2024-11-25 03:36 م

حول الاستراتيجية الامريكية في ضوء القطبية المتعددة

2015-03-26
بقلم: خالد خليل
انتهاء  زمن القطبية الأحادية خاصة في اعقاب أزمة الاقتصاد الامريكي الكبرى عام 2008 لم يؤد الى قطبية ثنائية بل متعددة تعمل معظمها للوصول الى الشراكة في ادارة العالم والاقاليم وفقا لتوازنات القوة بشتى المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية ..الخ.  وليس صدفة ان وزير الدفاع الامريكي السابق "تشاك هاجل" تحدث عن التقدم التكنولوجي السريع في الصين وروسيا، مما يعني حسب تعبيره أن الهيمنة العسكرية في العالم لم تعد أمرا مضمونا وان التحليلات التي أجراها البنتاجون تظهر حقيقتين جديدتين بوضوح الأولى هي تطوير وتوسيع نطاق التكنولوجيا العسكرية المتقدمة في دول أخرى، الأمر الذي يعني أننا ندخل عهداً، لم تعد فيه الهيمنة الأمريكية في البحر والسماء والفضاء أمراً مفروغاً منه.   اذن انتهاء القطبية الاحادية أجبر الادارة الامريكية بحكم الضرورة على التعامل مع التوازنات الإقليمية والدولية الناشئة ليس فقط من خلال استراتيجية التفوق وتعزيز منظومات السيطرة والتحكم الامريكية على العالم ، وانما اضطرت الى التعاطي مع خطاب الشراكة في إدارة العالم والأقاليم بشكل مختلف عن ذي قبل . فالتطور النوعي للصين على مستوى الاقتصاد العالمي وليس الاقليمي فحسب اضافة الى عودة روسيا بقوة كقوة عظمى وتأثيرها الفاعل في الصراعات الإقليمية والتحالفات التي نسجتها على المستوى الدولي والاقليمي بدءا من الصين ومرورا بدول أوراسيا وقول الفصل في صراعات الاقليم رغم الاحتجاج الاوروبي والامريكي وصولا الى ايران وسورية ومؤخراً مصر، كل ذلك ومعه امور اخرى ، كتشكل منظمات اقتصادية مثل منظمة شنغهاي ومجموعة دول البريكس،  أدى الى تغير في السياسات الامريكية. لقد استنتجت إدارة أوباما ان حروب امريكا العبثية في افغانستان والعراق كانت عاملا رئيسيا في تدهور الاقتصاد علاوة على آثارها وتداعياتها السياسية .  لذلك اعدت الادارة في فبراير 2015  وثيقة جديدة تتضمن تعديلات على استراتيجية الأمن القومي حددت أهدافا من ضمنها:   "تفكيك الشبكات التي تهدد شعبنا ومواجهة العدوان ضد حلفائنا وشركائنا وضمان تدفق الطاقة من الشرق الأوسط الى العالم ومكافحة تطوير أو استخدام أسلحة الدمار الشامل». وتعهدت الإدارة «الاستثمار في قدرات إسرائيل والأردن وشركائنا في الخليج لردع أي عدوان». وتحث الحكومة العراقية «للتعاطي مع شكاوى السنّة من خلال حُكم أكثر انفتاحاً وشمولية»، ولم تغفل الحديث عن ضرورة الشراكة الإقليمية في محاربة الارهاب وتحطيم داعش.  وفي الملف السوري دعت الى حل سياسي «دائم للنزاع المدمر» والتعاون «مع الشركاء لتدريب وتجهيز المعارضة السورية المعتدلة لتكون قوة ضد الإرهابيين وضد وحشية نظام الأسد وفي الملف المصري اكدت الإدارة على «المحافظة على التعاون الاستراتيجي مع مصر بشكل يمكن من الرد على التهديدات الأمنية المشتركة وتوسيع شراكتنا وتشجيع التقدم نحو بناء المؤسسات."   من جهة اخرى اكدت الوثيقة على ما جاء في الاستراتيجية السابقة منذ عام 2010 بشان تطوير علاقاتها وشراكاتها مع الهند ودول الباسيفيك ليكون بالإمكان المحافظة على تفوقها ووقف زحف الصين الى مقدمة الاقتصاد العالمي. ولا تخفي الادارة عداءها لروسيا من خلال الحديث عن ما اسمته عدوانية روسيا التي يجب ان يوضع حد لها عن طريق استمرار فرض العقوبات الاقتصادية عليها.  من الصعب ملاحظة تغير دراماتيكي في استراتيجية التفوق الامريكية المعهودة من خلال هذه الاستراتيجية الجديدة المعلنة، على رغم تغيير خطاب الاستعلاء الفظ والاستعاضة عن حديث الحروب المباشرة والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول والشعوب باستخدام التحالفات والشراكات وتأجيج صراعات وحروب بالوكالة لانها اقل كلفة واكثر نجاعة في تحقيق الاهداف المرسومة لها. هذا علاوة على ان التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة لم تعد تسمح بالتفرد والقطبية الأحادية.  الاستراتيجية الامريكية في مجال الأمن القومي لا تقتصر على الوثيقة المعلنة وانما هي من حيث المبدا تتحرك ضمن مفهوم الهيمنة واحكام السيطرة على العالم الذي يجسد مسالة الشعور بالتميز والتفوق الذي طغى منذ زمن طويل على منظومة التفكير الرسمية للولايات المتحدة الامريكية. لكن الأخطر من ذلك ان السياسات الفعلية لأمريكا تغلب غاياتها على الوسائل بغض النظر عن مأساوية النتائج، فقراءة النص وما بين السطور يشير بوضوح الى ان الادارة الامريكية لم تتوقف عن السعي لإشعال فتيل الصراع المذهبي بين السنة والشيعة في منطقة تكاد تحترق بنار الارهاب التكفيري الذي ازال هو نفسه في كثير من حالات الذبح والقتل الحدود المذهبية. من جهة تعلن امريكا انها تحارب الارهاب وفي نفس الجملة تسلح مع حلفائها ما تسميه المعارضة المعتدلة في سورية ومن ثم تريد حلا سياسيا هناك.    العالم تجاوز مرحلة قبول تلك الأدوات القديمة كالصراع بين الغرب والشرق على أسس دينية والحروب الصليبية وغيرها ، هذا ما تثبته نتائج حربي العراق وأفغانستان . لذلك غيرت امريكا استراتيجيتها في الشرق الوسط من خلال التركيز على تقسيم دول المنطقة وتاجيج الصراع المذهبي كوسيلة هامة للتجزئة وهدم وتدمير الدول وبالتالي إدارة وتكريس ما اسماه برنارد لويس الفوضى الخلاقة . وهي تركز على اهداف مماثلة في شرق اوروبا مستبدلة الصراع المذهبي بالصراع العرقي وتمزج في دول اسيا المحيطة بالصين الصراعات العرقية مع صراعات نفوذ جيوسياسية. من هذا المنطلق فان مناطق بؤر الصراع في الشرق الاوسط وشرق اوروبا ستبقى ملتهبة ما دامت تصب في خدمة المصالح الامريكية ، وسوف تخبو نارها كلما تعاظمت قوة التوازنات الإقليمية والدولية المقابلة للمشروع الامريكي، ومن الواضح ان امريكا التي احضرت أسطولها للمتوسط وكانت تعتزم ضرب سورية مباشرة ، لم تتراجع عن ذلك بسبب اتفاقية نزع الاسلحة الكيماوية من سورية بقدر ما انها كانت تبحث عن مخرج يخلصها من تداعيات تلك الضربة التي كانت ستؤدي الى اشتباك محتمل مع روسيا في عرض المتوسط . كذلك الامر بالنسبة لإيران وانتهاج المفاوضات معها بديلا لحرب مباشرة كانت ستكلفها ربما أضعاف ما كلفتها حرب العراق وأفغانستان .    ومن المؤكد ان امريكا ومعها حلف الناتو لن تتدخل عسكريا في الأزمة الأوكرانية خاصة وان أوكرانيا خط احمر بالنسبة للامن القومي الروسي، ومن المرجح ان يتراجع الاتحاد الاوروبي عن ضمها له مقابل تسوية مع روسيا لمنع تفاقم الأزمة والصراع الدولي حولها.  لم تعد الولايات المتحدة المتحكم الوحيد في العالم وإدارة الصراعات والأزمات رغم الثقل النوعي الذي تتمتع به ، وكما يبدو ان استراتيجياتها الجديدة لم تعد تدعو علانية الى السيطرة على العالم كما كانت في عهد الجمهوريين  او ما يعرف بالتيار المحافظ والذي اطلق عليه جورج سورس وصف الداروينية الاجتماعية التي تدعو الى البقاء للانسب ونعتها بالفظاظة كونها تشدد على التنافس اكثر من التعاون. وفقا لدلالات الاستراتيجية الجديدة فان المرحلة الراهنة ستشهد مزيدا من الصراعات على النفوذ الجيوسياسي في مختلف المناطق والأقاليم لكنها ستبقى محدودة بحدود التوازنات الدولية الجديدة .