2024-11-30 02:35 م

شراهة روجيه غارودي!!!

2014-12-16
بقلم: إبتسام نصر الصالح
ما يميِّز حياة العباقرة والمبدعين والعلماء والفلاسفة أنهم جميعاً لديهم صيرورة حياة مُتْخَمة وعبقة دائماً بالبحث والقراءة والعلم والتجارب وهكذا كانت حياة الفيلسوف والأديب الفرنسي روجيه غارودي، أجل كان قد كتب رواية، وله أبحاث ودراسات ومحاضرات وحوارات قام بتقديمها على منابر جامعات العالم. ولد روجيه غارودي في 17 تموز عام 1913 في مرسيليا في عائلة بسيطة حيث كانت والدته تعمل في ورشة صناعة القبعات، بينما والده كان محاسباً بسيطاً، درس المرحلة الأولى في مرسيليا ثم تابع في باريس ومن ثم التحق بكلية الآداب وبعدها انتقل إلى استراسبورغ حيث درس أيضاً في كلية الآداب وهناك واتته الفرصة ليلتقي علماء اللاهوت وفيما بعد درس وحصل على إجازة في الفلسفة بمنحة دراسية باعتبار والده من مشوهي الحرب العالمية الأولى. انتمى إلى الحزب الشيوعي وهو في العشرين من عمره دون أن يتخلى عن نصرانيته. وما يلفت في حياة غارودي هو هذا التلاحق الدائب في تحصيله العلمي والأدبي. *شراهة رهيبة!!! يقول المثل العربي:" اثنان لا يَشبَعانْ طالب علم وطالب مال" ولكن السؤال: من أي شيء لا يشبعان؟ والجواب متضمِّن في المثل فطالب المال لابد أنه نهم وشره لجمع المال باستمرار ومهما كَنزَ من أموال وازداد رصيده في البنوك فهو لا يكتفي بل على العكس تماماً نراه يركض ويلهث وراء أرباح جديدة ويبقى مشغولاً بحساب كم سيضيف من مبالغ مالية جديدة على أرباحه. أما طالب العلم فمما لا يشبع؟ ولنعرف الإجابة نسأل: ما هو غذاءه؟ لابد أن روحه وعقله يتغذَّيان على المعرفة وبالتالي فهو نهمٌ لتلقي المعرفة من مصادرها كافة وأحبُّ هذه المصادر وألذَّها وأنبلها هي الكتب وتالياً فإنَّ طالب العلم يتَّصف بشراهته بتناول الكتب من رفوف المكتبات والانكباب على قراءتها بمنتهى المتعة واللذة النبيلة. وهكذا حال الفيلسوف روجيه غارودي الذي كان خلال حياته كلها شرهاً جداً للقراءة لدرجة أنَّه قرأ مجمل مؤلَّفات ماركس وهو شابٌ في الثانية والعشرين من عمره. وفيما بعد استمر بهذه الشراهة للقراءة والبحث والمتابعات الثقافية. *أزهار الشجرة تعكس غذاءها!!! إذاً، هذه الشراهة لدى روجيه غارودي لم تذهب سدى بل انعكست في منتجه الثقافي الفلسفي والفكري والأدبي حيث قدَّم أعمالاً ضخمة وكثيرة جداً بقيت ذُخراً لكل الناس حيث ترجمت كتبه للغات كثيرة، وقدَّم حواراته في بلدان متعددة. وما أن نقرأ أحد كتبه حتى نهرع للبحث عن عمل آخر له لنتناوله بنهم العاشقين ورغبة الجائعين وشراهة طلاب العلم. ومن أشهر مؤلفاته كتاب(الخرافات المؤسسة للسياسة الإسرائيلية)، وكتاب(كيف نصنع المستقبل). *الإبداع، وتجاوز الواقع سرُّ روجيه غارودي!!! يعتبر روجيه غارودي أن أهم شيء في حياة الإنسان أن يقوم بواجبه نحو الحياة والإنسانية ونحو نفسه. وهنا نقول فعلاً لو قام كل إنسان بواجبه فسيصل كل إنسان إلى حقه دون أن يسعى إليه. وفيما يخصُّ هذا الواجب يعتبر روجيه غارودي أن أهم واجبات الإنسان هو الإبداع الذي يُمَكِّنه من تجاوز الواقع المُعاش.إذاً لابد من التفوُّق على الذات والانطلاق للإبداع والسمو لخدمة الإنسانية. وليتمكن الإنسان من الإبداع فهو بحاجة ماسَّة ودائمة ومستمرة وحثيثة للقراءة المتنوعة. وأعتقد جازمةً أنَّ هذا هو سرُّ هذه الغزارة بإبداعات روجيه غارودي. قرَّائي الأعزاء لكم أتمنى شهية طيِّبة ودائمة لدرجة الشراهة بتناول الكتب من الرفوف والانكباب عليها لتستمتعوا بأطيب وأمتع وألذ وجبة للروح والعقل من الغذاء النادر البهي العَطِر الممزوج بأنوار الطاقة الإيجابية. *وأخيراً: بنظرة بسيطة للمقارنة بين شراهة طالب العلم وشراهة طالب المال، نلمح الفارق الشاسع بين الاثنين حيث طالب المال لا يفيد الإنسانية بشراهته لأنه يتحوَّل لشخص بخيل محتكِر وجشع بينما طالب العلم يقدم منتجه العلمي للبشرية جمعاء وبهذا يحقق إنسانيته ويؤكد بقاءه عبر منتجه العلمي والأدبي وإبداعاته كافة وبحوثه تبقى حتى بعد موته شاهدة على شراهته بتناول غذاء الروح والعقل من معين الكتب عبر القراءة التي تعتبر الفعل الُمَميِّز للإنسان عن غيره من الكائنات. وها نحن نقرأ الفيلسوف روجيه غارودي بعد وفاته في 3 حزيران 2012عن عمر ناهز ال98 عاماً تاركاً للعالم كنوزه الفلسفية.