2024-11-24 04:33 م

الإسلام والتوحّش: معالم من معارك الغرب الدعائيّة

2015-03-02
أسعد أبو خليل
العولمة، في معنى من معانيها، تعني استبطان واجترار قيم ومفاهيم الغرب من قبل غير الغربيّين - ومن دون إدراك واعٍ - حتى ولو كانت تلك القيم والمفاهيم على تضاد مع مصالح غير الغربيّين. عولمة القيم هي في محاكاة الرجل الأبيض المُستعمِر من دون أن تلاحظ (تلاحظي) ذلك. إن عولمة الاستعمار والهيمنة الفعاليّة هي في إيهام المُستعمَر ان ما ينطق به وحتى ما يعتقد انه يؤمن به بقوّة وحماسة هو نتاج ذاتي غير متأثّر باستعمار بدأ ولم ينتهِ.

كتب إدوار سعيد في ختام كتاب «الثقافة والإمبرياليّة» ان واحداً من الأذى الاستعماري ان شعوب العالم النامي تظنّ ان هويّاتها خاصّة بها وحدها، أو أصيلة، فيما هي ناتجة عن تقسيمات أتى بها المُستعمِر لخدمة أغراضه هو، لكن بات يُخيّل لسكّان رواندا وبوروندي أن تقسيم الـ «هوتو» والـ «توتسي» هو اجتماعي عميق، مع أن الألمان والبلجيك هم الذين حوّلوا الفارق (الهامشي جينيّاً) بعد الحرب العالميّة الأولى بين الشعب المحلّي إلى تقسيم طبقي واجتماعي ووظيفي (استعان البلجيك بأقليّة الـ «توتسي» لفرض حكمهم واصدروا بطاقات هويّة للتفريق بين الفريقيْن). هل أن الإيمان العربي (الباطل) بأنهم بيض (فيما هم أفرو- آسيويّون) ناتج من قناعة خالصة أم هو محاولة للتماهي مع ميزات الرجل الأبيض في البلاد وفي المهاجر؟
إن خطاب الغرب التاريخي العدائي ضد الإسلام يُستبطن من قبل مسلمين (حتى لا نتحدّث عن غيرهم) فيما يقوم الغرب بإعادة شحذ أدوات حروبه الماضية في بلاد العرب والمسلمين. لكن البيت الأبيض عقد قبل أيّام مؤتمراً لمكافحة «التطرّف» ودعا إليه رهطاً من المعتدلين، من السعوديّة ودولة الإمارات ومصر وقطر واوغندا والبحرين والأردن بالإضافة إلى ممثّل عن طاغية كازخستان، حتى لا نتحدّث عن خارقي حقوق الإنسان في الغرب. (ودعا، في من دعا، رسّاماً أردنيّاً زعم ان قصصه المصوّرة تباع بالملايين وأنه إستطاع ان يخلق للعرب والمسلمين أبطالاً جدد، لا يشكّلون خطراً على المصالح الأميركيّة. وزعم الرسّام - الذي لم يسمع به احد واسمه سليمان البخيت، وهو ابن لرئيس وزراء سابق للنظام الهاشمي الصهيوني - أن متطرّفين اعتدوا عليه بسبب مكافحته التطرّف). قرّرت أميركا مكافحة التطرّف، مثلما هي كافحت في حقبة الحرب الباردة مظاهر التطرّف اليساري والعلماني والمتنوّر والنسوي في كل بلاد العالم النامية، وعملت مع النظام السعودي والأردني والباكستاني على نشر قيم الجهاد الإسلامي الرجعي لدحر الشيوعيّة (من الضرورة قراءة الفصل الأوّل - على الأقلّ - من كتاب الصديق جوزيف مسعد، «الإسلام في الليبراليّة»، والذي يخوض في تاريخ الخطاب السياسي الليبرالي الاستعماري نحو الإسلام والمسلمين). كانت أميركا تحضّ على تعبئة دينيّة جهاديّة للمسلمين من أجل محاربة فكر التنوير والشيوعيّة في زمن الحرب البادرة.
وقد تعرّض أوباما إلى انتقادات من فريق كبير من الساسة في أميركا لأنه تمنّع عن استعمال وصف «الإسلامي» للتطرّف، لأن التطرّف هو إسلامي بالعرف الأميركي. ووصف التطرّف بالإسلامي يصبّ في مجرى السجال السياسي الدائر والذي لا نهاية له: هل الإسلام برّاء أم أن الإسلام مذنب؟ والحكم على الإسلام وإدانته من خواص التعاطي الغربي مع الإسلام: والإسلام في قفص الاتهام، إن كان في القرون الوسطى أو في عصر الليبراليّة الاستعماريّة. وموضع توّحش «داعش» بات على كل شفّة ولسان، غرباَ وشرقاً. التنظيم المذكور يتقصّد الإرهاب تكتيكاً وهدفاً، وهو في هذا يختطّ لنفسه منجهاً مستحدثاً في الإرهاب الحديث. لكن «داعش» لم يخترع وسائل تعذيب جديدة، ولم يأت بعقيدة جديدة لم تعرفها منطقتنا - أو منطقتهم - من قبل. إن «داعش» هو التطبيق الفعلي لعقيدة حاكمة في مملكة القهر السعوديّة، لكن مع بثّ مُتلفزّ لتطبيق العقوبات، فيما تعاقب حكومة آل سعود مَن يتجرّأ على أخذ صورة أو فيديو بهواتفه لقطع الرؤوس والجلد الدوري في الساحات العامّة.
لقد ألصق التوحّش بالإسلام في الغرب، وحتى في الشرق حيث اجترّ الاستشراق المحلّي (الكنسي غالباً تاريخيّاً) مقولات العداء والكراهية ضد الإسلام. والخطاب النفطي السعودي المُوالي للغرب الصهيوني بات معنيّ بإعادة نشر وضخ مقولات الصهيونيّة الغربيّة نفسها ضد العرب والمسلمين. ولهذا فإن صفحات جريدة «الشرق الأوسط» و»المجلّة» (المملوكتيْن من قبل الملك السعودي الحالي) باتت تعجّ بكتابات عتاة الصهاينة وكارهي الإسلام في الغرب. أفردت مجلّة «المجلّة» مقالة غلاف مسهبة للليكودي الصهيوني، جوشوا مُرافتشيك، وهو ليس أكاديميّاً وليس خبيراً في شؤون الشرق الأوسط إلا إذا كان التعصّب ضد العرب هو الاختصاص الشرق اوسطي عينه - وهذا سارٍ في المعيار الصهيوني في أميركا، لنقد وإهانة وتشويه كتابات الراحل إدوار سعيد. أي أن حماة «الحرميْن» باتوا المُسوّقين المحليّين لعقيدة معاداة الإسلام، وللعقيدة التي تسهم في تقبيح صورة الإسلام في الغرب والشرق على حدّ سواء.
لكن هل يمكن الحديث عن وحشيّة أو إرهاب إسلامي؟ ولماذا لم يؤدّ نحو قرن من الإرهاب الصهيوني إلى استعمال وصم «الإرهاب اليهودي»؟ ووصم الإرهاب بصفة الدين - في الحالتيْن- جائر لأنه يحمّل الدين والعقيدة وزر أفعال أشخاص، قلّ عددهم أم كثر. إن الإرهاب والوحشيّة ليس صنو الدين، مع أن العلمانيّين والملاحدة يرغبون في نسبة كل إرهاب وكل وحشيّة إلى الدين. هذا لا يعني ان الدين - كل دين، أو أي دين - هو برّاء ممُا يصلق به بالضرورة خصوصاً في حالات تكون فيها السدة البابويْة - أعلى مرجع في الدين المسيحي تاريخيّاً - مسؤولة مثلاً عن الإعلان الرسمي للحروب الصليبيّة وعن إرهاب النساء تحت عنوان «محاربة الساحرات»، أو في قمع الأقليّات في زمن كان القسّ فيه حاكماً. وفي هذا لا ينطبق الوصم على الإسلام لسبب بسيط ان الحاكم هو الذي يُخضع الفقيه لسلطته، وليس العكس. إن المفتي السعودي أو حاكم الأزهر ليس إلا أداة بيد طاغية مُتغيّر: والطاغية يمتّ إلى الدين بصلة أضعف من صلته بالاستعمار. الحالة الإيرانيّة تختلف لأن الفقيه أخضع الحاكم لسلطته لكن نظريّة «ولاية الفقيه» لا تعبّر عن صلب العقيدة الشيعيّة ولا تحظى بإجماع المراجع الشيعيّة العليا حول العالم.
والحديث عن التوحّش في الإسلام يقتضي مساءلة فرضيّة نسب أفعال أفراد أو حكّام مسلمين إلى الإسلام نفسه. هادي العلوي كتب كتاباً مقروءاً جدّاً بعنوان «من تاريخ التعذيب في الإسلام». لكن العلوي بعنوانه هذا نسب كل ما جرى من تعذيب وجرائم إلى «الإسلام» بصورة عامّة، والتعميم من هذا النوع يفضي إلى مفاهيم وفكر الاستشراق التقليدي. لا يمكن منهجيّاً نسب أفعال وجرائم أفراد من المسلمين إلى الدين نفسه. وهذا النوع من التعميم لا يُستعمل بتاتاً عن اليهوديّة أو المسيحيّة. وقد استدرك العلوي متأخّراً ما وقع فيه من خطأ في المنهج فأضاف تعقيباً على طبعة لاحقة جاء فيها: «أرسل لي الفنّان العراقي أسعد علي بعد صدور هذا الكتاب إضمامة (ألبوم) تتضمّن صوراً لأشكال التعذيب في أوروبا حتى مطلع القرن التاسع عشر. وبعد ان تصفّحته قليلاً طويته وأخرجته من منزلي إذ لم تواتيني الشجاعة على مواصلة النظر فيه. وإنما ساعدني على وصف فنون التعذيب في تاريخنا أنها وردتنا محكيّة لا مكتوبة. وأقول في ختام هذا القسم إني كلّما خضت في تاريخ هذه الهمجيّة الكبرى وددت لو أن البشريّة لم توجد على الأرض» («فصول من تاريخ الإسلام السياسي»، ص. 327). تقرأ هذا الاستدراك وتقول في سرّك للمؤلّف: «بعد شو؟»، بعد ان الصقتَ كل ما مرّ على تاريخنا الطويل من تعذيب بالإسلام؟ وفي كتابه هذا يعترف العلوي ان الإسلام لم يُدخل «فنّاً» في فنون التعذيب إلا واستعاره من حضارات سبقته أو جاورته.
لكن المنهج الغربي الحالي يصرّ على أمريْن: 1) لوم الإسلام برمّته على أفعال كل مسلم في أي مكان في العالم. 2) العمل الدؤوب من أجل تغيير عقيدة الإسلام، وإعادة تفسير نصوصه الدينيّة بما يتلاءم مع مصالح الغرب ودولة العدوّ الإسرائيلي. (قلتُ مرّة لمراسل «نيويورك تايمز» عام 1993 بعد أن سألني عن التغطية المجنونة لتفجير «مركز التجارة العالمي» الأوّل عام 1993: ليس الهدف نفي تهمة الإرهاب عن بعض المسلمين. على العكس: إنه من حق المسلمين ان يكون لديهم عدد من المجرمين والإرهابيّين والأوغاد، مثلهم مثل كل الشعوب وأفراد الأديان، من دون ان تؤدّي أعمال المجرمين والإرهابيّين والمعتوهين - المسلمين بالولادة أو العقيدة - إلى تحميل الدين الإسلامي أو ثقافة العرب أو تاريخ المنطقة المسؤوليّة عن هذه الشرور غير المحصورة بالمسلمين.
هناك أكثر من طريقة لدراسة التوحّش الإسلامي المعاصر. أولاً، يمكن دراسة الظاهرة من خلال وضعها في سياقها السياسي والتاريخي المعاصر. هذا ما فعله روبرت بيب، في كتابه «الاستماتة للفوز» عن ظاهرة العمليّات الانتحاريّة المعاصرة والتي توصّل خلاصتها إلى الاسنتاج أنها غير مرتبطة بدين أو بعقيدة واحدة، وأن شعوباً مختلفة ذات مذاهب مختلفة (بما فيها يسار ملحد) ارتكبت أعمالاً كهذه بدافع مشترك: التخلّص من احتلال أجنبي. ثانياً، يمكن وضع الظاهرة في سياقها الإقليمي المعاصر، من دون الغوص في التاريخ السحيق. إن وحشيّة «داعش» أو غيرها من التنظيمات تمكن نسبتها إلى تنظيمات إرهابيّة معاصرة. لا حاجة إلى التفتيش في كتب الفقه (كما فعل الراحل العزيز، هادي العلوي، وكأن كتب الفقه هي التي تفسّر أفعال البشر من المسلمين، وليس العكس، وكأن ليس هناك من ظواهر اجتماعيّة واقتصاديّة أجدى بالفائدة في التفسير)، ولا حاجة للغوص في نظريّات عنصريّة عن «العقل العربي». إن ولادة الميليشيات المسلّحة في بلادنا كان في الثلاثينيات من القرن الماضي على يد الميليشيات الصهيونيّة (ولم يكونوا من المسلمين). هؤلاء كانوا الروّاد الحقيقيّين في تعريف المنقطة على أنماط من الوحشيّة والإرهاب لم تعرفها منطقتنا من قبل. العصابات الصهيونيّة هي كانت أوّل مَن لجأ إلى هذه الوحشيّة في الإرهاب: 1) رمي القنابل في المقاهي (في يافا في 17 آذار، 1937، للمرّة الأولى). 2) رمي القنابل على متن الحافلات (في صيف آب-أيلول عام 1937 في أنحاء مختلفة من فلسطين للمرّة الأولى). 3) رمي القنابل في الأسواق الشعبيّة (في 6 تمّوز عام 1937 في حيفا للمرّة الأولى). 4) تفجير الفنادق (في 22 تمّوز 1946 في القدس، للمرّة الأولى). 5) تفجير السفارات (في 1 أكتوبر من عام 1946 في روما للمرّة الأولى). 6) تفخيخ سيّارات الإسعاف (في 31 أكتوبر عام 1946 في بتاح تكفا، للمرّة الأولى). 7) تفخيخ الطرود البريديّة (في حزيران عام 1947 ضد أهداف بريطانيّة للمرّة الأولى). (راجع كتاب «من هم الإرهابيّون» الصادر بالإنكليزيّة عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة في عام 1972، والذي يجب ان يُترجم إلى كل لغات الأرض).
وهناك أيضاً ميلشيات اليمين الطائفي في الحرب اللبنانيّة، وتحديداً ميلشيات «حزب الكتائب» و»نمور الأحرار» و»حرّاس الأرز» و»التنظيم» (والذين انضووا في ما بعد في نطاق «القوّات اللبنانيّة). إن هذه المليشيات كانت أوّل ميلشيات حربيّة عربيّة معاصرة في التاريخ العرب الحديث. وهي - وإن لم تكن إسلاميّة، بل أدخلت في عقيدتها وشعاراتها ورموزها رسوماً ورموزاً مستوحاة من الدين المسيحي، وإن يكن من الإجحاف تحميل الدين المسيحي وزر جرائم حرب هؤلاء - كانت أوّل من تفنّن، كما الصهاينة، في اإبتكار وسائل تعذيب وحشيّة لم تشهدها منطقتنا من قبل. هناك من يقول إن الكل «فظّع» في الحرب وارتكب جرائم، لكن هذه المقولة التوفيقيّة تهدف إلى تبرئة المجرم وهي مجافية للحقيقة. لم تكن كل التنظيمات الفلسطينيّة واللبنانيّة متساوية في الجرم: لا في إشعال الحرب، ولا في استمرارها ولا في ممارسة التعذيب والتمثيل بالجثث. هناك تنظيمات يساريّة لبنانيّة وفلسطينيّة فرضت انضباطاً جبّاراً في سنوات الحرب، وإن كانت التنظيمات المرعيّة من قبل مخابرات الأنظمة العربيّة أقل التنظيمات انضباطاً، لا بل إن إجرامها كان مقصوداً بهدف التخويف - أو الإرهاب. لكن تنظيمات اليمين الطائفي التي أشعلت الحرب الأهليّة عام 1975 (بعد ان حاولت إشعالها عام 1969 وفي عام 1973) وبإيعاز من العدوّ الإسرائيلي، هي التي ابتكرت وسائل تعذيب لم تعرفها منطقتنا من قبل. قد يكون التنسيق والتناغم بين هذه الميلشيات والعدوّ الصهيوني أدت إلى مشاركة بين الطرفيْن في تطبيق أنواع مختلفة من الوحشيّة، أو الاستيحاء والإلهام المتبادل. لكن ميليشيات اليمين الطائفي بدأت مبكّرة في ترويع اللبنانيّات واللبنانيّين: هي التي كانت السبّاقة إلى ممارسة عمليّات الخطف الطائفي (والتي سارع إلى ممارستها «ثوّار» سوريا المرعيّين من قبل الأنظمة التركيّة والسعوديّة والقطريّة) وإلى القصف العشوائي على منازل الآمنين (والتي شاركت فيها ردّاً مدفعيّة حركة «فتح» بأمر من «أبو صالح»، الذي استغلّ غياب «أبو عمّار» عن الساحة اللبنانيّة). كانت الميلشيات اليمينيّة تقطع الأعضاء الذكوريّة للمخطوفين من المسلمين وتكدّسها في براميل في منطقة المرفأ. لقد ترك كتاب مجرم الحرب، جوزيف سعادة «أنا الضحيّة والجلاّد أنا» بالغ الأثر على الراحل جوزيف سماحة، وكان يشير إلى ضرورة قراءة الكتاب لفهم طبيعة الحرب الأهليّة في لبنان، ودور ميليشيات اليمين فيها. كانت الميليشيات أوّل من مثّل بالجثث ومَن كان يربطها إلى السيّارات والمسير بها بسرعة فائقة حتى تتحلّل الجثّة امام جمهور المُصفّقين على تخوم المخيّمات الفلسطينيّة حيث كانت المجازر ضد أهلها لا تكتمل إلا بفتح زجاجات الشمبانيا.
لم تعد الذاكرة اللبنانيّة المعاصرة تحتفظ بسجلّ لإجرام تلك الميلشيات (غير الإسلاميّة) المتحالفة مع الصهيونيّة. لقد نشر الاتحاد الاشتراكي العربي في لبنان (أو واحد من تنظيماته المُنشقّة بالاسم نفسه) كتاباً مرجعاً بالفرنسيّة عام 1976 واحتوى على صور وشهادات عن وحشيّة تلك الميلشيات. لم يقل أحد يومها بأن الجرائم تلك كانت نتيجة طبيعيّة لنصوص دينيّة مسيحيّة، أو ان مسح العوارض الوحشية عن الحياة اللبنانيّة تقتضي إعادة صوغ تفاسير جديدة للدين. كانت المجازر التي ارتكبتها الميلشيات تلك في المخيّمات الفلسطينيّة وفي النبعة وحي الغوارنة وسبناي من أبشع ما ارتكب من جرائم في الحروب الأهليّة حول العالم، بشهادة المراسلين الأجانب الذين غطّوا أكثر من حرب أهليّة. ولقد كنّ مراسل «واشنطن بوست»، جوناثان رندل، الذي غطّى أولى سنوات الحرب، كراهية فظيعة وعداء مستحكماً ضد ميليشيات «الكتائب» و»الأحرار» بسبب وحشيّتهم وكتب في ذلك كتاب «الذهاب إلى الآخر».
لا تريد أميركا ان تتصدّى للمُسببات الحقيقيّة للتطرّف والوحشيّة في منطقتنا. هي لا تريد ان تعترف بقسطها من المسؤوليّة وبقسطها من ممارسة الوحشيّة والإرهاب. أميركا والعدوّ الإسرائيلي والطائرات الغربيّة تحرق الجثث من أعلى، فيما يمعن «داعش» في حرقها من أسفل. الحرق حرقٌ وإن تعدّدت الأسباب والأدوات والجهات.
إن الخطاب الغربي عن الإسلام هذه الأيّام لا يختلف البتّة عن الخطاب الألماني النازي عن اليهود في الثلاثينيات. هاكم وهاكنّ مراسل «نيويورك تايمز في الدانمارك أندرو هيغنز، يكتب هذا الأسبوع عن المسلمين هناك: «كما في دول أوروبيّة أخرى، قد يتعايش المسلمون في الدانمارك مع جيرانهم لكنهم يحافظون على تعلّقهم بالقيم وبالعقليّة المُتأثّرة بالمؤامرات من بلدان منأشهم». لو ان هذا الكلام قيل عن اليهود اليوم لقامت تظاهرت حاشدة ضد الكاتب وضد الصحيفة. أما الخبير الفرنسي في شؤون الإسلام، أوليفي روا (الذي درس «إسلام الضواحي» في فرنسا) فقد دعا جهاراً في مقابلة مع صحيفة «إنفورماسيون» الدانماركيّة إلى «بناء نموذج وطني (دانماركي) للإسلام من خلال تمويل حكومي». لم تعد الدعوة إلى مشاركة حكومات الغرب في صنع إسلام جديد وملائم خافتة.
أما مجلّة «أتلانتك منثلي» فقد نشرت مقالة طويلة جدّاً عن «داعش» قبل أيّام واستعانت فيها بآراء المؤرّخ، برنارد هيكل، الذي يعترض على كل مَن يبرّئ الإسلام من جرائم «داعش»، وسخر فيها من مقولة ان الإسلام دين سلام (والحقيقة ان كل الأديان تقبل الحرب والسلم على حدّ سواء، ورهبان البوذيّة رعوا في السنيتيْن الماضيتيْن إرهاب البوذيّيين ضد المسلمين في بورما، وأجّجوا له). ويقول هيكل إن الإسلام هو مجموع «ما يفعله المسلمون». لكنه لا يقول لنا إذا كان ذلك ينطبق أيضاً على اليهود والمسيحيّين. ويعود هيكل إلى نصوص تمتد لقرون من الزمن ليدلّل على وحشيّة الإسلام، كأن النصوص التوراتيّة مسالمة ووديعة، وكأن الحياة التي عاشها المسيحيّون على مرّ القرون كان ملؤها التسامح والسلم، وكأن المسلمين يقيمون حياتهم بناء فقط على النصوص الدينيّة (فليقرأ كتاب ماكسيم رودنسون، «الإسلام والرأسماليّة»). الكاتبة سوزان جاكوبي ذكّرت قرّاء «نيويورك تايمز» بجرائم الحروب الصليبيّة. لكن المقارنات الدينيّة في الجرائم لا تفيد، لأنها في النهاية تقابل إجرام حقبة الصليبيّة بإجرام يتصل في أذهان الغربيّين بالإسلام.
لم يعرف العالم العربي توحشّاً مثل الذي شهده في الحرب العالميّة الثانية ولم يكن أطرافها أو مُخطّطوها أو منفّذوها من المسلمين. تطاحن الطرفان وقتلا بالملايين، وتعرّضت ملايين النساء للاغتصاب. قال الجنرال كرتس لو ماي، قائد القوّات الأميركيّة في الباسيفيك، لمساعده روبرت مكنمارا (الذي عمل لاحقاً وزيراً للدفاع في حرب فييتنام ثم رئيساً للبنك الدولي): «سنُحاكَم على جرائم حربنا لو هزمنا» - قالها فيما كان ومساعده يختاران مواقع الأحياء السكنيّة في طوكيو للقصف اليومي (قتل القصف الأميركي نحو 100000 مدنيّ ومدنيّة في ليلة قصف واحدة). وكتاب «حرب من دون رحمة» يروي بتفصيل فظائع ووحشيّة القوّات الأميركيّة في حربها في الباسيفيك. كانت آذان الجنود اليابانيّين تُقطع وتصنّع حمّالات مفاتيح، فيما كانت العظام تُسنّن وتصنّع قاطعات للورق. والفظائع الألمانيّة دخلت التاريخ البشري في القدرة على إستخدام التكنولوجيا الحديثة لقتل ملايين من البشر.
إن الوحشيّة بشريّة وليس خاصّة بدين أو بطائفة أو بعرق. هذا ما حاولت حنة أرندت ان تقوله في كتاب «أيخمن في القدس»، والذي أثار ضدّها غضبة الصهاينة. وميشيل فوكو درس استعراض القتل والتعذيب في التاريخ الأوروبي في كتاب «عقاب ومراقبة»، وارتباط طقوس التعذيب والقتل بطرق المراقبة والقمع الشامل من قبل السلطة. هذا لا يعفي المسلمين وغير المسلمين من المسؤوليّة عن تطويع الدين لغايات أنظمة وتنظيمات وعقائد وحشيّة. لكن هذه المسؤوليّة توازي مسؤوليّة الغرب الحاضر، وليس التاريخي فقط، عن وحشيّة رافقت كل حروبه المعاصرة، خصوصاً ضد المسلمين والعرب. إن وحشيّة «داعش» وتنظيماتها ولدت في سياق وحشيّة الحروب الأميركيّة، كما ان السياسات الغربيّة نحو سوريا على مدى السنوات الأربع الماضية هي التي لعبت دور القابلة القانونيّة لولادات تنظيمات وحشيّة. وإخراج أفلام وصور «داعش» يستقى من صور الوحشيّة الأميركيّة في العراق وأفغانستان.
طبعاً، يريد الغرب ان يجعل من موضوع الوحشيّة الداعشيّة الموضوع الأوحد من أجل ان يتيح لنفسه إعادة تعريف الإسلام ومن اجل الحصول على تنازلات سياسيّة من العرب والمسلمين. تستطيع ان تحلّل الإرهاب الداعشي دينيّاً - كما يفعلون في الغرب - لكنك تستطيع أيضاً ان تحلّل الظاهرة كواحدة من الإفرازات الوحشيّة للسياسات والحروب الأميركيّة في منطقتنا على مدى عقود طويلة. لكن وحشيّة إرهاب الغرب والعدوّ الإسرائيلي تحظى بتجميل، من قبل حكومات الغرب التي تطلي عدوانها بشعارات برّاقة عن الحريّة والديمقراطيّة، فيما يجترّ الليبراليّون المحليّون خطاب ذم الذات العنصري.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)