نبيه البرجي
هنري كيسنجر يقول ان ايران هي من دفعت بكرة النار الى «وسط القاعة»، وبتأثير من تلك « الايديولوجيا الكئيبة والتي تقوم على تسويق الدموع، وايضا بتأثير من تلك الجيوبوليتيكا التي لا تزال تلعب هيستيرياً في اللاوعي».
كيسنجر يرى ان الكآبة جزء من البنية الفلسفية والبيولوجية للمنطقة» لان المجتمعات هناك تراهن على ما وراء الموت. الاحرى على ما وراء الحياة»، ليضيف ساخراً» وماذا اذا اكتشفت هذه المجتمعات التي يلاحقها الغيب في كل التفاصيل اليومية ان باب العالم الآخر مقفل منذ الازل؟».
دائما يحاول وزير الخارجية الاميركية الاسبق والذي لا يزال ينظّر حول الشرق الاوسط ان يضفي بعداً لاهوتيا على ايقاع الازمنة في المنطقة.
قال ذات يوم ان الصراع فيها هو بين نصف الله و النصف الآخر، وحين تدخّل في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد من اجل صياغة التسوية الكبرى، كان يوحي بأنه» مبعوث من الله» وليس مبعوثا من البيت الابيض، بحسب ما قال الديبلوماسي المستعرب جورج بول، وقد لاحظ ان هنري كيسنجر يقدر ما كان يهوديا «هائلاً» كان اميركياً «هائلا» بحيث مازح احد الحاخامات سائلا ما اذا كان الله قد انتقل بعد هيروشيما الى البيت الابيض...
على الضفة الاخرى، ثمة منظّر آخر هو زبغنيو بريجنسكي الذي اذ يعتبر ان الحروب التي تنشب في الشرق الاوسط هي « لمصلحتنا» لانها تنهك كل الاطراف المتورطة فيها، يرى ان الازمة الاقتصادية في عام 2008 جعلت الامبراطورية تبدو وكأنها تتجه الى «مبدأ مونرو» (1823)، وحيث «العودة الى المنزل الاميركي» لان العالم مرهق وعاق...
لن يتكرر نموذج فيتنام، ولا نموذج كوريا، ولا نموذج افغانستان، ولا نموذج العراق. بريجنسكي يقول ان التكنولوجيا العسكرية في الولايات المتحدة تتطور على نحو اسطوري. المشكلة هنا ان خارطة العالم، وهي خارطة الاسواق الآن مثلما هي خارطة الثروات، باتت اكثر تعقيدا بكثير.
يرى ان ما يشغل العقل الاميركي الصين. انه التنين الذي انتقل او ينتقل من الميتولوجيا الى الواقع. في هذه الحال، لا بد من اعادة ترتيب التوازنات والمعادلات، من اجل ذلك امضى جون كيري كل تلك الايام الديبلوماسية الطويلة، والشاقة، مع محمد جواد ظريف، من اجل عقد الاتفاق الذي كان اكثر من ضروري للاحتياجات المستقبلية الاميركية.
بريجنسكي الذي قلما يضحك، قال انه ضحك طويلا عندما رأى كيري يدخل الى ردهة المفاوضات على العكاز. كما لو انه كان يختزل اميركا في تلك اللحظة. اميركا التي تلاحقها المشكلات من كل حدب وصوب. وقال « حسنا ان القدر جعل رجله هي التي تتحطم وليست يده. كيف كان يمكن ان يوقّع في هذه الحال؟..»
في نظر بريجنسكي الا تسويات و لا حلول في الشرق الاوسط قبل منتصف القرن، اي بعدما يتصدر التنين (لا الدب القطبي) المشهد. آنذاك تغدو الطريق مشرعة امام البلقنة. روسيا «دولة اقليمية كبرى». منذ زوال الامبراطورية السوفيانية لم تعد قوة كونية. الصين تزحف الى القمة...
هل تنتظر ازمات المنطقة الى منتصف القرن؟ لعل الموتى في هذه الحال هم من يتبادلون القبلات، وكان توماس فريدمان قد قال ان الشرق الاوسط ضائع بين الازمات المستحيلة والتسويات المستحيلة مادام الرهان على حرب عالمية( كالحرب العالمية الثانية التي وضعت حدا للحرب الاهلية الاسبانية )اكثر من ان يكون عبثيا واكثر من ان يكون خياليا...
زوار محمد حسنين هيكل ينقلون عنه ان هناك انظمة في المنطقة تعتقد ان بقاءها رهن بصناعة الحروب، وسواء كانت حروبا ايديولوجية(بالدرجة الاولى) ام حروبا استراتيجية، ودون ان تدري ان الحروب تهدد بقاءها ايضا...
هيكل يرفض ذلك الطرح الاوروبي الذي يقول « العراق لايران وسوريا لتركيا»، ليس فقط لان السؤال البديهي، في هذه الحال، اين السعودية واين اسرائيل في مثل هذه الصفقة،ولكن لان العراق لم يعد العراق و سوريا لم تعد سوريا...
في نظره الا احد يستطيع ان يرث سوريا سوى السوريين. الآن، العراق ما قبل الدولة وما قبل النظام، وسوريا ما قبل الدولة وما قبل النظام، ودون ان يرى في رجب طيب اردوغان اكثر من ظاهرة بهلوانية، فالايرانيون البعيدون عن سوريا لا يمكن لهم ان يضعوا يدهم عليها. الاتراك يعتقدون ان حلب «ستعود» الى الحظيرة العثمانية. لا عودة عن ذلك..
هيكل،وكما ينقل زواره، يقول ان تجزئة سوريا او بلقنتها تعني، حتما، تجزئة وبلقنة الشرق الاوسط. حتى اشعار اخر، الازمة المستحيلة والتسوية المستحيلة. الغرابة ان الاميركيون يرسمون الخطوط الحمراء امام السلطان العثماني. العرب او بعضهم يفتح الباب امام...الباب العالي. عرب!!
عن صحيفة "الديــار" اللبنانية