2024-11-25 06:44 م

تجربة الهند وأمريكا في إدارة علاقات باردة

2014-10-23
بقلم: جميل مطر
كشف مؤرخ هندي عن أن حكومة الهند فكرت في عام 2003 المشاركة في الحلف الذى شكلته الولايات المتحدة لشن حرب ضد العراق . قال إن الفكرة طرحت على الولايات المتحدة التي رحبت بها واعتبرتها خطوة استثنائية تدعم الحلف والحرب معاً . . ولكن لم تمض أيام إلا وسحبت الهند فكرتها من على بساط المفاوضات، وكانت حجتها أن الرأي الأغلب بين نخبة السياسة الخارجية الهندية رفض الفكرة واعتبارها خروجاً لا يمكن تبريره عن التزام الهند احترام الأمم المتحدة والعمل الجماعي الدولي، واعتناقها مبدأ عدم الانحياز .
جاءت هذه الشهادة من جانب المؤرخ الهندي رودرا شودري لتؤكد حقيقة كدنا في مصر والعالم العربي ننساها، وهي أن للسياسة الخارجية مبادئ، بعضها قابل للتطوير، وبعضها عنيد وصامد في مقاومة تقلبات الأنظمة الحاكمة وصراعات الأجهزة وجشع جماعات الضغط وصعود الدول وانحدارها .
كنا، خلال أيام قليلة مرت الشهر الماضي، شهوداً على تطور مهم في العلاقة بين الولايات المتحدة والهند، وهو الزيارة التي قام بها ناريندرا مودي الرئيس الهندي الجديد إلى الولايات المتحدة . التقى رئيسان، أحدهما قادم للتو من غياهب التطرف الديني والعنف السياسي، متمتعاً بشعبية غامرة ومتصاعدة، ومطمئناً إلى سنوات عديدة في الحكم استناداً إلى أغلبية برلمانية كبيرة، وممثلاً لدولة أجمعت قطاعاتها وتياراتها على حق الهند في أن تصعد إلى مصاف الدول العظمى .
الثاني رئيس يستعد للرحيل، خارجاً لتوه من فترة تكومت خلالها قرارات سياسية متعثرة الولادة وضعيفة البنية . يقود نظام حكم يسعى بصعوبة شديدة لإقناع بعض قطاعات وتيارات بلاده أن أمريكا على طريق الانحدار، ولكن تستحق أن تمارس دور الدولة القائد طالما لم يظهر لتولي القيادة أو حتى المشاركة فيها، دولة أخرى تستحق هذا الدور ومستعدة لتحمل مسؤوليته . قليلون بين محللي السياسة الخارجية استطاعوا سبر أغوار هذه التجربة النادرة وتحليل سلوكيات القائمين عليها، تجربة دولة عظمى اكتشفت عناصر في نخبتها الحاكمة حقيقة أنها دخلت طريق الانحدار . 
الاثنان، الزعيم القادم من التطرف والزعيم الجاهز للرحيل يعرفان حق المعرفة أن سمة الديمقراطية والانتخابات الحرة التي تتميز بهما الدولتان، لم تمنع نشوب خلافات عديدة بينهما على امتداد أكثر من ثلاثة أرباع القرن . وقد بدا واضحاً خلال هذه الزيارة أنه ليس في نية الطرفين التمرد على هذا الوضع، بقدر اتفاقهما على تطويره من دون تغيير معالمه الرئيسية ومنها برودة العلاقة . يعني هذا مثلاً أن تتنازل أمريكا عن موقفها المعادي لشخص رئيس الجمهورية الهندية، وهو الممنوع منذ سنوات من دخول أمريكا بسبب تستره على مجزرة في ولاية جوجارات التي كان يتولى الحكم فيها، يعني أيضاً أن حكومة الرئيس مودي لن تتخلى في وقت قريب عن سياستها "السلبية" دوماً تجاه الشرق الأوسط، أي لن تخضع لضغوط أمريكية تطالبها بالتدخل وسيطاً أو حليفاً أو مشاركاً في أزمات المنطقة .
كانت الهند، ومازالت في ظل حكومة التشدد الهندوسي، حريصة على أن تكون علاقاتها هادئة مع مصادر النفط والغاز على ناصيتي الخليج، أي ايران والدول العربية الخليجية . هي حريصة أيضاً على عدم الدخول في مواجهات "دينية" مع المسلمين خارج شبه جزيرة الهند، فمصالحها في أفغانستان تجعلها حساسة تجاه أي دور سياسي تقوم به في المستقبل يحرمها من فرصة إعادة فرض هيمنتها على أفغانستان، وهي الهيمنة الموروثة عن حكومة التاج البريطاني في القرن التاسع عشر .
يعرف المتابع لشؤون الهند، أن الحزب الذى حمل مودي إلى الرئاسة يعج بتيارات عنصرية ومتشددة، ولكن أيضاً بتيارات "واقعية" تريد إقناع الدول الأجنبية بأن "هندوسية" الحزب معتدلة، وأنه يمكن لواشنطن الاعتماد عليهم إن أرادت أن يتحقق في شبه جزيرة الهند استقرار سياسي ونهضة اقتصادية . لم يكن مفاجئاً أن ترتفع قبل الزيارة أصوات في أمريكا تحذر من نوايا الرئيس الجديد الذي مازال يعتمد على العناصر الدينية الأشد تطرفاً، وهي العناصر التي ترفع شعار "الهند الكبرى"، أي الهند التي تضم نيبال وسيريلانكا وبنغلاديش وباكستان وربما أفغانستان أيضاً إن سمحت الظروف مستقبلاً في روسيا والصين . هؤلاء ينادون بأن الهندوسية دين وثقافة وتاريخ ويتعين على العالم الخارجي الاعتراف بها . سمعتهم وهم يلقنون الشباب الهندي في الداخل والخارج شعار "الماضي الزاهر طريق المستقبل الزاهر" . شعار لا يبتعد كثيراً عن شعارات مماثلة في الشرق الأوسط أهلكت الحاضر والماضي معاً، وتكاد تئد المستقبل وهو في المهد رضيع وضعيف .
كان الرئيس مودي خلال الزيارة واضحاً في عرض سياسات بلاده في ظل رئاسة الهندوسية . أكد أنه لن يشارك في أي جهد دولي لعزل إيران، ولن يغامر بسياسة نشطة أو ايجابية في الشرق الأوسط حيث ملايين الهنود يعملون أو يعيشون، وحيث الأعصاب مشدودة وبخاصة بكل ما يتعلق بالأديان . نقل أيضاً إلى واشنطن رغبة الهند المتواصلة منح أمريكا تأشيرات دخول لشباب من الهنود يريد أن يتعلم أو يحصل على مهارات معينة، فالتجربة الهندية في هذا المجال كانت ممتازة سواء عندما عاد المبعوثون إلى الهند أو استوطنوا في الخارج . راح أيضاً يطالب بتعاون سلمي نووي . فهو يعرف، مثلما عرف الإيرانيون،أن التقدم العلمي لن يتحقق بالسرعة الواجبة إلا عن طريق خبرات وتجارب في حقل العلاقات النووية . وفي النهاية لم يختلف الرئيس الهندي عن أي رئيس من دول الجنوب يزور أمريكا حين أصر على أهمية بيع السلاح المتقدم إلى الهند .
أتصور أن النجاح الذي حققه منظمو احتفال الجالية الهندية في أمريكا بالرئيس مودي في ميدان ماديسون بنيويورك، يعني أموراً كثيرة ليس أقلها شأناً، تأكيد ما تردد من قبل عن أن الهنود لجأوا إلى الخبرة "الإسرائيلية" في تشكيل جماعات ضغط موالية ل"إسرائيل"، تعتمد أساساً على الجالية اليهودية ولكن أيضاً على الشركات الكبرى والأفراد من أصحاب المصالح في الشرق الأوسط ومتخصصين أكاديميين وعسكريين متقاعدين . 
نجاح الاحتفال تنظيماً وحضوراً يعني أيضاً أن روحاً جديدة تهيمن الآن على أبناء الجالية الهندية في الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً، وبما يعني أن حكومة مودي استطاعت أن تكسب ثقة الهنود في الخارج وتفلح في استعادة "كرامة" الإنسان الهندي في الداخل، وبالتالي كرامة الهندي في الخارج، وأنها سوف تنقل الهند اقتصادياً وثقافياً من حال فساد طاحن وفوضى اخلاقية وانهيار في القيم إلى حال مختلف .
قد لا يكون ناريندرا مودي الزعيم الذي يتمناه "الثوريون العرب" رئيساً للهند في الظرف الانتقالي الراهن في الشرق الأوسط بسبب تطرفه الديني، ولكن المؤكد أنه نجح فى عرض نفسه نموذجاً لحاكم دولة كبيرة من دول الجنوب الناهض يرتدي قميصاً بسيطاً من القطن، ولا يأكل إلا فيما ندر، وغير فاسد . حاكم قرر أن يعتنق مبادئ في السياسة الخارجية كانت من الأسس التي رفعت الهند وغيرها ذات يوم إلى مواقع التأثير والنفوذ في عالم السياسات الدولية . أتصور أن الفضل هنا، أي في قرار مودي التمسك بمبادئ موروثة في صنع السياسة الخارجية، يعود إلى صلابة وحكمة النخبة الإدارية الهندية التي ما زالت تؤكد بين الحين والآخر قدرتها على أن تفرض بعض تقاليدها وخبرتها على حكام الهند أياً كانت خلفياتهم .
عن صحيفة "الخليج" الاماراتية