2024-11-25 03:29 م

معاهدة “سيفر” تفسر الشرق الأوسط أكثر من اتفاقية “سايكس بيكو”

2015-08-14
فورين بوليسي – التقرير

منذ خمسة وتسعين عامًا، اجتمع دبلوماسيون أوروبيون في مصنع للخزف في ضاحية سيفر بباريس، ووقّعوا على معاهدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من رماد الإمبراطورية العثمانية. سرعان ما انهارت تلك الخطة ولم نعد نتذكرها من ذلك الحين، ولكنّ معاهدة سيفر قصيرة الأجل، التي لا تقل أهمية عن اتفاقية سايكس بيكو التي لا ينتهي الحديث عنها، كانت لها عواقب التي مازلنا نراها حتى اليوم. ربما يجدر بنا النظر في عدد قليل منها في ذكرى هذه المعاهدة.

في عام 1915، وفي ظل استعداد القوات البريطانية الزحف إلى إسطنبول عن طريق شبه جزيرة غاليبولي، طبعت الحكومة في لندن مناديل حريرية لتبشر بنهاية الإمبراطورية العثمانية. كان هذا سابقًا لأوانه بعض الشيء (تحولت معركة غاليبولي لتكون واحدة من الانتصارات العثمانية القليلة في الحرب العالمية الأولى)، ولكن بحلول عام 1920 بدت ثقة بريطانيا مبررة؛ حيث احتلت قوات التحالف للعاصمة العثمانية، ووقّع ممثلو القوى المنتصرة في الحرب معاهدة مع الحكومة العثمانية المهزومة التي قسّمت أراضي الإمبراطورية إلى مناطق نفوذ الأوروبية. أدت معاهدة سيفر إلى تدويل إسطنبول ومضيق البوسفور، في حين أعطت قطعة من أراضي الأناضول إلى اليونانيين والأكراد والأرمن والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين. من خلال رؤية كيف ولماذا فشلت الخطة الأوروبية الأولى لتقسيم الشرق الأوسط، يمكننا أن نفهم على نحو أفضل الحدود الموجودة في المنطقة في الوقت الحاضر، فضلًا عن التناقضات القومية الكردية المعاصرة والتحديات السياسية التي تواجه تركيا الحديثة.

في غضون سنة من التوقيع على معاهدة سيفر، بدأت القوى الأوروبية تشكّ في أنها حمّلت نفسها فوق طاقتها. وفي الوقت نفسه، أصرّ الضباط العثمانيون، مثل مصطفى كمال أتاتورك، على مقاومة الاحتلال الأجنبي، ومن ثم أعادوا تنظيم ما تبقى من الجيش العثماني، وبعد عدة سنوات من القتال المستميت، أخرجوا الجيوش الأجنبية التي تسعى لفرض شروط المعاهدة. وكانت النتيجة ظهور تركيا كما نعرفها اليوم، والتي نشأت حدودها الجديدة رسميًا في معاهدة لوزان عام 1923.

نسى الغرب معاهدة سيفر إلى حد كبير، لكنه يملك إرثًا قويًا في تركيا حيث ساعد على إثارة شكل من أشكال جنون العظمة القومية وصفه بعض الباحثين بـ “متلازمة سيفر.” بالتأكيد، تلعب معاهدة سيفر دورًا هامًا في حساسية تركيا بشأن الحركة الانفصالية الكردية، فضلًا عن الاعتقاد بأنّ الإبادة الجماعية الأرمنية -التي استُخدمت على نطاق واسع من قِبل الدبلوماسيين الأوروبيين لتبرير خططهم بشأن الأناضول في عام 1920- كانت مؤامرة معادية لتركيا بدلًا من كونها قضية تاريخية حقيقية. وعلاوة على ذلك، ترك نضال تركيا التأسيسي ضد الاحتلال الاستعماري بصماته في شكل مستمر من القومية المناهضة للإمبريالية، التي وُجِّهت في البداية ضد بريطانيا، خلال الحرب الباردة ضد روسيا، والآن، في كثير من الأحيان ضد الولايات المتحدة.

ولكن إرث معاهدة سيفر يمتد إلى ما وراء تركيا، وهذا هو بالضبط السبب في أننا يجب أن ندمج هذه المعاهدة مع اتفاقية سايكس بيكو في تاريخنا عن منطقة الشرق الأوسط. وهذا سوف يساعدنا في تحدي الفكرة الشائعة بأنّ مشاكل المنطقة بدأت مع رسم الأوروبيين للحدود على خريطة فارغة.

ليس هناك شك في أنّ الأوروبيين كانوا سعداء لرسم الحدود التي تتفق مع مصالحهم كلما أمكنهم فعل ذلك. ولكنّ فشل معاهدة سيفر أثبت أنّه في بعض الأحيان لا يمكنهم القيام بذلك. عندما حاولت الدولة الأوروبية إعادة رسم خريطة الأناضول، باءت جهودهم بالفشل. وفي الشرق الأوسط، على النقيض من ذلك، نجح الأوروبيون في فرض الحدود؛ لأنّه كانت لديهم القوة العسكرية للانتصار على الشعوب التي تقاومهم. لو استطاع المناضل الوطني السوري يوسف العظمة، ضابط كبير في الجيش العثماني، تكرار النجاح العسكري الذي حققه أتاتورك وهزم الفرنسيين في معركة ميسلون، لفشل المشروع الأوروبي لبلاد الشام مثلما فشلت معاهدة سيفر.

هل كان من الممكن أن تجعل الحدود المختلفة الشرق الأوسط أكثر استقرارًا، أو ربما أقل عُرضة للعنف الطائفي؟ ليس بالضرورة. ولكنّ النظر إلى التاريخ من خلال عدسة معاهدة سيفر يشير إلى وجود نقطة أعمق حول العلاقة بين السبب والنتيجة بين الحدود الأوروبية المرسومة وبين عدم الاستقرار في الشرق الأوسط؛ فالمناطق التي انتهت بحدود فرضتها أوروبا مالت إلى أن تكون مناطق ضعيفة للغاية وغير منظمة لمقاومة الاحتلال الاستعماري بنجاح. ولم تصبح تركيا أكثر ثراءً وأكثر ديمقراطية من سوريا أو العراق؛ لأنه حالفها الحظ وحصلت على حدود صحيحة. وبدلًا من ذلك، كانت العوامل التي مكّنت تركيا من تحدي الخطط الأوروبية ورسم حدودها -بما في ذلك الجيش والبنية التحتية الاقتصادية الموروثة من الإمبراطورية العثمانية- بعضًا من العوامل ذاتها التي مكّنت تركيا من بناء دولة مركزية قوية على النمط الأوروبي.

بطبيعة الحال، الكثير من القوميين الأكراد قد يدّعون أنّ حدود تركيا هي حدود غير صحيحة. في الواقع، يستشهد البعض بأنّ انعدام جنسية الأكراد هو خطأ فادح في حدود المنطقة في مرحلة ما بعد الإمبراطورية العثمانية. ولكن عندما حاولت الإمبريالية الأوروبية إنشاء دولة كردية في معاهدة سيفر، قاتل العديد من الأكراد إلى جانب أتاتورك من أجل الانقلاب على تلك المعاهدة. إنّه تذكير بأنّ الولاءات السياسية يمكن أن تتجاوز الهويات الوطنية بطرق من الأفضل أن ندركها اليوم.

كان من المخطط أن تقع الدولة الكردية المتصورة في معاهدة سيفر تحت السيطرة البريطانية. وفي حين أن هذا يروق لبعض القوميين الأكراد، لكنّ آخرين وجدوا أنّ هذا النموذج من “الاستقلال” الذي تسيطر عليه بريطانيا هو استقلال إشكالي؛ لذلك انضموا للقتال مع الحركة الوطنية التركية. وفيما بين الأكراد المتدينين، بدا استمرار الحكم التركي أو العثماني أفضل من الاستعمار المسيحي. لكنّ الأكراد الآخرين، لأسباب عملية، شعروا بالقلق من أنّه بمجرد استيلاء بريطانيا على السُلطة ستدعم حتمًا المحرومين الأرمن الذين يسعون إلى العودة إلى المنطقة. وفي وقت لاحق، ندم بعض الأكراد على قرارهم عندما بات واضحًا أنّ الدولة التي حاربوا من أجل إقامتها ستكون دولة تركية خالصة -وأقل تدينًا- مما كان متوقعًا. ولكنّ آخرين، بدرجات متفاوتة من الإكراه، اختاروا بدلًا من ذلك قبول هوية الدولة الجديدة التي عُرضت عليهم.

لا يزال الكثير من القوميين الأتراك خائفين من الطريقة التي دُمّرت بها دولتهم بسبب معاهدة سيفر، في حين أنّ العديد من القوميين الأكراد ما زالوا يتخيلون الدولة التي كان من الممكن إقامتها. وفي الوقت نفسه، تمجد الحكومة التركية اليوم فضائل التسامح والتعددية الثقافية العثمانية، في حين يجادل الزعيم الانفصالي الكردي عبد الله أوجلان، الذي يبدو أنه قرأ كتب عالم الاجتماع بنديكت أندرسون في السجن، أنّه اكتشف أنّ جميع الدول ليست سوى بنى اجتماعية. أمضى حزب العدالة والتنمية، الحزب الحاكم في تركيا، وحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد، الكثير من العقد الماضي في صراع دائم لإقناع الناخبين الأكراد بأنّ التصويت لصالح حزبهم هو تصويت من أجل السلام – والتنافس على تحديد أي حزب قادر على حل الصراع التركي المتأجج منذ فترة طويلة من خلال خلق دولة أكثر استقرارًا وشمولية. باختصار، في الوقت الذي مازال يتناقش فيه الكثير من الأمريكان عن الطبيعة “المصطنعة” للدول أوروبية الصنع في منطقة الشرق الأوسط، فإنّ تركيا تتجاوز بشكل متقطع هاجسًا استمر لمدة قرن مع إثبات مدى “واقعيته”.

وغني عن القول أنّ تجدد أعمال العنف التي شهدتها تركيا في الأسابيع القليلة الماضية يهدد هذه العناصر الهشة من الإجماع ما بعد الوطني. ومع دعوة حزب العدالة والتنمية لاعتقال الزعماء السياسيين الأكراد، ومع إطلاق المقاتلين الأكراد النار على ضباط الشرطة، فإنّ القوميين من كلا الطرفين يعودون إلى مواقفهم المألوفة التي لا يمكن التوفيق بينها. منذ 95 عامًا، حصدت تركيا المزايا السياسية والاقتصادية لانتصارها في معاهدة سيفر. ولكن الاعتماد على هذا النجاح يتطلب الآن تشكيل نموذج سياسي أكثر مرونة؛ نموذج يساعد على جعل المعارك على الحدود والهوية الوطنية ليست منطقية.