2024-11-29 08:42 م

مجزرة الأحساء: التكفير المحميّ يكمل دورته

2014-11-09
علي عبادي

أصاب الاعتداء على حسينية بلدة الدالوة في محافظة الأحساء شرقي السعودية أمن هذا البلد في الصميم. وقع المحظور، وما كان يقال في المجالس او تخطـّه الأيدي على مواقع التواصل الاجتماعي أصبح حقيقة واقعة، للأسف.

مشهد الضحايا الشهداء في الدالوة يشبه كثيراً مشهد أولئك الذين يسقطون يومياً في باكستان نتيجة التعصب المذهبي الموجَّه على باب مسجد او حسينية او سوق او حي مأهول. دارت دورة الارهاب التكفيري عبر بلدان عديدة، وهي تحطّ في السعودية مستفيدة من تحريض أهوج يدعو أربابُه لشنّ حرب إبادة بحق المسلمين الشيعة لأنهم لا يرون فيهم الا طائفة "خارجة عن الإسلام" ويقررون تجريدها من كافة حقوق الآدميين.

كمّ الكراهية الذي تبثه قنوات محمية من الملاحقة وممولة جيداً داخل المملكة يكفي لتمهيد الأرضية لحرب أهلية مدمِّرة، ونتائج هذا التحريض الطائفي المتواصل كان لا بد ان تُظهَّر بطريقة عنيفة ودامية.

أهي البداية؟ يُخشى أن يكون الأمر كذلك. ربما تفسر تلك الخشية التحركَ السريع لأجهزة الامن السعودية للقبض على أفراد في الشبكة التي تورطت في سفك دماء المشاركين في مراسم عاشوراء الأحساء. لكن السلطات لم تفعل الكثير لمواجهة المدّ التكفيري العنفي، باستثناء الملاحقة الأمنية واصدار بيانات التنديد من المسؤولين و"هيئة كبار العلماء". هي تلاحق النتائج وليس الأسباب المتراكمة، وتطارد المجرم الصغير الذي يضرب بالرصاص، لكنها تتحاشى المسّ بالمجرم الكبير الذي يقف خلف المشهد الدامي ويحثّ على العنف بذرائع شتى.

أزمة التيار التكفيري

مكمن الداء هو في المنهج التكفيري الذي يتربع بين دفات الكتب الدراسية ومنابر المساجد ومواقع الإنترنت لا يفتأ يتسلح بحجج شوهاء ويجزئ الحقائق ويعيد تجميعها بطريقة عجيبة ليقنع مستمعيه مثلاً بأن الشيعة هم أصل البلاء وان التخلص منهم بأية كيفية هو مفتاح حل أزمات الأمة، او بالأحرى أزمة هذا التيار المتعجرف.

يريد هذا التيار ان يلغي الفاصل الشفاف بين التكفير اللفظي الذي تتبعه المدرسة الوهابية الرسمية والترجمة الفعلية لهذا الخطاب والتي يتولاها ابناؤها المتمردون على ما يرونها مهادنة غير ضرورية. لهذا نجد في قلب التيار الديني المحميّ دعوات للإنقضاض على المسلمين الشيعة في المملكة، وفي أحسن الاحوال دعوتهم "لاعتناق الإسلام"، وهي وصفة تكفير تستبيح كراماتهم.

وليس أسهل من تحويل الكلمة الى رصاص يفجّر الواقع الاجتماعي والسياسي، ويحمل بذور تفتيت تلتقي مع دعوات اميركية الى إعادة تقسيم المنطقة وفق اعتبارات ديمغرافية وثقافية والخروج من عباءة خطوط سايكس - بيكو.

قد لا يدرك هؤلاء التكفيريون هذا الاتجاه الأميركي وقد يدركون ولا يهتمون بالعواقب، المهمّ عندهم نفخ روح الانتقام وإشباع النزعة للتشفي ممن يخالفهم أياً كان.

الانتقال من طور التكفير الى طور التقتيل يعكس تفاقماً في أزمة التيار التكفيري الذي لا يجد قضية غير خلق العداوات مع محيطه القريب قبل البعيد. بالأمس كان هؤلاء أنفسهم يهاجمون مخالفيهم من المسلمين السنة ويقدحون في إسلامهم بدعوى انهم علمانيون او ليبراليون او خارجون عن "طاعة ولي الأمر" وغيرها من التهم التي تسهّل استباحة ذمة هؤلاء. اليوم أصبح المسلمون الشيعة شغلهم الشاغل الى درجة التهديد بتجييش الجيوش ضد أهالي القطيف والأحساء، وفق ما ورد على لسان أحد ضيوف قناة "وصال".

يتذرع التكفيريون بأحداث الساعة في سوريا والعراق وأي بلد آخر للحديث عن "مؤامرة شيعية تستهدف السنة"، وهم يتغذون من إحباطٍ ازاء السياسات الحكومية التي لم تنجح في تحقيق إنجازات سياسية او تنموية كبرى في العقود الماضية، ولا يمتلكون خطة للتعامل مع الآخر غير الابتلاع او الإبادة، ما يولّد نفوراً من خطابهم حتى بين المسلمين السنة. وفي الداخل السعودي، لا يتورعون عن الطعن الدائم في إسلام الشيعة السعوديين (الذين لا تقل نسبتهم عن 10 بالمئة من مجموع السكان وقد تصل الى 20 بالمئة يتركزون في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط)، بل والطعن في وطنيتهم كلما بادروا الى طلب إنصافهم وتحقيق حد أدنى من الحقوق والإعتراف بهم، مما يدفع ببعض الشيعة الى اليأس مما في يد السلطة والتفكير في بدائل قد تكون متشددة.

حماية ورعاية

والمشكلة ان هؤلاء التكفيريين ينهلون من حماية "ولي الأمر"، بمعنى انهم لم يخرجوا بعد من عباءة السلطة، لكنهم يرسلون اشارات خفية عن تحفز لسلوك هذا الاتجاه إن ظهر من السلطة أي تقصير في التشدد المذهبي. ولعل انضواءهم تحت جناحها حتى الآن هو ما يكفّ يد السلطة عنهم، فتفضّل تجنب او تأجيل المواجهة معهم، للزوم الحاجة اليهم في مواجهة "القاعدة" و"داعش" و"الاخوان" ومن يلتف حولهم. لكنها أيضاً كانت على الدوام ترى فيهم ركناً يُستند اليه في بناء السلطة والدولة، فأطلقت يدهم ووفرت الدعم لهم في كل ناح.

لم تبذل السلطة السعودية ما يكفي من جهد لنزع فتيل التفجير، وهي على الدوام عالجت الداء بالتعايش معه. حتى عندما طرح المسؤولون الأميركيون في أيام بوش الابن على نظرائهم السعوديين مشكلة المناهج التعليمية الحادّة الاتجاه التي تخرّج شباناً يحملون الرصاص والقنابل في رؤوسهم قبل ان يصير في أيديهم، بقيت المعالجات في اطار ضيق بسبب قوة شوكة التيار التكفيري وامتداد أذرعه الى نواح شتى في التعليم والقضاء وعالم المال والأعمال، وهو يجد حلفاء له داخل العائلة الحاكمة ممن يسعون لترسيخ نفوذهم.

لهذا، كان من السهل التضحية بوزير الإعلام والثقافة عبد العزيز خوجة بُعيد اتخاذه قراراً بإغلاق قناة "وصال" التي تبث من الرياض خطاب كراهية عنيفاً ضد الآخر، ربما لأن السلطة السعودية تجد ان خوجة فتح "وكر دبابير" واستعجل معركة مع تيار لا يزال يشكل دعامة للسلطة منذ الأيام الأولى لتأسيس الدولة السعودية. وهذه الإزدواجية في بنية السلطة منعت إحداث دفع في مشاريع الإصلاح التي طرحت في حقبات متفاوتة.

وبعد، ثمة تساؤل: هل استطاعت السلطات السعودية احتواء تداعيات الاعتداء على مجلس عاشورائي في الأحساء؟
برغم كل الخطوات الأمنية التي اتخذت لملاحقة الضالعين في الهجوم ومسارعة كبار المسؤولين للتنديد به، فان الاعتداء ليس سوى انذار مبكر يستوجب معالجات عميقة، واذا لم تبادر السلطة الى اتخاذها فإنه لا شيء يضمن عدم تكراره، لا سيما ان التهميش والتمييز وغياب روح المواطنة أدت الى تفشي الخطاب الطائفي بصورة خرجت عن حدود التبشير الى حد التعبئة ضد مواطنين من أبناء البلد نفسه. وأقتطعُ هنا بعضاً مما يقوله بعض أهل البيت السعودي:

"الإرهابيون لا يولدون إرهابيين، إنهم ضحايا مدارس التطرف بمعناها الواسع، أي الثقافة المحلية، والعجز عن المواجهة، وخلل في الأنظمة، وضعف في القضاء...، تزايدَ الفكر المتطرف، لأن الحبل تُرك على الغارب، فكبرت دائرة المؤمنين به، حتى صار يخيل أننا نعيش وسط تنظيم داعش وقد عشش في كل مكان، واستلب فكر أقلية كبيرة، وأصاب الخوف الأغلبية، وصارت تخشى مواجهته... . مسؤولية مواجهة التطرف يجب ألا تـُترك للمترددين، والخائفين، والمشككين، لأن هؤلاء فشلوا في سنوات الامتحان. لم يفعلوا شيئا تستحق بموجبه علامة النجاح طوال عقد منذ إعلان الحرب على التطرف. فالأموال لا تزال تُجمع، والمنشورات توزع، والفكر المتشدد يخيم على الوسائل الإعلامية المختلفة، والمدارس والجامعات فيها من المتطرفين من العدد والصراحة، أساتذة وتلاميذ، ما لا يدع مجالا للشك حول خطر مسار الأجيال المقبلة! ".( أنظر مقالة عبدالرحمن الراشد في "الشرق الأوسط" السعودية: مواجهة التطرف لا تُترك للمترددين، الأربعاء 6 نوفمبر 2014).

مجزرة الأحساء ليست حادثة عرضية، إنها ترجمة فجة لنهج يتعاظم خطره على السعودية من داخلها، ويحتاج الى اعتراف بالمشكلة التي طالما جرى تصديرها الى خارج المملكة، والآن أصبحت في ربوعها !

للتواصل مع الكاتب: aliabadi2468@yahoo.com
المصدر: قناة "المنـار" اللبنانية