور المقاومة في هذا الخضم؟
المصدر: السفير اللبنانية