2024-11-25 12:00 م

أسرار التفاصيل الدفينة للعلاقات السعودية اليمنية

2015-09-04
جمال محمد تقي*
أسرار التفاصيل الدفينة للعلاقات السعودية اليمنية قد لا تحتويها الا صناديق سوداء شبيهة بتلك التي تحملها طائرات النقل الجوي، فهي مليئة بما لا يخطر على بال. فالسعودية تقبّلت التعايش مع دولة الإمامة بعد أن خضعت الأخيرة لسطوة الجار المتجبر. استثمرت السعودية في صراع الإمام يحيى مع الأدارسة على أرض اليمن، في عسيرها وجيزانها، فدافعت عنهم بوجه الإمام ثم انقلبت عليهم بعد أن توافقوا مع الإمام، فأعلنت أن أرض الأدارسة هي أرضهم لأنهم احتموا ولو لاجل بدولة آل سعود. وبعد أن تعايش الطرفان، وحّد الأمر الواقع الحدود بينهما، على الرغم من أن الإمام أحمد بن يحيى حاول التملص من السطوة السعودية بواسطة التقرب من قيادة عبد الناصر والدخول مع مصر وسوريا في ما سُمّي وقتها "الجمهورية العربية المتحدة" العام 1958، الذي حله جمال عبد الناصر بعد تدهور العلاقات بين أتباع الناصرية في اليمن وخاصة العسكريين منهم، وبين الامام وأتباعه، فكانت ثورة 26 أيلول 1962 بقيادة عبد الله السلال و "الضباط الاحرار" في الجيش اليمني، التي وقفت السعودية ضدها بكل قوة ودعمت الإمام الهارب محمد البدر وجعلت من أرض المملكة ملاذاً لجيشه وعمقاً ممولاً له بالعدة والعدد. ولم يكن خافياً بأن التدخل العسكري المصري المباشر لدعم ثورة اليمن كان قد أثار حفيظة كل من بريطانيا واسرائيل اللتين أملتا باستنزاف الجيش المصري ــ وعملتا لذلك ولو بأشكال غير مباشرة ــ فشارك طيرانهما بتزويد مرتزقة الإمام البدر بالذخائر، وبقصف المواقع المصرية في الحُديدة. ولم يكن خافياً ايضاً دعم شاه ايران غير المباشر للبدر ومن يقف خلفه. خشيت بريطانيا على مصير قواعدها في اليمن الجنوبي من تمدّد التيار القومي التحرري، خاصة أن اندلاع الكفاح المسلح لثوار الجنوب بات واقعاً بعد أن تشكل جيش تحرير الجنوب العربي المدعوم من مصر ومن ثوار صنعاء، فكانت انطلاقة ثورة 14 تشرين الاول 1963 من جبال ردفان التي لا تبعد كثيراً عن عدن، ركيزة التواجد البريطاني المطل على أهم ممر استراتيجي في منطقة الشرق الاوسط ، باب المندب، بوابة البحر الأحمر ومفتاح الإبحار الآمن نحو الأبيض المتوسط عبر قناة السويس.

سعودة اليمن

بعد انتزاع ثوار جنوب اليمن، بقيادة الجبهة القومية، الاستقلال من الاحتلال البريطاني في 30 تشرين الثاني 1967، سعى أحرار اليمن بمختلف مشاربهم الى تحقيق حلم الوحدة اليمنية الذي كان يراود كل القوى الوطنية الفاعلة شمالاً وجنوباً، وكانت للتفاوتات السياسية والايديولوجية والحركية بين الجمهورية العربية اليمنية شمالاً، وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية جنوباً، دورها في عرقلة هذا المشروع على الرغم مما لقيه من تأييد من الحركات الشعبية في عموم الوطن العربي. وسمحت الصراعات على السلطة بالتدخل السعودي الناعم، المختلف عن تدخلها المباشر الخشن بدعم الإمامة بوجه ثورة السلال ومن خلفها مصر عبد الناصر، وخاصة انها كانت تخشى من التطلعات اليسارية لحكام الجنوب الذين كانوا لا يطيقون نفوذ آل سعود على شبه جزيرة العرب. ووجد علي عبد الله صالح بحرب صدام حسين مع إيران وبروزه كقوة إقليمية تخشاها السعودية، فرصة سانحة لبسط النفوذ على الجنوب، خاصة أن قادته تقاتلوا في ما بينهم بدموية واستنزفوا مشروعهم، وفقدوا حليفهم الدولي بعد شيوع أعراض انهيار الاتحاد السوفياتي. قامت الوحدة اليمنية في 22 أيار 1990، وأصبح علي صالح بعدها أكثر قوة وحصانة، ودخل هو ونائبه علي سالم البيض مجلس التعاون العربي الذي جمع عراق صدام ومصر والاردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث لم يكن بمقدور السعودية وقتها عرقلة تنفيذ مشروع الوحدة المعلن، ثم جاءت الانتخابات الوحدوية لتفرز نتائج لم ترق للسعودية، لأنها اعطت صالح وحزبه امكانية التفرد بقيادة اليمن الكبير، فتخشى مطالبة اليمنيين بالحقوق التاريخية بنجران وجيزان، خاصة أن البلاد كانت في طريقها لتكون بلداً نفطياً بشرط استقرار وحدتها التي ستعزز الاستثمارات النفطية الدولية. لذلك كانت السعودية سباقة بإعلان تأييدها لحركة انفصال الجنوب مجدداً بعد أحداث حرب 1994 التي استبيح فيها ما كان اليمن الجنوبي وانتهك، بما يعمّق الشروخ.

مذهب الغاية تبرّر الوسيلة

قبل ذلك، ليس غريباً أن يشار للدور السعودي باغتيال إبراهيم الحمدي في تشرين الاول 1978، قبل يوم من سفره لعدن من اجل الإسراع بتحقيق اتفاق الوحدة بين اليمنيين، ومن ثم وصول الغشمي للسلطة، وبعدها وصول علي عبد الله صالح الى رأس هرمها. وهي بقيت صاحبة اليد الطولى حتى العام 1990 حيث وقع الاختلال بموازين القوى الذي خلقه عراق صدام، وفقدانها القدرة على المبادرة عند إعلان الوحدة بين اليمنين. وظلت بعد ترويضات حروب الخليج الثانية والثالثة، حافظة لعهدها مع الشاويش علي عبد الله صالح، حتى في مبادرتها الخليجية لحل أزمة الربيع اليمني، ومن ثم انقلابه عليها بتحالفه مع الحوثيين الموالين لإيران، وتمرده عليها وعلى مبادرتها لحل أزمة اليمن.
الغاية هي السلطة بلا حدود، أما الوسيلة فهي حمل راية المذهب الذي يصادر الدين والدنيا وكأنه تنزيل جديد لإله آخر غير الله الذي نعبده. ومن يطّلع على سيرة انبثاق الوهابية وتزاوجها مع أطماع آل سعود لا يستبعد توارد الخواطر مع وصايا ميكافيللي لأميره التي نفخت في أي تزاوج من هذا النوع روحا كاثوليكية لا تموت الا بموت الزوجين معا. وحده المذهب الوهابي أعطى لنفسه الحق باستباحة المذاهب الاخرى والاجهاز على اتباعها واكراههم على الخضوع لسيف دولته، وكأنه دين جديد نزل في أرض كافرة لا يسْلم أهلها إلا بالشهادة لحكم امراء آل سعود. العروة الوثقى أتمت المزاوجة بين الإمامة والامارة، بين الشيخ والامير. وهكذا منذ بداية القرن الثامن عشر وحتى الآن.
بهذا المذهب الحركي التواق للسلطة والعابر لاي حدود في محيطه، استطاع آل سعود ان يتميزوا عن غيرهم من حكام وامراء ومشايخ شبه الجزيرة العربية. لقد تفوقوا على منافسيهم الهواشم، أشراف مكة، وعلى حكم الإمامة في اليمن، وعلى اتباع الاباضية من سلاطين عمان...

نجران تحت القصف

لو قدر للامام يحيى حميد الدين المتوكل ( 1869 ـ 1948)، اعادة امجاد اجداده الزيدية وأقام مملكته بعد ان انسحب العثمانيون من اليمن عام 1918، لكانت لا تختلف من حيث الجوهر عن مملكة عبد العزيز بن سعود (1876 ـ 1953). لقد اعترفت به امبراطورية ايطاليا ملكا على اليمن نكاية بالبريطانيين، وكأنها تريده ملكا على كل الارض الممتدة من ظفار الى عسير الشمالية، مرورا بالمهرة وحضرموت وشبوة وآبين وعدن ولحج وتعز ومآرب وصنعاء وصعدة والحديدة ومخا. ولم يكن ينقصه حينها غير الاستناد على قوى كبرى منتصرة تتخادم معه، وغير فرص مؤاتية ليقدم نفسه للمتنافسين الكبار كقوة لا يمكن تجاهلها. ولو توفر له ما توفر لآل سعود من موارد نفطية وايديولوجية برغماتية توسعية، كالمذهب الوهابي، لكان له شأنا منافسا بل نديا لمملكة آل سعود، وليس مملكة منطوية على نفسها ومحاصرة بتهديد بريطاني وسعودي، ينخرها التخلف والتقوقع، ووجودها مرهون بالدعم السعودي الذي لا يريد ان يفتح زوالها طريقا لقيام يمن جديد وسعيد يثأر لنفسه من تمددات آل سعود التي تجاوزت كل الحدود.
كان الامام يحيى على تعارض مباشر مع الانكليز بسبب نيلهم من طموحه بضم جنوب اليمن، وكان الايطاليون أضعف من أن يمدوا له يد العون، وتجاربه في التصادم مع آل سعود لم تكن مبشِّرة بعد ان استطاعوا انتزاع اعتراف المملكة المتوكلية بسيطرة آل سعود على 100 كيلومتر من ساحل تهامة اليمني الأصل، وباحتفاظهم بجيزان وتقاسم نجران، وذلك بحسب ما جاء في اتفاقية الطائف الموقعة بين الجانبين عام 1934 وما لحقها من ملحقات عام 1936، والتي تعتبر تتويجا للسعي السعودي لقضم واحتواء ما تيسر من أرض اليمن، وعزل سلالة الحكم فيه عن الأطراف المثلومة.
بعد ان ثبت ملك آل سعود، وبعد ان جعل من كل أطراف شبه جزيرة العرب كيانات تستقوي به وليس عليه، راح يدافع عنها بوجه أي رياح للتغيير فدافع عن الإمامة بوجه ثورة اليمن ودافع عن مشايخ الساحل غير المتصالح بوجه المناهضين لهم.
قيل أن الحكمة والسيف يمانيان، وقيل أن الراية السعودية استعارت السيف وأهملت الحكمة، وقيل بأن طريق الربع الخالي لن يبقى خارج نطاق التغطية.. حتى قيل بأن في بعض أرض اليمامة رجال تعودوا على احتساء خلطة ليس لها مثيل، لا في الإحساء ولا في كل جزيرة العرب ، خلطة الحاس والبسباس والخبث الأصيل، إذا حضرت حضرــ الموت!
وعلى سيرة القيل والقال، فإن الحب هو الذي أسرى بوضاح اليمن الى الموت، حين كان خليلا لام البنين زوجة الخليفة الاموي الوليد بن عبد الملك، حيث كان دفن الخليفة للصندوق الذي أخفت به أم البنين شاعر اليمن ووضاحها، محاولة من الخليفة للهروب من سر الحقيقة، وكأن شيئا لم يكن رغم ادراك عقله الباطن بان أخفاء اثر المعشوق لا يلغي سر تمرد زوجته عشقا بغيره. وقال عبد الله البردوني شاعر اليمن الحديث: ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي ــ مليحة عاشقاها السل والجرب، ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن ــ ولم يمت في حشاها العشق والطرب!
وقالوا أن نجران منذ أصحاب الأخدود هي تحت الصفر، وقالوا بأنها تحت القصف لان اميرها لم يتعظ، لا من أصحاب الأخدود ولا من حدود الأخدود نفسه..

* باحث من العراق مختض بشؤون الخليج العربي