وسيم ابراهيم
فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين. ذاك العقل الداهية، الذي يضجّ العالم بخطوته السورية المباغتة، بماذا يفكر؟ الجميع مشغول بالتحليل والتفسير. يأتي الردّ صريحاً من أحد أهمّ جنرالات الحلف الأطلسي: «إذا قال لك أحدٌ أنَّه يعرف ماذا يفكر السيد بوتين، فعليك فوراً معارضته، لقد حذرت من أنَّ القليل جداً من الأشخاص يعرفون بماذا يفكر بوتين».
المتحدث هو الجنرال الأميركي فيليب بريدلوف، قائد قوات الحلف الأطلسي في أوروبا. وفق تحليله، فإنَّ الحشد العسكري الروسي، وعملياته، لهما صلة ضعيفة بما يمكن فعله ضدّ «داعش» وأخواته. يتدرّج الأمر ضمن لائحة أهداف، سياسية، تكتيكية، واستراتيجية، تصل حدّ التحذير من أن يقيم الروس على الساحل السوري منطقة نفوذ، محصّنة عسكرياً، ستكون الثالثة لهم في العالم.
التركيز على هذا السيناريو، سيجعل سوريا على قائمة أهداف التخطيط لمناورات وعمليات جيوش الحلف الأطلسي، التي ترفض تحريم دخولها لمناطق النفوذ الروسي المحصّنة.
«التحزّر» حول ما يفكر به الكرملين، مضيعة للجهد بحسب «الناتو». يقول الجنرال بريدلوف إنَّ هناك طريقة أنجع، وهي معرفة ما الأدوات التي تضعها موسكو في مسرح الحدث، ومنها استنتاج نطاق الفعل الممكن بهذه الأدوات. الحديث هنا يدور حصراً عن المجال العسكري. خلال استعراضه للقدرات العسكرية التي أنزلتها روسيا عبر جسرها الجوي إلى سوريا، يقول بريدلوف: «نرى استقدام بعض أجزاء الدفاع الجوي المتطور جداً، نرى بعض الطائرات المقاتلة المتطورة جداً، قدرات جو - جو تذهب إلى هذا المطار (السوري)»، قبل أن يضيف بنبرة ساخرة: «لم أرَ داعش يحلّق بأيّ طائرات تتطلب وجود (صواريخ) سام 14 وسام 22، أو وجود قدرات جو - جو.. هذه القدرات المتطوّرة من الدفاع الجوّي ليست حول داعش، إنّها حول شيء آخر».
نطاق الأهداف الممكنة وفق هذه «القدرات»، يشمل مستويات مختلفة. المستوى الأول منها يمكن للجنرال الأطلسي أن يرسمه بيسر، إذ يعتبر أنَّ الروس «يريدون الحفاظ على ميناء في المياه الدافئة وعلى قاعدة جوية، في شرق المتوسط، وهم يرون أنهم يواجَهون بتحدّي تقدّم من يعارضون (الرئيس السوري بشار) الأسد». على هذه الأرضيَّة، يكمل بريدلوف: «أعتقد أنَّ روسيا تريد بقوة إبقاء وإطالة نظام الأسد، لأنَّ ذلك بابهم الشرعي لموانئهم ولقاعدتهم الجوية في سوريا، لذلك يريدون إعاقة تقدم معارضي الأسد، وبعد كل ذلك، أعتقد أنَّهم سيقومون بشيء ضدّ داعش من أجل شرعنة نهجهم في سوريا».
هناك منطق، تحصيل حاصل، ووقائع لاحقة تدعم تقديرات قائد قوات الناتو في أوروبا، وفق ما قدّمتها واشنطن أيضاً. قبل كل شيء، ليس مفاجئاً أن تحسب روسيا على أساس أنَّ نفوذها في دولة، قاعدتها البحرية أو الجوية فيها، لن يمكن الإبقاء عليها بوجود سلطة مناوئة لهذا النفوذ. بقاء النفوذ وشرعيته، سيكون معادلاً لبقاء سلطة تقبله وتدعم وجوده، غير ذلك سيكون احتلالاً صريحاً. هذه المعادلة ستجعل الدفاع عن السلطة الداعمة للنفوذ الروسي مرادفاً، بشكل ما، للدفاع عن المصلحة الروسية المباشرة.
هكذا، لم يكن مفاجئاً تشريع مجلس الدوما لاستخدام الجيش في سوريا باعتباره دفاعاً عن «المصالح الوطنية» الروسية. في ذات المسار، تحضر المعطيات التي قدّمها مسؤولون أميركيون عن الغارات الروسية الأولى. دلالة البداية من الطوق الجغرافي المحيط بالساحل السوري، حيث المعقل الروسي، كانت واضحة للجميع. فوق ذلك، أكَّد مسؤولون أميركيون أنَّ بعض الغارات استهدف مجموعة سورية معارضة، مدعومة من برنامج التدريب السرّي الذي تديره وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه». رفضوا، كما هو متوقع، تحديد أيّ مجموعة بالضبط يقصدون، لأنَّ هذا سيكشف حلقة في برنامج لا يزال جارياً ومحاطاً بالسرية.
المستوى الثاني من الأهداف الروسية، هو الذي يقلق «الناتو» بشكل خاص، على ما يقول الجنرال بريدلوف. بعد شرح عسكري مفصَّل، خلال ندوة أقامتها مؤسسة «مارشال فاوند» الأميركية، يخلص إلى القول: «إنَّنا نرى هذه القدرات المتطورة جداً من الدفاع الجوي بدأت بالظهور (في سوريا)، نحن قلقون من أن (نظام تحصين) قبة A2/AD يتمّ إنشاؤها في شرق المتوسط».
هذه القبة، لتحصين منطقة جغرافية، أتمّت موسكو إنشاءها وتشغيلها في موقعين، بحسب رصد الأطلسي. الأولى والأكبر في كالينينغراد، الجيب الروسي المنفصل جغرافياً على بحر البلطيق، بين ليتوانيا وبولندا. قبة التحصين هناك تشمل مضادات سفن ومضادات طيران، ويعتبرها الأطلسي «مشكلة متنامية» لحركة قواته. القبة الثانية «طوَّرتها» روسيا على البحر الأسود، في شبه جزيرة القرم بعد ضمّها، حيث «نطاق تغطية صواريخ كروز يغطي كامل البحر الأسود، وصواريخ الدفاع الجوي تغطي 40 إلى 50 في المئة منه».
في الأدبيات العسكرية، يشمل نظام التحصين A2/AD شقين: مكافحة الوصول إلى منطقة، والحرمان من احتلالها. الأول يهدف عملياً إلى جعل المسؤولين العسكريين أمام «حسابات مخاطر» عالية جداً إلى غير مقبولة، خلال تخطيطهم للتدخّل في منطقة معينة. الشق الثاني، المتعلق بالحرمان، يهدف إلى تعقيد محاولات إقامة وجود فعّال عسكرياً، بالإضافة إلى مقاومته والحدّ من حريّة العمل لتحقيق نتائج سريعة وفعَّالة.
القائد العسكري في «الناتو»، يشير إلى هذه القبة، مستدلّاً بوصول «طبقة منها»، ليشدّد على أنَّ «هذا الشيء نرى أنّهم يطورونه في شرق المتوسط». على كل حال، الحلف الأطلسي يعتبر القبّة الدفاعيَّة عائقاً أما قوّاته. لذلك يقيم مناورات موجّهة لاختبار فعاليّة التحصينات الروسيّة، وكيفية اختراقها في كل من بحري البلطيق والأسود. إنشاء قبة كهذه فوق الساحل السوري، سيجعل المنطقة هاجساً لمناورات «الناتو» وتخطيطه العسكري، فهي ستكون «الثالثة حول أوروبا»، كما وصفها الجنرال.
لا يمكن إغفال أن طروحات بريدلوف لطالما ركَّزت على استنهاض الحذر الأوروبي، لزيادة أهمية الحلف الأطلسي ورفع الانفاق العسكري الأوروبي. مع ذلك، يتفق مع نصف كلامه بروكس تغنر، الخبير العسكري في شؤون الناتو والمحلل في مجلة «جاينس ديفنس» الأميركية المختصة في الشؤون العسكرية. خلال حديث مع «السفير»، لا يستبعد أن «يقتنص» الروس الفرصة «لإنشاء معقل عسكري استراتيجي هو الأول لهم في البحر المتوسط».
يعتبر تغنر أنَّ إنشاء منطقة محرمة في الأجواء السورية أمرٌ وارد، لكن الحسابات مختلفة مع تحصين ساحل المتوسط . يقول حول ذلك، إنَّ فرض منطقة محرمة أمر «صعب على المتوسط. ..دول الاتحاد الاوروبي لديها حضورها هناك، والولايات المتحدة موجودة أيضاً، لذا سيكون تطبيقها طرازاً من الحرب الباردة»، قبل أن يضيف «هكذا خيار لن يتسامحوا معه أبداً، لا تركيا ولا الناتو».
أما بالنسبة إلى إنشاء قبة تحصين للنفوذ، في الأجواء السورية، فالمسألة «مختلفة» وفق رأيه: «بالتأكيد ما تنشئه روسيا يمكن أن يكون منطقة حظر جوي، طبعاً هم لن يقولوا ذلك، لكن إذا دعاهم الأسد لا يمكنهم (للتحالف الذي تقوده واشنطن) فعل شيء، عليهم أن يعيشوا معه، ويمكن للغرب الاستفادة من وجود الرادارات الروسية في محاربة داعش».
حينما يشير الناتو إلى أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، فهو يستعرض إرسال موسكو طرازات من طائرات «سوخوي» معروفة بقدراتها المتطورة في المناورة والاشتباك الجوي. رصد الناتو أيضاً بطاريات صواريخ «سام 15»، التي يغطي نطاق عملياتها 500 كيلومتر، بالإضافة إلى بطاريات «سام 22». الأخيرة هي نظام الدفاع الجوي الأحدث، دخلت الخدمة العام 2012، مضادة للطائرات والصواريخ. المفارقة أنَّ أول رصد لاستخدامها في مهام قتالية، كان في الأجواء السورية. أوردت تقارير عديدة أنَّ الجيش السوري استخدم «سام 22» لإسقاط طائرة «فانتوم» التركية، حينما كانت تقوم بعمليات «استطلاعية» قرب اللاذقية صيف 2012.
حينما يقارب الناتو تحرّك موسكو في سوريا، يشير مباشرة إلى كيفية انخراطها في الصراع على أوكرانيا. يسود التزام التكتّم والامتناع عن التعليق، حتى لو حول مسائل عسكريّة رصدتها كاميرات التلفزيون. لكن يمكن الاستدلال أيضاً بالمقاربة السياسية. في حالة أوكرانيا، على أبواب موسكو، اندفعت روسيا لتدخل عسكري (لم تقر به) في لحظة دفاعيّة قصوى.
في خطابه أمام الأمم المتحدة، واصل بوتين الحديث عن «انقلاب» غربي أسقط حليفه، الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش. رأى الكرملين كيف ذهبت الفوضى بترتيبات النفوذ الروسي، حينما سقط فجأة رأس النظام الحليف. فتحت روسيا الإمداد العسكري إلى الشرق الأوكراني، لترسم خطاً أحمر لم تسمح بتجاوزه: الانفصاليون صامدون والصراع مستمر، أمَّا إطار الحل السياسي (اتفاق مينسك) فمتفق عليه دولياً، ويطالب جميع الفرقاء بتطبيقه. تقريباً، مثلما هو حال إطار جنيف!
بدلاً من الاستماع لما يروجه الأطلسي، عن أنَّ «روسيا تريد أن ينظر إليها كلاعب متساوٍ، على الساحة الدولية، كقوى عظمى»، ربما يفيد الإصغاء إلى ما يفكر به بوتين بصوت عالٍ. حينما سُئل عن رؤيته لبلده كقوة عظمى، قال إنَّ لا أوهام لديه. القوى العظمى تبنى برأيه على ثلاث ركائز: القوى العسكرية، الإرث الثقافي، والاقتصاد. أقرّ بالحاجة للعمل على جبهة الاقتصاد. قال إنَّ لا داعي للجدل حول عظمة الإرث الثقافي لبلاده، لكنَّه شدَّد على تفوّق الترسانة العسكرية لروسيا. ليس من داع «للتحزّر»، إلَّا لمن يفكر بأنَّ موسكو كانت سترسل إرثها الثقافي لإنقاذ «مصلحة وطنية» مهددة.. في صراع قوى عظمى!
المصدر: السفير اللبنانية