2024-11-24 09:53 م

محنة فلسطينيي الداخل تحت الاحتلال ومحن إخوانهم العرب في ظل حروبهم الأهلية!

2015-08-17
بقلم: طلال سلمان
لن يكون الطفل الرضيع علي سعد الدوابشة الذي قضى اختناقاً في منزله الفقير في قرية دوما بقضاء نابلس آخر الأطفال الشهداء، فالاحتلال قام على القتل، جماعياً وفردياً، وعلى هدم القرى وبعض المدن وتشريد أهلها لبناء مستوطنات جديدة لسفاحين مستقدَمين من أربع رياح الأرض ليكونوا مواطني دولة يهود العالم: إسرائيل.
وليس "خبراً" بالنسبة للسفاحين الإسرائيليين الذين أقدموا على إحراق بيوت القرية تاركين لأهلها الذين كانوا على امتداد التاريخ أهلها أن يطلبوا النجاة بأرواحهم، لاجئين مجدداً إلى أية قرية أو مدينة أخرى ليعيشوا فيها مؤقتاً في قلب اللجوء الثاني أو الثالث أو العاشر، لا تهمّ الأعداد. كذلك ليس خبراً بالنسبة لهؤلاء السفاحين أن يقضي سعد الدوابشة والد الطفل علي الدوابشة نحبه قهراً بعد أيام على استشهاد ابنه الرضيع. فالمذبحة الإسرائيلية ستظلّ مفتوحة تلتهم الرجال والنساء والأطفال في القرى والمدن الفلسطينية التي لمّا تزل فلسطينية،
بل إن هذه المذبحة تطاول البيوت وتزيل قرى بكاملها بالجرافات، كما أنها تجتاح مناطق في القدس الشريف، طاردة أهلها، ممهدة للاستيلاء على كامل المدينة المقدسة، مع تركيز مكشوف على المواطنين المسيحيين لدفعهم إلى مغادرة الأرض التي كانت أرضهم وأهلها الذين ظلوا أهلها بامتداد التاريخ.
لم يتوقف جهد العدو الإسرائيلي يوماً في الضغط على الفلسطينيين لمغادرة بلادهم إلى دولة تقبلهم فتمنحهم جنسيتها، ويصبحون رعايا دول أخرى في معادلة مهينة: يخسرون هويتهم ليمكنهم أن يعيشوا وأن يوفروا الأمن لأبنائهم الذين سوف يأتون إلى عالم جديد، خارج فلسطين إلا كذكرى وحكاية يرويها الآباء وهم يغالبون دموعهم بينما الأمهات يعجزن عن ضبط عواطفهن فيشهقن باكيات وطناً قد لا يستطيع أي فرد من العائلة أن يزوره إلا كأجنبي، مخفياً هويته في طيات الادعاء أنه مجرد سائح جاء للصلاة في الأرض المقدسة.
يترافق ذلك كله مع تفاقم عجز "السلطة" التي تفقد يوماً بعد يوم مبررات وجودها، إذ يتحول هذا الوجود من حالة اضطرارية مؤقتة إلى وضع دائم تتآكل قدراته ويفقد رمزيته النضالية على إكمال المسيرة نحو التحرير، خصوصاً مع تفاقم الضعف والاهتراء وتزايد الإحساس بالخطر على سقوطه دون أهدافه، وفي غياب القدرة عن استيلاد البديل بالثورة التي تبدو مستحيلة، أقله حتى إشعار آخر.
إن فضائح بعض أركان السلطة تزكم الأنوف، خصوصاً وأن بعضها مالي والبعض الآخر "أخلاقي"، وهي بمجملها سياسية تأكل من رصيد القضية المقدسة.
وأخطر ما تعيشه القضية أن يجري تقزيمها وتفريغها من دلالاتها ليصير عنوانها هذه "السلطة" التي يتفاقم عجزها واهتراؤها بقدر ما تتزايد صور أركانها في مناسبات وفي زيارات رسمية توفر لها الشكل الفخم بالألقاب ذات الرنين والكرسي في الصف الأول إلى جانب الملوك والرؤساء وأمراء النفط وكأن رئيسها رئيس دولة حقاً، له الامتيازات جميعاً من اللقب المبجَّل إلى الموقع المميز بين أقرانه الملوك والرؤساء... وهو الذي لا يستطيع الخروج من حدود سلطته المقامة بالقرار الدولي على بعض بعض الأرض من وطنه إلا بتأشيرة من عدوّه تجيز له المغادرة والعودة في كل مرة تضطره المناسبات إلى الخروج لكي يثبت "شرعية" تسنّمه موقع "السيد الرئيس".
يفاقم من خطورة هذا الوضع أن الدول العربية ذات القدرة والتأثير مشغولة بمشكلاتها الداخلية التي تكاد أن تكون حروباً أهلية بما ينسيها "القضية المقدسة". فالحرب في سوريا وعليها قد أضافت أعداداً جديدة وبعشرات الآلاف للاجئين للمرة الثالثة من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون فيها وقد توفرت لهم ظروف حياة مقبولة، نسبياً... وهم الآن ينزلون "ضيوفاً" على إخوانهم اللاجئين في لبنان أساساً، وبالذات أولئك الذين شردتهم نيران الحرب من مخيم اليرموك في ضواحي دمشق. كما أن أعداداً من فلسطينيي المخيمات الأخرى في سوريا تمكّنوا من العبور في قلب الصعوبة إلى الأردن، ولعل أعداداً أخرى قد ركبت البحر إلى بعض دول أوروبا طالبة اللجوء إلى دول توازن بين المشاعر الإنسانية وبين العنصرية ودائماً بين احتياج هؤلاء القادمين إليها هرباً من النار التي تلتهم البلاد التي كانوا يعيشون فيها آمنين وبين أكلاف "استضافتهم" في أراضيها، وتحمل مسؤولية إعالتهم... هذا إذا ما أسقطنا من الحساب احتمال استقبالهم بشيء من العنصرية، والتخوف من مخاطر تحولهم إلى "إرهابيين"، في زمن يكاد كل عربي يبدو مؤهلاً لتهمة التطرف وبالتالي ممارسة الإرهاب.
إن النكبة ولّادة نكبات إضافية..
وبين الوقائع الخطيرة التي لا بد من التوقف أمامها انكشاف عجز السلطة عن مواجهة موجة الهجرة إلى اية دولة يمكن أن تقبل الفلسطيني لاجئاً إليها... يتصل بذلك أن الشباب الجديد، عدّة المستقبل، بات مدفوعاً بيأسه إلى طلب جنسية الدولة التي تقبله طالباً، وهكذا تخسر فلسطين بعض النخبة من أجيالها الجديدة التي كانت ـ بالافتراض ـ مصدراً للأمل بجيل فلسطيني مؤهل للمساهمة في تحرير "بعض" وطنه، وفي إعادة بنائه إذا ما توفرت الفرصة ذات يوم لتحقق حلم التحرير.
الآن وبعد "الهجرات" الجديدة لألوف الفلسطينيين من سوريا إلى أي مكان يقبلهم، فضلاً عن هجرة كل من أمكنه الحصول على تأشيرة مذهّبة من شباب الفلسطينيين في لبنان (وقبلهم في العراق) يمكن القول إن نسبة مؤثرة من نخبة الجيل الفلسطيني الجديد قد استقرت في بلاد الغرب البعيدة (كندا وأميركا فضلاً عن دول أوروبية محددة بينها ألمانيا وبعض المعسكر الاشتراكي السابق)، وليس مؤكداً أن هؤلاء سيعودون إلى حيث نشأوا في ظروف تعيسة.. فضلاً عن أنه من الصعب أن يتمكن هؤلاء من الدخول إلى الجنة المفقودة: فلسطين.
هل يمكن القفز من فوق حقائق مؤلمة تعيشها بلاد عربية كثيرة، تكاد تدفع بها إلى حروب أهلية مفتوحة بما يشغلها لدهر عن فلسطين والفلسطينيين وشعبها مهدد بمصير مشابه لمصير الفلسطينيين. فأعداد السوريين المهجرين من وطنهم قسراً إلى الخارج يزيد عن الثلاثة ملايين، بينما المهجرون داخل سوريا يصلون حسب بعض الإحصاءات إلى ستة ملايين على الأقل. كذلك فإن المهجرين العراقيين إلى خارج بلادهم يقاربون المليون، بينما المهجرون داخل العراق باتوا يزيدون عن ثلاثة ملايين.
إن بضعة عشر مليون لاجئ عربي يعيشون على هبات المنظمات الدولية، أو يتجرعون غصة ركوب البحر مع خطر الغرق في هجرة غير شرعية بمراكب غرق العديدُ منها بركابها من الرجال والنساء والأطفال في البحر، أو استقبلوا اضطراراً ويعيشون حياة مهينة في بعض دول اللجوء الأوروبية، لا سيما إيطاليا واليونان.
لم يعد اللجوء إلى بلد آخر، عربياً كان أو أجنبياً، "امتيازاً" للفلسطيني، بل صار إضافة مهينة إلى العديد من هويات الرعايا في دول عربية كثيرة.
لقد تضاعفت أعداد الهاربين من نيران الحروب الأهلية أو الصدامات الدموية التي تخوضها جيوش بعض الدول العربية مع المنظمات الإرهابية التي تعددت فصائلها بتعدد مموّليها ومسلحيها وإن ظل أشهرها إجراماً وأعظمها فتكاً بالرجال والنساء والأطفال تنظيم دولة الخلافة الإسلامية المشهور بمختصر اسمه ـ للدلع ـ "داعش".
تزايدت أعداد "الفلسطينات" في الوطن العربي بمشرقه ومغربه... وإضافة إلى سوريا والعراق لا بد الآن من إضافة ليبيا واليمن، وباب الاحتمالات ما زال مفتوحاً.
إن نصف العرب، تقريباً، يعيشون حالة لجوء داخل أوطانهم أو في مخيمات خارجها، يقاومون البؤس والجوع والحرمان من "دولتهم" التي كانوا "مواطنين" فيها.
أي أن نصف العرب، تقريباً، يعيشون "حالة فلسطينية"، على حافة اليأس من دولهم التي كانت، وربما من أوطانهم التي وفرت لهم حتى الأمس القريب الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، كمواطنين، ولو في أنظمة دكتاتورية عاتية.
أي خيار بائس ه
ذا الذي فرض على اليائس القبول بوطن يحكمه دكتاتور بالعسف والمعتقلات والمحاكم العسكرية أو في غياهب حرب أهلية طاحنة تدمر الوطن وأهله والدولة التي كانت فيه والتي صادرها الطغاة وحوّلوها إلى معتقل كبير لأهلها وبين الهجرة إلى حيث يقبل كلاجئ يعيش على فتات الحسنات أو الصدقات الدولية؟!
من سخرية الأقدار أن يقارن الفلسطينيون بين عدوهم، عدو أمتهم بتاريخها وأمجادها الغابرة، وبين بعض الأنظمة العربية فيترددون في الحكم أيهما الأظلم والأكثر عتواً وعداء لأهداف نضالهم، وأن يتهربوا من القرار حتى لا يهينوا أنفسهم في كرامة انتمائهم القومي.
وما يزيد في بؤس المقارنة أن تلك الأنظمة المعنية قد قفز أبطالها إلى السلطة تجللهم شعارات الزحف إلى فلسطين لتحريرها، وأن بعض شعبها قد عاش الكذبة قبل أن يستفيق إلى واقعه فيهرب من هويته نتيجة عجزه عن تغيير نظامه أو رفضه العيش في ظلاله الوارفة.
ولكن... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل،
وبالتأكيد فإن الأمة ولّادة، وهذه شهادات الألوف المؤلفة من شهدائها تؤكد بأنها أقوى من اليأس، وأنها قادرة ـ وبرغم كل الأهوال والمؤامرات وتواطؤ بعض حكامها على شعوبها، وعلى قضاياها المقدسة - على شق طريقها في قلب الصعب إلى غد خارج الحروب الأهلية وخارج الهيمنة الأجنبية بعنوان إسرائيل التي تستمد بعض أسطورة قوتها التي لا تُقهر من أنظمة العجز العربي القوية على شعوبها والهاربة من ميدان مواجهة عدوها القومي.
عن صحيفة "السفير" اللبنانية