2024-11-24 09:37 م

في ذكرى مئوية الحرب الكونية ماذا تبقى من سوريا الكبرى؟

2014-11-14
بقلم: نصري الصايغ
منذ مئة عام، مرت الحرب الكونية من هنا. كان المشرق برمّته وبعض شمال أفريقيا، من أتباع الإمبراطورية العثمانية المتهالكة. وكانت النخب العربية، وليدة المعاناة ورضيعة «النهضة» في فكرها، تتطلع إلى حياة عربية جديدة، في أمة تحتضن شعبها دولة عربية واحدة مستقلة استقلالا تاماً، تنظم حياتها بحرية وفق دستور عصري وتقدمي ومدني، يؤكد على الوحدة ويحترم التعدد، برئاسة ملك دستوري خاضع للمساءلة في مجلس منتخب من الشعب.
منذ مئة عام، كان العرب على وعد مع حلم عروبي، قادته نخب من أعيان المدن، التي رأت في العروبة هوية أصيلة، بديلة من العثمانية، منفتحة على غرب، يقدم نموذجاً جديداً في الحضارة والعلم والثقافة والسياسة والفكر والقضايا الإنسانية. والتقت هذه المطامع مع رغبة الشريف حسين في مكة، الذي أذله العثمانيون مراراً واحتجزوه عنوة، في أن يتخلص من الظلم العثماني وحلف التتريك، ووجد ذلك من خلال عقد «تحالف» مع «الحلفاء» بشروط واضحة، حملتها رسائل متبادلة، بينه وبين السير مكماهون البريطاني.
منذ مئة عام، كان الغرب، ممثلاً بالحليفين اللدودين، بريطانيا وفرنسا، ينتظر سقوط التفاحة العثمانية، وكل واحد يتمنى لو تسقط بيديه. ففرنسا، صاحبة الاستثمارات المالية الكبرى، والتي كانت قد اشترت معظم ديون تركيا المفلسة آنذاك، حشدت مطامعها وحجمها لتكون الوريث الشرعي للعثمانيين، في كل من سوريا ولبنان ومحطات اقتصاد القطن والحرير ومواقع الذهب الأسود، نافستها بريطانيا، الساعية لتكون في المقام الاستراتيجي، صاحبة الملكية التي لا تغيب عنها الشمس.
منذ مئة عام، كان اليهود يبحثون عن «وطن» في مكان ما، إلى أن استقر الرأي في مؤتمر بازل، بأن تكون فلسطين، «الوطن القومي لليهود». وقد سعى قادة الحركة الصهيونية لدى عواصم القرار، في الآستانة وبريطانيا وحتى في روسيا، لينالوا وعداً بإقامة وطن، ودعماً لتنفيذه.
منذ مئة عام، بالأيام والشهور والسنوات، ارتسمت معالم المشرق، وولد شرق أوسط جديد، كان لا يزال على حاله، إلى أن اندلع «الربيع العربي» الذي دمرته أنظمة القمع الموروثة، وأحلام الإسلاميين التكفيرية.
كانت بريطانيا، صانعة الحروب ومنسقة العهود وموقعة الاتفاقات، واستطاعت بدهائها واعتمادها على ديبلوماسية الثعلب، أن توقع على ثلاثة اتفاقات متعارضة، مع ثلاثة من حلفائها: الاتفاق الأول مع الشريف حسين، عبرت عنه الرسائل والضمانات المتبادلة، التي أفضت إلى اشتراك العرب بالحرب مع بريطانيا وفرنسا ضد أبناء دينهم وملّتهم ومركز الخلافة الإسلامية في الآستانة، وأوكل إلى لورنس قيادة الثورة ميدانيا، فقدم العتاد والمال، فيما قدم العرب الرجال والدماء، فخاضوا المعارك الباسلة ضد العثمانيين الأتراك، من مكة إلى معاذ إلى فلسطين ودمشق وحلب.
نجحت بريطانيا في تأمين التغطية الإسلامية والعربية في حربها ضد السلطنة، ونجحت في إخفاء اتفاق ثانٍ عقدته مع فرنسا، حول مصير المنطقة (المتفق عليها مع الشريف حسين)، فكانت اتفاقية «سايكس ـ بيكو» السرية، التي منها ولد هذا المشرق التاعس في مسيرته والآفل إلى نهايته راهناً.
دولة واحدة عقدت ثلاثة اتفاقات متناقضة مع ثلاثة أطراف متحالفة، كل على هواه، وكان الاتفاق الثالث مع الحركة الصهيونية، عبر «وعد بلفور»، لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
منذ مئة عام، ولد هذا الشرق بكوارثه وحروبه ومآلاته السود. وفت بريطانيا مع الحركة الصهيونية، فما كان وعداً وعهداً، دعمته حتى صار بلداً، لا يشبهه بلد آخر في العالم: إحلال شعب مكان شعب آخر، ضارب الحضور في بلاده منذ أعماق التاريخ.
ووفت في تنفيذ اتفاقها مع فرنسا، مع بعض التعديلات المحدودة، ذات المنافع المتبادلة، وتأكد ذلك في «مؤتمر سان ريمو»، الذي شكل الأرضية المادية لتنفيذ الانتداب الوصائي، بمضمون استعماري، وقفازات دعائية، تهدف إلى تلقين الشعوب غير المؤهلة لأن تحكم نفسها بنفسها، طرائف الحكم الفاضل.
لم تفِ بريطانيا بوعودها مع حليفها الشريف حسين. نقضت باتفاقيها مع فرنسا والحركة الصهيونية، كامل العهود والبنود الواردة في المراسلات. فبدل الوحدة، عوقبت المناطق العربية المحررة بالدم العربي، بالتقسيم. نفذ «سايكس ـ بيكو»، مع تعديلات «سان ريمو» بالقوة. أنشئت كيانات منفصلة بحدود مصطنعة، وبحسابات دقيقة. فـ«حزب الاستعمار» في فرنسا، كان يشدّد على الأرباح الاقتصادية التي يمكن أن يجنيها من الاحتلال ومن الكيانات، وإسقاط الوحدة يمهد لضرب حركات التحرر في مستعمرات شمال أفريقيا. ابتدعت كيانات، استجابة لضرورة منع أي وحدة، عبر إشغال الجماعات المتعددة بولاءات وكيانات تناسبها. تقسّمت سوريا وتشلعت. دمشق القومية ممنوعة، فيما دمشق الكيانية مسموحة.
كان لبنان جائزة لأعيان مدينية مسيحية وعقوبة لأعيان وجماهير إسلامية، استبدلت ولاءها العثماني بولاء عروبي، ضجت به أحداث نهضوية منذ أواخر القرن التاسع عشر. تلاقت عروبية لبنانيين بعروبة سوريين، التأما في مؤتمرات حددت هدفاً ناضلت من أجله: الوحدة والاستقلال. وليس الاستقلال ثم الوحدة.
لم يخضع السوريون للتقسيم. بعد ضرب حكومة فيصل وطرده من سوريا، توالت الثورات والمقاومة ضد الاحتلال الفرنسي. ثورة إبراهيم هنانو، ثورة صالح العلي، ثورة سلطان باشا الأطرش الأولى، بسبب قضية أدهم خنجر، والثورة السورية الكبرى التي انتظم في صفوفها مجموع السوريين، وقياداتهم الميدانية والسياسية، ولم تسقط هذه الثورة التي وصلت نيرانها إلى جنوب لبنان وقضاء حاصبيا ومناطق راشيا، إلا بعد تخلي الحليف الإقليمي عن دعمها، تماما كما حدث بعدما تخلى كمال أتاتورك عن دعم الثوار في الشمال السوري.
حلم الوحدة والاستقلال، صانه السوريون وشرائح واسعة من اللبنانيين، إلى ان أسقط بيدهم، بعد قمع متمادٍ، وإذلال يومي وتدمير لمؤسسات، بما فيها مجلس الشعب وأحياء مدنية كثيرة، فاضطرت النخبة المتعبة إلى التسليم بشعار آخر: الاستقلال، ثم الوحدة.
بالقوة العسكرية احتلت بريطانيا العراق، وأقامت فيه حكماً ملكياً هامشياً، محكوماً بالمندوبين البريطانيين. أحكمت بريطانيا قبضتها على مفاصل الحياة الثقافية والسياسية والمالية و... النفطية. لعبت، كما فرنسا، لعبة توظيف الأقليات في مشروع تفتيت المجتمع، كي يصير عاطلاً من المطالبة بالحرية والحياة الكريمة، منطلقاً إلى محاصصة أو أمان أو منفعة.
بالقوة العسكرية، احتلت فرنسا سوريا، واحتلت لبنان، ولو كانت مقاومة اللبنانيين لينة، شهدت صيدا وطرابلس أشرسها وأعنفها إلى جانب بلاد جبل عامل. ثم ارتاحت إلى أعيان بيروت وجبل لبنان من المسيحيين، وأغرت، بعد إجحاف، أعياناً من المسلمين ليكونوا شركاء في الكيان...
كيانات المشرق كلها، وليدة الحرب العالمية الأولى. ومنذ ولادتها، تأسست حالة العنف فيها وفي ما بينها. الكيان الإسرائيلي لم يكتب له أن ينشأ ويكون، لولا الوعد البريطاني والدعم العسكري والتخلي عن العرب. وبعد ذلك، شهدت المنطقة حروبا متصلة، كانت أولاها باسم النكبة في العام 1948، وآخرها، الحرب على غزة، وما بينهما حروب كبرى، منها حرب حزيران وحرب تشرين واجتياح لبنان واحتلال الجولان وسيناء والقدس والضفة، إلى جانب حروبها المتكررة على لبنان. في فلسطين زرعت شرارة حرب تتعثر كل عام، فتندلع إما مقاومة، أو تؤكد احتلالاً، أو توسع استيطاناً. ولا تزال فلسطين، جريمة بريطانيا العظمى، ولاّدة حروب. وهذا ما دعا وزير الخارجية البريطانية الأسبق إلى تذكير بلاده بأنها مسؤولة عما ارتكبته بعيد الحرب العالمية الأولى، تقسيماً واجتراحاً لكيانات، ولاّدة لحروب وعنف وفتن. ما تشهده المنطقة في المشرق العربي راهنا، هو وليد تلك الجريمة التي ارتكبتها بريطانيا وفرنسا، بحق شعوب هذه المنطقة، منذ مئة عام. زرعت بذرة الحرب في فلسطين ونمت وكبرت حتى تحوّلت إلى عقيدة. زرعت الكيانات التي سلّمت إلى أعيان وعائلات كان لها السبق في المشاركة بالسلطة في زمن العثمانيين. سلمت لإقطاع وطوائف ومذاهب ومشيخات وعشائر. مثل تلك الأوطان، مشاريع حروب داخلية، مكتومة أو معلنة... العسكر الذي جاء رداً على التجزئة وعلى الهزيمة في فلسطين ارتكب الأسوأ: ألغى الحرية والديموقراطية التي كان يرعاها إقطاع مستفيد وأعيان نافذون يؤدون خدمات للاستعمار ويؤمنون مصالح لأتباع، ومنصرفون عن القضية القومية. هذا العسكر حطّم روح الوطن وعصب القومية، وأقام عوضاً عنه، عصبية الأتباع وواجب الطاعة ووظيفة الاستسلام، ما أهّل المجتمع إلى ان يعيش الكبت الذي تفجر في لحظة «الربيع العربي»، وتحوّل إلى وحش مذهبي، يغير خريطة المنطقة والأنظمة الموروثة من «سايكس ـ بيكو».
هذه الحروب راهنا، هي حروبنا. جذرها منا ومنهم. امتداداتها أخطبوطية، تحاول أن تلغي حدوداً وتنشئ أوضاعاً، أبشع ما فيها إقامة خلافة إسلامية، لا حظ لها إنسانياً وقيمياً وأخلاقياً وسياسياً، أو إيجاد صيغ أقل بشاعة، وهي إقامة كيانات على قياس الجماعات الإثنية والمذهبية والعشائرية.
في الحرب العالمية الأولى، كان الحلم: وحدة عربية واستقلال وسيادة. لقد اغتال الغرب هذا الحلم وأنشأ الكابوس الإسرائيلي في الحروب الراهنة. يبدو أن الأحلام كوابيس، أفضلها أن تأخذ كل جماعة حصتها. ووداعاً للحرية والوحدة والاستقلال.
في خلاصة لهذه السيرة الدامية، تبرز حقائق من الضرورة التذكير بها: «كانت إقامة الانتداب الفرنسي في سوريا مشروطة بإضعاف القومية العربية (والوحدة).. ولبلوغ ذلك اعتمدت فرنسا على استراتيجيات محدّدة»، استغلال خلافات الأقليات عبر إقامة مناطق حكم ذاتي في سوريا، وتحريض الريف ضد المراكز القومية، واستخدام العناصر الطيِّعة من النخبة السياسية السورية التقليدية للمساعدة في الحكم (سوريا والانتداب الفرنسي، فيليب خوري).
عزل سوريا، يعني إفقادها التأثير على العواصم العربية القريبة والبعيدة. وضرب سوريا وإسقاطها، كما حدث بعد ميسلون، يؤدي بسهولة إلى نشوء كيانات. لبنان ولد تحديداً بعد معركة ميسلون وسقوط دمشق بأيام.
في خلاصة أخرى، لبنان شديد الاتصال بسوريا. إذا نجت دمشق من حربها، وليس مقصوداً إذا نجا النظام، ينجو لبنان. وإذا سقطت دمشق، فما حال لبنان؟ قد يفقد ما تبقى له من وحدة وما يسمى «كياناً».
الحرب الكونية أنشأت هذا المشرق وهذه الكيانات. الحرب الإسلامية والإسلامية ـ الدولية ـ الإقليمية العظمى في المنطقة، قد تطيح كيانات وتغير خرائط وتفبرك شعوباً...
لا صورة واضحة بعد، غير صورة الكارثة.

nsayegh@assafir.co
عن صحيفة "السفير" اللبنانية