بقلم: السيد شبل
لم يحظ بيان الإخوان الصادر تحت عنوان "نداء الكنانة" بالرد الكافي من جانب العلماء، وهو ما ينذر بخطر كبير، لما يحتويه البيان من دعوات تحريضية تسعى لإذكاء نيران الاحتراب الداخلي. خطورة بيان الإخوان لا تتوقف عند هذا الحد بل أنها تتسوق المبررات الشرعية لمن يقدم على أعمال عنف.
وتأتي بيانات الإخوان في وقت، فقدت فيه مؤسسة الأزهر الشريف، بسبب عوامل داخلية وخارجية، كثير من مكانتها التي تؤهلها للتصدي إلى مثل هذه البيانات، وهو ما جعلنا نيمم وجهنا شطر علماء بعيدين عن الأضواء، يعتمدون في إصلاح المجتمع على إصلاح الفرد، بتزكيته وتطهيره من الأمراض القلبية، إلا أن هذا لم يحل دون مشاركتهم في الشأن العام، خاصة عندما يتعلق الأمر بمصير أمة تجرها الأحداث لتكون على شفا حفرة الحرب الأهلية.
ومن هذا الباب نسعى لإلقاء الضوء على ما نشر عبر موقع الطريقة العمرية الصوفية، بعنوان تعقيب على نداء الكنانة، لشيخ الطريقة ومؤسسها عبدالغني العمري الحسني.
يرد مقال الشيخ المطول على مزاعم جماعة الإخوان، متهمًا إياهم باحتكار الدين، والسعي نحو إذكاء نيران الاحتراب الأهلي، على غير ما يحث الشرع الحنيف، موضحًا أن هذا البيان، لا يُعتبر بيانا صادرا عن علماء الأمة كما زُعم له؛ وإنما هو بيان لجماعة الإخوان المسلمين، وإن كل ما جاء فيه، إنما هو تسعير لنار الفتنة في بلاد مصر، وإعلان للحرب الأهلية فيها، من غير مراعاة لله في ذلك كله.
حيث يقول الشيخ العمري أنه لا بد من ملاحظة أن النداء (نداء الكنانة) تأخر إلى ما بعد الحكم على مرسي والقرضاوي بالقتل (الإعدام). وهذا يدل على أن النداء جاء دفاعا عن أشخاص بعينهم، لا دفاعا عن الشعب المصري أو عن الإسلام، كما يزعم البيان.
ويضيف: "إن علماء المسلمين، الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان إما تنظيميا وإما فكريا، يريدون بهذا البيان، أن يزيدوا من تسعير الفتنة في مصر، وفي البلاد العربية الأخرى من بعدها. وهذا خلاف ما درج عليه الصالحون".
ويشير الشيخ إلى أن ورود البيان باسم علماء الأمة، فيه كثير من التدليس والتهويل؛ لأن الموقعين عليه هم من أتباع جماعة الإخوان، إما تنظيميا وإما أيديولوجيا. وللأمة علماء غيرهم، لا يرون ما ذهبوا إليه. ولكننا قد اعتدنا احتكار الإسلاميين للخطاب الديني، وكأنهم وحدهم المعنيون بالدين.
وينبه إلى أن سياق البيان وتوقيته وديباجته تؤكد أنه صدر بعد حكم الإعدام الغيابي الذي طال يوسف القرضاوي، وهو يريد أن يظهر سلطته العلمية، بتحريك كل أتباعه من جميع الأصقاع. وهذا خلاف الصواب.
ويهاجم الشيخ تكفير الجماعة للنظام المصري ولسائر معارضيهم، فيقول في أكثر من موضع أن تكفير السيسي، الذي سمعنا أحد هؤلاء "العلماء" يفوه به، لا يُمكن أن يُقبل مهما بلغ ظلمه؛ لأن الكفر لا يثبت إلا ببيّنة لا شبهة فيها. وإن من لا يتمكن من إمساك نفسه من تعدي حدود الله، ليس خليقا أن يدل غيره على الحق. ويضيف: كما أن نظام الحكم في مصر اعتدى على جماعة الإخوان المسلمين، لا على المسلمين أجمعين، ولا على الإسلام من حيث هو دين. ذلك لأن حكام مصر الحاليين ليسوا كافرين؛ لا هم ولا من يخالف الجماعة في الرأي من أهل العلم والدين. وهذا الخطاب الراديكالي من أصحاب الأيديولوجيا الإسلاميين، هو من الأسباب الرئيسة للخلاف بينهم وبين باقي الأمة، لو كانوا يعقلون".
وردًا على ماورد في بيان الجماعة بشأن "شرعية" محمد مرسي، يوضح الشيخ المسألة بشقها الشرعي، فيقول:" أن ما وقع من انقلاب على حكم الإخوان كان بإيعاز من عدد كبير من أفراد الشعب في 30 يونيه كما هو معلوم. ولسنا نناقش هنا مدى أحقية ذلك، ولكنّ مرادنا محاكمة أصحاب البيان إلى المبادئ التي يحيل إليها البيان نفسه؛ وليست إلا الديموقراطية. واعتبار مرسي رئيسا شرعيا، بمجرد انتخابه من قِبل شطر من الشعب، يجعل من السيسي رئيسا شرعيا بالمعيار نفسه. (...) ولا يخفى ما في البيان من تدليس، باستعمال كلمة "شرعي"، بغير معناها الذي عند العلماء، على الأقل". ويضيف: " ثم إن الانقلاب لم يكن على إرادة الأمة واختيارها، لأن شعب مصر كله ليس إلا جزءا من الأمة، لا الأمة. والانقلاب كان على شطر من الشعب، من شطر من الشعب. فالأمر لا يعدوا أن يكون مغالبة سياسية داخل قطر مصر وحده. فلمَ يُلبس لبوس ما هو متعلق بالأمة، وكأن مرسي كان خليفة وليس رئيسا".
ويوضح: "مرسي لم يكن يصلح للرئاسة من البداية، لولا حسابات جماعته التي أقحمته في "اللعبة" إقحاما. فما لهؤلاء الناس، لا يعتبرون شيئا من ذلك؟!.. أم إن مصائر الشعوب صار يُتلاعب بها، من أجل أغراض الجماعات والأشخاص؟!.. نحن بعيدون من مصر جغرافيا، ومع ذلك، ما راقنا أسلوب مرسي في الحكم!.. ليس الأمر مزاجا هنا يا قوم؛ وإنما هو سياسة قد يُحسنها بعض الناس، ويُخفق فيها آخرون. ولا علاقة لهذا بكون المحسن لها أقرب إلى الله من الفاشل، أو بالعكس. ولقد خلط الإخوان كثيرا بين المفاهيم الدينية والمفاهيم السياسية، حتى عاد ذلك وبالا عليهم".
ويوضح الشيخ أن البيان أشار إلى ما لاقاه الإخوان من أهوال على يد الحكام الجدد؛ لكن لم يذكر عناد الإخوان وتصلبهم عند فقدهم الحكم. ولم يذكر تغلغل التنظيم في النفوس قبل التغلغل في الأجهزة والإدارات؛ وهذا لا يمكن أن يقبله أي نظام حكم في العالم؛ لأن التنظيم إما أن يحكم هو، ويُخضع غيره، وإما أن يفسد على الحاكمين حكمهم؛ لا يمكن أن يكون غير هذا. والواضح أن الإخوان لم يتركوا مجالا لمخالفيهم، إلا أن يضعوهم في السجون وينكلوا بهم. والمصيبة أنهم يرون حقهم في الحكم حقا إلهيا، وكأنهم مبعوثون إلى الناس من قِبل الله. وهذا نتيجة التربية الأيديولوجية التي انتهجوها، بديلا عن التزكية الشرعية الربانية؛ وإن كانوا هم لا يشعرون بالفرق.
ويستطرد الشيخ موضحًا أن ورود الكلام بصيغة الوجوب الشرعي على الأمة، من أجل التصدي لحكام مصر، فيه مخالفة للشرع نفسه، لخلطه بين حكم الأمة العام في زمن وحدتها، وحكم الوطنية القطرية الذي ما زال ساريا في وقتنا. وإلغاء هذا الأخير، هو من عدم ضبط الأحكام الشرعية الآن. وأما المخالفة الأخرى، فهي جعل بعض الأمة في مواجهة البعض الثاني؛ وكأن الأمر مواجهة بين الحق والباطل. وسواء أكانت المواجهة بين عموم الأمة وحكام مصر، أم كانت بين المصريين وحكامهم، فإن المفاسد التي في هذه المواجهة، لا يُمكن أن تكون مقصودة للشرع الحكيم. وأما إن قيل إن هذا يدخل في مقاتلة الفئة الباغية، فإننا نقول: ما نحن بصدده غير هذا؛ لأن الفئة الباغية تكون في مقابل فئة أهل الحق، كما كان الشأن مع علي عليه السلام في مواجهة مقاتليه. أما اليوم، فنحن في زمن فتنة وشتات، لا يضمن أحد لفئة أن تكون على الحق المبين. ولهذا فإن كل ما يخفف من حدة الصراعات الداخلية والاقتتال، يكون هو مقصود الشرع، لا غيره. وهذه هي المقاصد العليا للإسلام الآن، لا ما جاء في البيان.
وردًا على ما ذُكر في البيان عن ذُكر من موالاة الصهاينة ومعاداة المقاومة الفلسطينية، وكونه خيانة للدين والوطن، يقول: "إن المسألة ليست بالبساطة التي يريدها البيان. ذلك لأن "حماس" تنتمي إلى جماعة الإخوان، وهي تعمل للجماعة بقدر ما تعمل للإسلام، إن لم يكن أكثر. ولقد ضحت بشطر من شعب فلسطين في الحرب الأخيرة، من أجل دعم الجماعة داخل مصر سياسيا. وهذا عمل لا يُقره الشرع أبدا. واستعمال البيان للقضية الفلسطينية مغرض، يراد من ورائه إلصاق التهمة بالمصريين. وهذا من الإرهاب الديني والفكري، الذي لا يكون من صفات أهل الإيمان قط. والآية التي خُتمت بها الفقرة، لا ينبغي أن تُنزل على هذا الوضع الملتبس؛ لأن المؤمنين فيها، هم من يكونون في صف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو في صف أحد الخلفاء الربانيين. أما اليوم فالأمر مختلط؛ قد تجد مؤمنا وسط الكافرين، وتجد الكافر مع المؤمنين؛ بسبب غلبة المعايير الدنيوية (ومنها الديموقراطية) على المعايير الشرعية".
ويستطرد: "أن البيان بهذا الخطاب، يريد أن يعلن بداية الحرب الأهلية في مصر. وهذا لا يمكن أن يكون موافقا للشرع، مهما بلغ ظلم الظالمين الآن".
وينوه الشيخ إلى أن تأكيد "العلماء" على أن مرسي هو الرئيس الشرعي، هو من قلة العلم والفقه؛ لأن العلم يُدخل في اعتباره إرادة الله وقدره، إلى جانب الاعتبارات الأخرى. وهؤلاء المتمسكون بمرسي بعد كل ما جرى، لم يبلغوا حتى فهم الكفار (العقلاء) في النوازل. والبراغماتية التي لهم (للكفار)، من هذا الباب. إن التمسك بخلاف مراد الله، يجعل العبد يصارع القدر، وهو غالِبه. وإن العلماء بفقدهم لهذا العلم، يفقدون أهلية الإفتاء فيما هو من الشأن العام. وعليهم أن يبقوا في حدود ما يُحسنون من الفقه، إن كانوا يريدون السلامة عند الله. وإن إلزام الأمة بعد ذلك بالسعي إلى تحرير مرسي، لهو من الجنوح في القول؛ وكأنه الخليفة الذي لا يُستعاض عنه!.. ما هكذا الأمر!.
ويلفت الشيخ إلى أن من يدعو البيان على إطلاق سراحهم من الذين رفضوا الانقلاب، كان ينبغي أن يُنصحوا من قِبل جماعة الإخوان، بدل أن يُشحنوا ويوهموا أنهم مجاهدون في سبيل الله وإعلاء كلمته؛ بينما هم في الحقيقة يقدّمون قرابين من أجل وصول القيادات إلى الحكم. وليت من وصل إلى الحكم كان سيحكم بما أنزل الله، حتى لا تذهب الجهود سدى!.
ويشير الشيخ إلى أن البيان هو في الحقيقة دعوة إلى استعمال العنف المادي، من طرف الأفراد؛ وهو تعميم للفتنة لا نظن أنه سيُبقي على شيء إن استُمع لما دُعي إليه. ولا يخفى أن التأصيل الشرعي الذي يعتمده البيان، لا يُراد منه الوقوف عند الحدود، بقدر ما يراد إيجاد الأعذار لمن سيتعداها. وهذا تحايل على الشرع، قبل أن يكون إجراما مقنّعا. وإن كان هذا يدل على شيء، فإنما يدل على قلة الورع عند هؤلاء العلماء كما أن مطالبة الملوك والرؤساء والمثقفين بمعاداة حكام مصر، والعمل على إعادة الأمر إلى ما كان عليه قبل سقوط الإخوان، هو توسيع لدائرة الفتنة، حتى لا يسلم منها بلد من البلدان؛ وهذا بعكس ما يأمر به الشرع. ذلك لأن كل بلد فيه من هو موال للإخوان، وفيه من هو معاد لهم. وإن تحرك طرف إلى اتجاه، فلا بد للطرف الآخر أن يتحرك إلى الاتجاه المقابل. والمطلوب الآن، الحد من هذا الاصطفاف الأعمى، الذي لم يعد الناس فيه يحسبون حسابا للآخرة، وإن زعموا أنهم مناصرون للدين.
ومن جهة أخرى يقول الشيخ :"أن الإفتاء بالقتل، والتصديق عليه، ليس أمرا هيّنا. وإن الفتنة التي تعرفها الأمة، لا يُحكم فيها كما في أزمنة الرخاء والاستقرار. اليوم يكاد المرء لا يدري لمَ قتل إن هو قتل. وإنّ تساهل القضاء ودار الإفتاء في القتل، يزيد من الفتنة ولا يُنقصها. وهذا يدخل في الفقه المراعي للسياقات، الذي ندعو إليه دائما"، وكان الشيخ في بداية المقال قد لفت إلى أنه ليس في معرض المنافحة عن حكام مصر، وعن مؤسساتها الرسمية؛ لأنهم المعنيون بذلك والجديرون به. كما أنه قد سبق أن أعلن موقفه من الإفتاء بقتل الإخوان إبان فض الاعتصامين، والآن يعلن مخالفته لأحكام القتل (الإعدام) الصادرة على ذلك العدد الكبير من المسجونين.
وفي ختام المقال يوضح الشيخ العمري إن العمل بما جاء في هذا البيان من توجيه، لهو مما ينبغي أن يُنكر، وأن يُعمل على وأْده وتجاوزه. هذا إن كنا نريد بالإسلام وبالأمة خيرا. أما إن كان اعتبار جماعاتنا يسبق اعتبار الدين والأمة، فلنعلم أننا على الباطل الذي لا مراء فيه. هذا، وإن المسلم لا ينبغي أن يتعلق بحُكم مخصوص، لفرد مخصوص؛ وقد تنازل أئمتنا عن الحكم لمن هو أدنى منهم مكانة؛ فكيف بهؤلاء المتمسَّك بهم وهم مفضولون؛ والله يولي من يشاء ويعزل من يشاء. وعلى المسلم في المقابل، أن يلتزم بأحكام الشرع في نفسه أولا، حتى يستنير قلبه بعمله، فيرى بوضوح حقيقة الصورة الماثلة أمامه. وإن كل كلام غير هذا، مما يعتمده الديماغوجيون، لهو من خطابات الشيطان، التي يريد أن يهلك بها من يتبعه ويُرديَه. فحذار من طاعة المخلوقين في معصية الله!.