رياض طباره
يعتبر الرأي العام الأميركي، متأثراً بهجمات 11 أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن، أن الإرهاب الأخطر في الولايات المتحدة هو الإرهاب الإسلامي. وقد غذّى الإعلام الغربي هذا التفكير حتى أصبحت هذه الفكرة دارجة حتى في العالمين الإسلامي والعربي. انتقل هذا الخوف من الإرهاب الإسلامي بالنسبة لغالبية الأميركيين إلى كراهية للمسلمين والإسلام عامة. ففي استطلاع قام به مركز «بيو» الموثوق في حزيران 2014، طُلب من المستطلَعين أن يضعوا علامة بين صفر ومئة للطوائف المختلفة في أميركا، فنال اليهود أعلى علامة (63 في المئة) ومن ثم الكاثوليك (62 في المئة) والإنجيليون (61 في المئة). البوذيون والهندوس والمورمون نالوا ما بين 48 و53 في المئة. حتى الملحدون نالوا 41 في المئة. أما المسلمون فجاؤوا في قعر السلم، إذ نالوا معدلاً يوازي 40 في المئة.
لمعرفة مدى وجود الإرهاب الإسلامي في الولايات المتحدة مقارنة بالإرهاب من مصادر أخرى، من المفيد تقسيم الماضي إلى قسمين: ما قبل 11 أيلول 2001 وما بعده. الإحصاءات التي سنستعملها هي إحصاءات رسمية أميركية مصدرها عموما مكتب التحقيقات الفدرالي (الإف بي آي). تصنيف العمل الإرهابي هو بأن يكون الهجوم على أناس غير مقاتلين لأهداف سياسية أو دينية أو إيديولوجية. الهدف الديني لا يعني بالضرورة أن الشخص هو من دين معين، فالعمل الإرهابي الإسلامي لا يعني أن المجرم هو مسلم، بل إن الهدف هو برأيه في سبيل الإسلام.
خلال المرحلة ما بين 1973 و2001 أي خلال الثلاثة عقود التي سبقت حادثة 11 أيلول 2001، بلغ عدد القتلى نتيجة للإرهاب الإسلامي في الولايات المتحدة 15 قتيلاً في حوالي عشرة حوادث معظمها نتيجة صراع بين فئات إسلامية محلية أو اغتيالات لإيرانيين من عصر الشاه أو لأفغان منشقين، إضافة إلى خمسة قتلى على يد فلسطينيين. الحادثة الوحيدة التي كان لها وقع كبير كانت التفجير الذي حصل في مرأب بناية «الإمباير ستايت» سنة 1993 والذي ذهب ضحيته قتيلان وعشرات الجرحى. كل ذلك كان جزءاً صغيراً من العمليات الإرهابية التي حصلت خلال تلك المدة. فالعمليات الإرهابية التي عزتها الإحصاءات إلى متطرفين يمينيين أو يساريين خلّفت حوالي 480 قتيلاً وتلك التي قام بها أشخاص لأسباب إجرامية (كالدخول إلى مطاعم أو مدارس والقيام بقتل عشوائي) فكانت حصيلتها حوالي 570 قتيلاً.
في سنة 2001، حصل الهجوم الكبير الذي ذهب ضحيته بحسب آخر الإحصاءات 2993 قتيلاً و8900 جريح. لم تكن هذه الأعداد هائلة بحد ذاتها فحسب، بل جاءت فيما كان الأميركيون مرتاحين لحالهم غير خائفين من الخارج كما في الماضي، فالشيوعية اندحرت أمام رأسماليتهم الليبرالية، بعدما حل الاتحاد السوفياتي نفسه سنة 1991 وأصبحت أميركا القوة العظمى الوحيدة في العالم ونظامها يشكل «نهاية التاريخ» كما أقنعهم فرانسيس فوكوياما في كتابه الذي صدر السنة التالية. اقتنع الأميركيون بذلك وبأن الشعوب في العالم تحبهم وتحب نظامهم ومن لا يحبهم يهابهم، ولذا فهم بأمان وهذا ما زاد من هول الفاجعة. ومن منّا لا يتذكر تلك المرأة الهاربة من جحيم نيويورك عند سقوط أعلى برج فيها، وقابلتها كاميرا التلفزيون، فنظرت إليها وقالت متعجبة: «لماذا يكرهوننا؟».
ماذا حصل بعد ذلك من إرهاب إسلامي في الولايات المتحدة مقارنة بالإرهاب من مصادر أخرى؟ تشير الإحصاءات عينها الى أنه في المدة الواقعة بين سنتي 2002 وتموز 2015 حصل 14 هجوماً من قبل متطرفين إسلاميين راح ضحيتها 33 قتيلاً بينما حصلت هناك هجومات إرهابية أخرى من قبل متطرفين آخرين ذهب ضحيتها ما بين 200 و300 قتيل. أي ان الحالة عادت بعد 2001 إلى طبيعتها من حيث حصة المتطرفين الإسلاميين من مجموع الهجمات الإرهابية.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن حصيلة القتلى نتيجة العمليات الإرهابية في أميركا لا يتماشى أيضاً مع نسبة الوفيات نتيجة العنف أو حوادث السير أو غيرها من الأسباب. يقول أحد المحللين في «نيويورك تايمز» في هذا الصدد إن احتمال الموت في حادث سير هو أكثر بـ312 مرة احتمال الموت نتيجة لعمل إرهابي. ويقول أحد أساتذة علم الاجتماع في جامعة كارولينا الشمالية إنه منذ 11 أيلول سنة 2011 توفي 33 أميركياً نتيجة الأعمال الإرهابية لمتطرفين إسلاميين بينما توفي في الوقت ذاته 180.000 أميركي قتلاً نتيجة أعمال عنف. ويضيف انه خلال سنة 2012 قتل 66 أميركياً في حوادث إطلاق نار عشوائي من قبل غير إسلاميين، ما يعادل ضعف الذين قتلوا من قبل متطرفين إسلاميين منذ هجوم 11 أيلول 2001 أي خلال 14 سنة. في وجه ذلك، يستغرب محلل آخر في «نيويورك تايمز» (2015) الأموال الطائلة التي تصرفها الإدارة الأميركية على الأمن الداخلي والتي يعزوها إلى سيطرة «المجمّع الرهابي العسكري» (Fear-industrial complex) الذي، بحسب قوله، «يطغى على الأولويات القومية». ويذكر الكاتب في هذا الصدد أن الحكومة الأميركية تنفق 500 مليون دولار على كل ضحية لعمل إرهابي بينما لا تنفق سوى 10000 دولار لكل مريض يموت بالسرطان. ويضيف ساخراً: «كل سنة، واحد من كل ستة أميركيين يمرض، و3000 يموتون من أمراض تتعلق بالطعام. إن قطعة الهامبرغر هي أخطر عليك من التطرف الإسلامي».
تزداد هذه التنبيهات في الأدبيات السياسية الأميركية وغيرها وحتى في أوروبا، حيث تنبّه الدراسات من أن ما بين 1 و2 في المئة فقط من الهجمات المصنفة إرهابية في منطقة الاتحاد الأوروبي سببها ديني، قسم منها يعود للتطرف الإسلامي. ولكن التغطية الإعلامية الأميركية والغربية التي كثيراً ما تركز على إرهاب التطرف الإسلامي خلقت جواً معادياً للإسلام من الصعب اختراقه. وغالباً ما يترجم هذا الجو بأعمال عنف ضد المسلمين. ففي أميركا، بحسب «واشنطن بوست» (2015)، كانت الاعتداءات العنفية على المسلمين الأميركيين من قبل مواطنين آخرين لا تتجاوز الـ20 أو الـ30 حالة سنويا قبل حادثة 11 أيلول 2011، ولكنها ارتفعت منذ ذلك الحين إلى حوالي 500 حالة. لا شك بأن هناك خطراً من ازدياد إرهاب التطرف الإسلامي في أميركا وأوروبا، ناهيك عن البلدان العربية. فتأخر المجتمع الدولي، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية، في حل الأزمة السورية مثلاً أدخل إليها منظمات إسلامية تريد إيذاء أميركا والغرب كقسم أساسي في سياساتها الخارجية المعلنة. نبّه مستشارو الرئيس أوباما ــ وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ورئيس «سي آي آي» ووزير الدفاع ليون بانيتا ووزير الدفاع قبله روبرت غايتس ـ إلى ذلك في حينه، كما كتبوا جميعهم في مذكراتهم، ولكنه ظل مقتنعاً بأن خطر هذه التنظيمات لا يصل إلى حدود أميركا حتى تم ذبح الصحافي الأميركي جايمس فولي ووصل الفيديو إلى وسائل الإعلام. أصبح اليوم معروفاً أن آلاف الأميركيين والأوروبيين انضموا وينضمون بأعداد كبيرة إلى صفوف «النصرة» و «داعش» وأن عودتهم إلى بلادهم قد تشكل ارتفاعاً كبيراً، لربما كارثياً، في الهجمات الإرهابية في تلك البلدان. البداية بدأت تظهر في ازدياد الحوادث الإرهابية العائدة إلى التطرف الإسلامي في تلك البلدان. صحيح أن عدد الوفيات نتيجة إرهاب الإسلام المتطرف في أميركا لم يتجاوز 33 شخصاً بعد حادثة 11 أيلول 2001، غير أن أكثر من 90 في المئة من هذه الوفيات حصلت في السنوات السبع الأخيرة وأقل من 10 في المئة في السنوات السبع الأولى. والشيء نفسه يحدث اليوم في دول الاتحاد الأوروبي.
ما العمل؟
في الأمد القصير، على المجتمع الدولي أن يعلم أن العالم لم يعد واسعاً كما كان في الماضي وأن التطرف في مكان سيجلب الإرهاب، ليس فقط إلى ذلك المكان، بل إلى أماكن أخرى حول العالم وبخاصة الدول الديموقراطية المنفتحة، وسيقوّض بالتالي الأسس الديموقراطية فيها كما يفعل اليوم في أميركا وبعض الدول الأوروبية. الانعزالية التي اشتهرت بها أميركا في حقبات من تاريخها، بخاصة بعد الحروب الطويلة المنهكة، لم تعد خياراً متاحاً كما في الماضي. والتخاصم بين الدول الفاعلة في المجتمع الدولي، لأسباب المصلحة الآنية الضيقة، تشلّ قدرات هذا المجتمع على حل المشاكل، مباشرة أو من خلال الأمم المتحدة، قبل أن تتفاقم وتهدد الاستقرار في تلك الدول كما حصل في تعامل المجتمع الدولي مع الأزمة السورية. ولكن على هذا المجتمع أن يعي، في الوقت نفسه، أن التعامل مع أعراض الإرهاب، ولو خفف من حدته في مكان وزمان محددين، ليس حلا طويل الأمد، لأن حلا كهذا يقتضي التعامل مع أسباب الألم لا أعراضه. الحرب على الإرهاب التي أعلنها بوش الابن وتبناها أوباما هي حرب بلا نهاية، ترافقت بتوسع الإرهاب لا انحساره. فالإرهاب الذي تنقّل من بيئة إلى أخرى في العقود الماضية ـ من ميليشيات الوسط الأميركي، إلى أبو سياف في الفيليبين، إلى عصابة «بادر ماينهوف» الألمانية، إلى «الجيش الأحمر الياباني»، إلى «الألوية الحمراء» الإيطالية، إلى «الدرب الساطع» في البيرو، إلى «الجيش الجمهوري الإيرلندي» إلى «القاعدة» و «داعش» وأخواتهما، ناهيك عن الإرهاب الرسمي أي إرهاب الدول، وغير ذلك الكثير في القرن العشرين فقط ــ ما زال يتوسع ويصبح أكثر دموية مع تقدم التكنولوجيا. وإذا لم يحزم المجتمع الدولي أمره ويبدأ بمعالجة أسباب الإرهاب، فأقل ما يقال هو أن الآتي أعظم.
عن "السفير" اللبنانية