2024-11-24 09:58 م

عودة إلى لعبة الشرق الأوسط الكبرى

2015-02-21

مارتن انديك – معهد بروكينغس (التقرير)

الجزء الأول من المقال:

ليس هناك في العالم اليوم أي مكان تنتشر فيه الفوضى بشكل أكبر، وتعد إعادة النظام إليه أكثر أهمية، من منطقة الشرق الأوسط. قد تكون “اللعبة الكبرى” بين القوى العظمى المتنافسة نشأت في آسيا الوسطى، ولكنها عثرت على أشد تعبير عنها عند “مفترق طرق الإمبراطورية” في الشرق الأوسط. وطالما لا تزال المصالح الأمريكية موجودة، لن تستطيع الولايات المتحدة الكف عن لعب هذه اللعبة.

وقد اعتادت الولايات المتحدة على أن يكون لديها استراتيجية للشرق الأوسط، تعرف باسم استراتيجية “الركائز”، وتستند إلى العمل مع القوى الإقليمية التي التزمت حينها بالحفاظ على الوضع الراهن، مثل إيران والسعودية وإسرائيل وتركيا.

وكان التحدي هو احتواء القوة المدعومة من الاتحاد السوفيتي، وهي مصر، والعراق، وسوريا. ومع مرور الوقت، فقدت الولايات المتحدة الركيزة الإيرانية ولكنها كسبت الركيزة المصرية؛ عززت النظام العربي السني، ولكنها تواجه الآن قوة ثورية شيعية في الخليج.

وأصبحت الولايات المتحدة في عام 1992 القوة المهيمنة في المنطقة، وجاء ذلك في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وطرد جيش صدام حسين من الكويت. وبعد ذلك، اعتمد الرئيسان بوش وكلينتون على استراتيجية مشتركة، وواضحة، للحفاظ على الاستقرار، تألفت من ثلاثة عناصر:

1. باكس أمريكانا: حل شامل للصراع العربي الإسرائيلي ترعاه أمريكا.

2. احتواء مزدوج للقوتين الرجعيتين (عراق صدام حسين، وإيران آيات الله).

3. الاستثناء العربي: تجاهلت أمريكا طريقة تعامل شركائها العرب في الحفاظ على النظام في الشرق الأوسط مع مواطنيهم.

وبالفعل، عملت هذه الاستراتيجية بشكل جيد فيما يتعلق بالحفاظ على النظام لمدة عشر سنوات. ولكن، كل ذلك انهار في أعقاب 9/11. تخلت الولايات المتحدة عن سياسة الاحتواء لصالح سياسة تغيير النظام، وقامت بإسقاط صدام حسين بطريقة متهورة فتحت أبواب بغداد لإيران. توقفت عملية السلام العربية الإسرائيلية، وتعرضت الجهود المتكررة لإطلاقها من جديد إلى مقاومة عنيدة. وساعدت الاستثنائية في إنتاج الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة.

وخلال كل هذه العملية، انهار النظام القائم وتم الاستعاضة عنه بدول فاشلة، وبمناطق غير خاضعة لسيطرة الحكومة، وبصعود تنظيم القاعدة وداعش. ولا ينبغي على المرء أن يشعر بحنين كبير للنظام القديم، حيث إن استقراره تعرض للطعنات بانتظام عن طريق الصراعات والانقلابات، وتم شراء ذلك الاستقرار عن طريق القمع. ولكن انهيار ذلك النظام جلب إلى الصدارة ثلاثة نزاعات تغذي بعضها البعض الآن.

وتولد الاضطراب الحاد في جميع أنحاء المنطقة:

1. الصراع الطائفي بين السنة والشيعة: نشأ هذا الصراع في لبنان، ولكن تمت تغذيته من خلال الحرب الأهلية في العراق، وانتشر في سوريا، والبحرين، واليمن. إيران والمملكة العربية السعودية هما مناصرا هذا الصراع، وتكتسب إيران الثورية اليد العليا في بيروت، ودمشق، وبغداد، ومؤخرًا صنعاء.

2. الصراع بين السنة والسنة: بدأ هذا الصراع كمعركة شنها تنظيم القاعدة، وبعد ذلك داعش، ضد المشايخ والملوك المدافعين عن النظام العربي السني. ولكن الربيع العربي جلب إلى الصدارة تهديدًا أكبر للمدافعين عن النظام العربي، تمثل في جماعة الإخوان المسلمين.

3. الصراع مع إسرائيل: تحول هذا الصراع منذ اتفاقات السلام مع مصر والأردن إلى صراع مزمن ترافقه تفشيات دورية للعنف الشديد بين إسرائيل والجهات الفاعلة على حدودها مع قطاع غزة، وجنوب لبنان، والآن في الجولان.

وستكون استعادة النظام من داخل هذه الفوضى مهمة معقدة على أية قوة خارجية. ولكن لدى الولايات المتحدة صعوبة خاصة، حيث إن الضجر نمى في صفوف شعبها من خوض حروب الأرض في الشرق الأوسط، ويلتزم رئيسها بعدم بدء أي حرب جديدة. وأيضًا، انخفضت المخاطر بالنسبة للولايات المتحدة الآن، ولم تعد معتمدة على نفط الشرق الأوسط.

ومع ذلك، لا تستطيع الولايات المتحدة ببساطة الانسحاب من، والتخلي عن، “اللعبة الكبرى”. وكما أظهرت التجربة في العراق، سوف يتم ملء الفراغ من قبل العناصر السيئة التي تنوي تهديد الوطن الأمريكي. حلفاء أمريكا الإقليميون القدامى، مثل إسرائيل وملوك العرب، يعتمدون على دعم الولايات المتحدة للبقاء على قيد الحياة والرفاه.

وفي حين لم تعد الولايات المتحدة تعتمد على نفط الشرق الأوسط، إلا أن شركاءها الرئيسيين في آسيا، وحلفاءها في أوروبا، لازالوا معتمدين على هذا النفط. وبالتالي، سوف يوجه تعطل إمدادات النفط من الخليج ضربة للاقتصاد العالمي المتعثر، وهو ما سوف يرتد على الاقتصاد الأمريكي الذي يحاول التعافي الآن.

ولعدم قدرتها على هضم كل هذا، تعمد إدارة أوباما على التعامل مع كل أزمة في المنطقة على أنها وجبة مختلفة: مفاوضات مكثفة للحد من البرنامج النووي الإيراني؛ إجراءات متخذة بعناية “لتحليل وهزيمة” داعش في العراق وتنظيم القاعدة في اليمن؛ جهد لاحتواء داعش في سوريا؛ وجهد يائس لتعزيز السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أمريكا ترفض الربط بين كل هذه النقاط خوفًا من الانجرار مرة أخرى إلى دوامة.

وما هو واضح فعلًا هو أن هناك حاجة لاستراتيجية تأخذ جميع هذه الحقائق في الاعتبار. وكخطوة أولى يجب الاعتراف بأن الولايات المتحدة بحاجة للعمل مع ائتلاف من القوى الإقليمية لصناعة الفرق.

وهناك خياران فقط لمثل هذا التحالف:

1. تحالف مشترك مع إيران: وجوهر هذا النهج بالنسبة للولايات المتحدة هو تنازلها فيما يتعلق بهيمنة إيران في الخليج، في مقابل موافقة طهران على وقف برنامجها النووي، والحد من دعمها لحزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني في غزة، والحوثيين في اليمن، وبشار الأسد في سوريا، والمساهمة بدلًا من ذلك في بناء نظام أمريكي إيراني إقليمي جديد.

2. العودة إلى المستقبل: وجوهر هذا النهج من شأنه هو عودة الولايات المتحدة إلى اعتمادها على حلفائها التقليديين في المنطقة: السعودية، ومصر، وإسرائيل، وتركيا. وسيكون الهدف من هذه تجديد استراتيجية “الركائز” هذه هو استعادة النظام القديم القائم على احتواء إيران وكبح برنامجها النووي وتقدمها في المنطقة.

وسيكون القراء سريعين في الإشارة إلى الصعوبات التي ستواجه الولايات المتحدة فيما يخص أيًا من هذين النهجين، مثل أن تنفيذ النهج الأول سيكون سذاجة، والثاني سيكون أمرًا يدعو للسخرية. ولكننا لم نعد نمتلك متسعًا من الرفاهية للتقرير بين الاستمرار في اللعب أو عدمه، وبات يجب علينا أن نقوم بالاختيار.

الجزء الثاني من المقال:

لقد جادلت البارحة بأنه لم يعد لدى الولايات المتحدة رفاهية التعامل مع الفوضى في الشرق الأوسط من خلال اتباع نهج تدريجي، وأنها تحتاج للاختيار بين استراتيجيتين، ولا واحدة منهما جذابة حقًا، ولكلاهما سلبيات خطيرة.

ولن يكون النهج الأول ممكنًا من دون عقد اتفاق يضع قيود ذات مغزى على برنامج إيران النووي. من دون مثل هذا الاتفاق، سيكون من المستحيل أن نتخيل التعاون مع إيران بشأن القضايا الإقليمية؛ ولكن مع هكذا اتفاق قد يصبح التعاون حول القضايا ذات الاهتمام المشترك ممكنًا، تمامًا كما قال أوباما في رسالته للزعيم الأعلى الإيراني في نوفمبر 2014.

أي تفاهم مع إيران يشجعها على استخدام نفوذها لدعم النظام والاستقرار، بدلًا من الاستفادة من الفوضى لصالح نشر نفوذها، سيكون له مزايا كبيرة. أثبت تعاون إيران الضمني مع الولايات المتحدة في إزالة نوري المالكي من السلطة في بغداد أنه حاسم بالنسبة لاستراتيجية أمريكا ضد داعش في العراق.

وإذا ما انضمت إيران بالمثل إلى الولايات المتحدة في السعي إلى إزالة بشار الأسد في صالح المصالحة السياسية بين جميع الطوائف في سوريا، فإن هذا سيمكن الولايات المتحدة من متابعة حملة أكثر فعالية ضد داعش في سوريا. وأما إذا قامت إيران بتقييد حزب الله، وخفض دعمها للمقاومين الفلسطينيين، والضغط على الحوثيين في اليمن للانسحاب من صنعاء، فإن النظام في الشرق الأوسط سوف يتحسن بشكل كبير.

ومع ذلك، فمن شبه المستحيل أن نتصور بأن الولايات المتحدة ستكون قادرة على إقناع إيران بالتحول من كونها السلطة الرجعية الأكثر تهديدًا لأمن المنطقة، إلى شريك في إقامة نظام جديد في الشرق الأوسط.

وإن أي محاولة لتحقيق مثل هذه الشراكة سوف تكسب الولايات المتحدة أيضًا غضب حلفائها التقليديين في المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وأنصارهم في دول الخليج العربي والكونغرس الأمريكي. هذه الدول، ولشعورها بالخيانة، قد تبدأ بالتصرف بطريقتها الخاصة، ومن دون أخذ أي اعتبار لمصالح الولايات المتحدة.

ولكن، وإذا كان ينبغي استثناء هذه الاستراتيجية بسبب افتقارها للجدوى وبسبب التكاليف العالية المرتبطة بها؛ فإلى أي درجة تعد الاستراتيجية البديلة قابلة للحياة؟  ستوفر العودة إلى استراتيجية الاعتماد على حلفائنا التقليديين أساسًا يمكن الاعتماد عليه أكثر على الأقل. حيث إن هؤلاء الحلفاء، وفي مواجهة ارتفاع الفوضى في المنطقة، أصبحوا يتشاركون في شعورهم تجاه التهديد القادم من إيران، وحزب الله، والأسد، وحماس، وداعش. وردًا على ذلك، وجدوا مصلحة مشتركة قوية في مواجهة مصادر عدم الاستقرار هذه في المنطقة. ومعًا، لدى هذه الدول قدرات هامة، حيث إن إسرائيل تمتلك أقوى جيش وقوات جوية؛ مصر هي الأكبر والأكثر تأثيرًا في العالم العربي؛ ولدى ملك المملكة العربية السعودية الشرعية الإسلامية، فضلًا عن الثروة والنفوذ الذي يأتي من كون دولته أكبر مصدر للنفط في العالم.

ومع ذلك، الولايات المتحدة على خلاف مع كل من هؤلاء الحلفاء القدامى في هذه اللحظة. إنها في جدل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو حول النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وشروط الاتفاق النووي مع إيران؛ تنتقد نظام السيسي في مصر لإطلاقه النار على مواطنيه في الشارع وحبسه عشرات الآلاف منهم؛ وتختلف مع السعوديين على ما يجب القيام به مع الأسد في سوريا، ومع الإخوان المسلمين في مصر، وتمدد هيمنة طهران في العالم العربي السني.

ولتجديد العمل باستراتيجية “الركائز”، سوف تحتاج الولايات المتحدة لإعادة بناء ثقة حلفائها التقليديين في أهداف أمريكا وإيجاد وسيلة للحد من أو إدارة الاحتكاك. وفي حال عقد اتفاق نووي مع إيران، فسيكون على الولايات المتحدة أن تقوم بموازنة هذا من خلال توفير مظلة الردع النووية لإسرائيل والمملكة العربية السعودية. وستحتاج إلى التقليل من خلافاتها مع مصر بشأن الطريقة التي يعامل بها النظام المواطنين هناك. وسيتوجب عليها أيضًا ايجاد وسيلة للعمل مع إسرائيل على حل المشكلة الفلسطينية، وأن تنأى بنفسها عن جماعة الإخوان المسلمين، وأن تتخذ موقف أكثر قوة ضد الأسد في سوريا.

وفي المقابل، ينبغي أن تتوقع الولايات المتحدة المزيد من التعاون القوي ضد مصادر الاضطراب. وبالفعل، صعدت الأردن ومصر من استخدام القوة ضد داعش في العراق وسوريا وليبيا، ومع امتلاكها لمزيد من الثقة في موقف أمريكا، قد تكون الدول السنية على استعداد للتدخل بريًا في الحملة لمكافحة التنظيم.

ومع ارتفاع الشعور بامتلاك هدف مشترك، قد تتمكن الولايات المتحدة من البدء في بناء إطار أمني إقليمي من شأنه أن يشمل، ولأول مرة، إسرائيل.

أسس هذا الإطار موجودة بالفعل في الترتيبات الأمنية الثنائية الأمريكية مع كل من الحلفاء التقليديين، وفي التعاون الأمني