وسيم ابراهيم
لا الأرض ستبتلع اليونانيين، ولن تطبق عليهم السماء. صبيحة ظهور نتائج الاستفتاء المرتقب، يوم الاثنين، سيكون الاغريق كما كانوا: «ستشرق الشمس من الشرق، وسيكون هنالك أوكسجين لنتنفس». قالها الزعيم الشاب آليكسيس تسيبراس لشعبه، بعدما قرر الرهان على تاريخهم المقاوم. ذكّرهم بأنهم آباء الديموقراطية، ويمكنهم وحدهم اتخاذ القرار الحاسم: إما «لا» ترفض القبول بتقشف صارم مقابل الانقاذ المالي، أو «نعم» تديم «حلقة مفرغة» من الألم الاقتصادي خصوصا لفقرائهم.
كل هذا لا يعجب كهنة المشروع الأوروبي. لا يعجبهم أصلا وجود حكومة يسار راديكالي، هي الوحيدة من نوعها لديهم تقول: إن التقشف ليس قدرا، وفشله هو باعتراف ألمع الاقتصاديين في العالم. لا يريدون خصوصا إعطاء أي نجاح لحكومة متمردة، خوفاً من انتقال عدوى «نجاح اليسار». ترتجف بروكسل وبرلين لفكرة إمكانية تكرار تجربة نجاح حزب «سيريزا» اليوناني، في إسبانيا حيث يتأهب حزب «بوديموس» اليساري لانتخابات عامة أواخر العام مع نتائج واعدة حتى الآن.
لهذه الأسباب، يعرف تسيبراس ما هو الهدف النهائي لكل حملة التشويه التي تقودها برلين وخلفها معظم العواصم الأوروبية الكبرى. قال إن المطلوب ألمانياً ليس القبول بالشروط، وليس طاولة المفاوضات، بل «إسقاط تسيبراس».
الحملة التي تقودها برلين، بمؤازرة من بروكسل، تبلغ شراسة استثنائية. سؤال «نعم أم لا» عممته المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل وفريقها عبر ترجمة «ترهيب»، كما احتجّ فريق تسيبراس مرارا. تقول برلين الآن إن الاستفتاء هو إما «نعم» للبقاء في اليورو، أو «لا» ستؤدي باليونان إلى خارجه. الكتل البرلمانية في بروكسل، التي تسلك منحى ميركل، تقوم الآن بحملة على وسائل التواصل الاجتماعي عنوانها: «نعم، معا نحن أفضل».
هكذا تسير أيضا جميع أحزاب «المسيحيين الديموقراطيين»، الحاكمة في نصف دول الاتحاد الأوروبي تقريبا. يستثمرون خوف اليونانيين من مجهول الخروج من اليورو. هذا معروف مسبقا في استطلاعات الرأي، فأكثر من ثلثي اليونانيين لا يريدون، بأي شكل، ما يعتبرونها مخاطرة الخروج إلى المجهول.
في وجه عاصفة الغاضبين، تحاول حكومة تسيبراس التشديد على أن الاستفتاء له ترجمة واحدة: الدعوى لتصويت بـ «لا، للحصول على تفويض أقوى، وللضغط على الدائنين كي يتراجعوا عن مطالب التقشف الصارم. فقبل كل شيء وبعده، لا يوجد في المعاهدات الأوروبية أي مادة حول إخراج دولة من اليورو، وإنما هناك فقط إجراءات للخروج من الاتحاد الأوروبي ككل.
لكن بعد الاستفتاء لن يكون كما قبله، حتى للحكومة اليونانية نفسها. إنه تصويت حول الوقوف مع إرادة فريق تسيبراس، بعدما أعلن دعم «لا»، أو ضده. على الأقل، أكد وزير مالية اليونان، الاقتصادي اللامع يانيس فاروفاكيس، إنه سيستقيل إذا فازت الـ «نعم». أعضاء آخرون في الحكومة لم يصادقوا على منطق الاستقالة إن فشلت حملتهم، لكن بعضهم أقرّ بأنه «ستكون هنالك عواقب» بدون ذكرها. استقالة تسيبراس ليست محسومة، حتى لو قال إنه في حال صوت اليونانيون لقبول «الشروط» فلن يكون من يوقع عليها. الاحتمالات مفتوحة تماما، بما في ذلك استقالة جماعية أو تشكيل ائتلاف حكومي جديد.
استطلاعات الرأي تتفاوت بين يوم وآخر. النتائج متقاربة. لهذا تسير حكومة أثينا معولة بقوة على الإرث التاريخي المرتبط بكلمة «oxi» (لا). إنها بالنسبة لليونانيين أشبه بكناية لمقاومة الفاشية الايطالية والنازية الالمانية. يحتفل اليونانيون سنويا في 28 تشرين الثاني بـ «يوم oxi»، حينما قالوا «لا» لموسليني مطلقين مقاومتهم الشهيرة. لم يقصر وزراء تسيبراس في التعويل على ذلك، ومنهم من يردد على شاشات التلفزة كل يوم: «لقد قاومنا الايطاليين والنازيين، وسنستمر في مقاومة من يريد إهانة كرامة اليونان».
الحملة المضادة عاتية، وتكتسب بعداً عالميا. واشنطن تقف في الصف الالماني، وإن ليس علانية. صندوق النقد الدولي، الذي تهيمن عليه، اختار هذا التوقيت الحساس، لينشر تقريرا يقول إن اليونان باتت أسوأ لأن حكومتها لم تنفذ الاصلاحات المطلوبة. اليونان تخلفت قبل أيام عن تسديد 1.6 مليار يورو لحساب الصندوق، وهو قال أمس إن أثينا ستحتاج 50 مليار يورو لتعيش حتى العام 2018، ولا يمكنها على أي حال دفع ديونها، إذا لم يتم شطب بعضها بطريقة ما. الخوصمة أكيدة هنا. فريق تسيبراس، بالمقابل، كرر مرارا مطالبه بإخراج صندوق النقد من قضية الانقاذ كلّها.
كل هذا الضجيج يجعل غبار حملات الصراخ يحجب حقيقة ما حصل. قدمت بروكسل وبرلين تسيبراس كزعيم مهزوز، متفاجئ بعدم تسامحهم، ويركض خلف اتفاق اللحظة الأخيرة بأي ثمن. أعلنوا صدهم محاولته تمديد الانقاذ لأيام، لكي يمرّ الاستفتاء. لكن الجميع رأى قيام المصرف المركزي الأوروبي بمواصلة مدّ مصارف اليونان بالسيولة الطارئة، التي تُجنبها الافلاس، رغم أنه ربط ذلك سابقا باتفاق أثينا مع الدائنين.
رهان تسيبراس وفريقه منذ البداية هو على أن اليورو لا يحتمل زلزال خروج اليونان، وبالتالي لن تتمكن بذلك برلين وبروكسل من حصرهم في الزاوية. رئيس المفوضية، رغم تأييده لبرلين وحديثه عن «خيانة» تسيبراس، قال إن خروج اليونان يرمي اليورو في المجهول.
الأيام القادمة تاريخية بكل معنى الكلمة، كيفما كانت النتيجة. أفضل تعبير عن ذلك العنوان هو الذي خرجت به أمس الطبعة الأحدث من مجلة «إيكونوميست» البريطانية الشهيرة: وضعت على غلافها صورة تمثال رامي القرص الاغريقي الشهير، لكنه يحمل عملة اليورو، وبجواره كتبت «مستقبل أوروبا في أيدي اليونان».