2024-11-25 11:20 م

تفسيران عربيان للسياسة!!

2014-10-23
بقلم: محمد سيد رصاص
في أثناء مؤتمر يالطا في شباط 1945، عمد تشرشل الى إخبار ستالين عن إعلان دولة الفاتيكان الحرب على ألمانيا الهتلرية. رد ستالين ساخراً: «كم دبابة عند بابا الفاتيكان؟». في عامي 1980 و1981 كان بابا الفاتيكان، وهو يومها من أصل بولندي، قوة دافعة كبرى وراء «نقابة التضامن» في بولندا والتي ضمت ملايين من العمال والمزارعين المعارضين للحكم الشيوعي، وقد كان التحرك البولندي إنذاراً بقرب انهيار الكرملين السوفياتي بعد عشر سنوات.

لا ينتقص ما حصل من بابا الفاتيكان البولوني من قوة ملاحظة ستالين، فالأفكار والجماعات والعناوين السياسية تقاس بالقوة المادية التي تقف وراءها، ومنها الأسلحة، ولكن عندما تتحول الأفكار إلى قوة سياسية في الشارع عبر الحامل الاجتماعي، فإن هذا يعني توازناً جديداً للقوى تضع فيها الفكرة المعنية ذاتها في مواجهة فكرة أخرى تقاس أيضاً في مواجهة الأولى، ليس عبر «الحق» و«المنطق»، بل من خلال الأذرع المادية التي تحملها، وكما حصل في بولندا، ثم في بلدان «حلف وارسو» ثم في موسكو، قادت قوة الشارع المضاد للسلطات الحاكمة إلى هزيمة الأخيرة المدججة بالسلاح.
لم يكن تشرشل، اليميني وزعيم حزب المحافظين البريطاني، معترضاً من الناحية الفكرية والنظرية على ملاحظة الشيوعي الماركسي ستالين، بل كان يؤمن مثله بالقوة المادية في العملية السياسية، وعملياً منذ مكيافللي ثم توماس هوبز، الذي قال إنّ «الانسان ذئب» يجب أن يأتي القانون المحمي بالقوة «لكي يمنع أن يأكل الجميع الجميع»، ثم ماركس وبعده البراغماتية - فقد كان هناك في الغرب، الأوروبي والأميركي، تلاقيات بين اليمين واليسار، بكل الاتجاهات السياسية من محافظة وليبرالية وشيوعية واشتراكية ديموقراطية، على أن السياسة تقاس بميزان القوة وبالمصلحة ومن خلال الحامل الاجتماعي، وأن الأفكار السياسية لا تقاس بذاتها بل بحاملها الاجتماعي ومدى قوته، وأيضاً تقاس بنتائجها وليس بمحتواها.
عند العرب لا يوجد شيء من هذا بعد، رغم أن قيام دولة إسرائيل واغتصاب فلسطين من قبل مجموعة من المهاجرين اليهود، بمساعدة من بريطانيا المستعمرة، دليل على أن الحقوق لا تساوي فلساً واحداً في العملية السياسية، ودليل على أن اللغة الوحيدة في السياسة هي لغة القوة.
وعندما قال أفيغدور ليبرمان، وهو مهاجر من مولدافيا أتى في الثمانينيات، في الكنيست للنائب العربي أحمد الطيبي، وهو من عائلة متجذرة في فلسطين لأكثر من ألف عام: «اخرج من أرضي»، لم يقل أحد، لا في الغرب ولا في الشرق وطبعاً في المجتمع الإسرائيلي، إن عبارة ليبرمان خروج عن «الحق». لدى العرب، ورغم مرور ستة وستين عاماً على اغتصاب فلسطين، لا تزال مسطرة «الحق والباطل» هي السائدة في العمل السياسي، رغم أن استعمال هذا «السلاح» لم ينتج شيئاً للعرب منذ عام 1947 عندما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين، كما أنّ استعماله، هو و«سلاح الشرعية الدولية»، لم يؤدّ إلى أكثر من حصيلة صفرية لما وضع هذا «السلاح» كأداة لـ«فضح» انتهاكات إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي ولدت من رحم تلك المنظمة الدولية.
مع كل قوة ذلك المثال الفلسطيني المعاكسة، لا يزال العرب إلى الآن من أكثر الأمم والدول والشعوب والأفراد تمسكاً بـ«الحق» منظاراً إلى السياسة. هذا يوجد عند وزراء الخارجية العرب، وعند المندوبين للأمم المتحدة ومختلف المنظمات الدولية، وعند الكتاب السياسيين، وعند ممارسي السياسة خارج السلطة الحاكمة:عند هؤلاء جميعاً هناك نظرة للسياسة وكأنها صراع بين «الحق ــ الخير» وبين «الباطل ــ الشر)، شبيه بنظريات «الدراما» أو بالأفلام الهندية، ولا يوجد مثل العرب الآن من حيث المكانة التي يحتلها أساتذة الحقوق من حيث التعليقات السياسية في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، فيما هم في الغرب يقتصرون على الفتاوى القانونية والدستورية التي تثيرها وتولدها العملية السياسية، وهذا كله لا يصل إلى الصحف والفضائيات بل يقتصر على الغرف المغلقة في الأكاديميات والمؤسسات الرسمية.
هناك تفسير عربي آخر للسياسة، إلى جانب «التفسير الحقوقي»، هو «التفسير الثقافي»: هذا التفسير يعتبر السياسة صراعاً بين أفكار ثقافية يأخذها الساسة إلى الميدان العملي الممارس. وبالتالي فالسياسة هي صراع بين مجردات وأقانيم ثقافية تنتقل من شكلها التجريدي إلى شكل برنامج سياسي وعبر الأخير إلى الممارسة عبر المقتنعين بذلك البرنامج ضد حاملي برنامج سياسي آخر. لا يفسر أصحاب هذا التفسير الأحزاب والاتجاهات السياسية عبر هذا فقط، بل هم يقومون بتفسير التحولات السياسية عند الأفراد والكتل الاجتماعية من خلال تراثها الثقافي التاريخي، وخاصة الديني أوالطائفي الفئوي، وليس من خلال تفسير هذه التحولات بالتطورات الاقتصادية الاجتماعية التي تنتج تحولات فكرية - ثقافية - سياسية. وبالتالي فإن الكل هم في علبتهم المغلقة، المعطاة تاريخياً، وإن خرج بعضهم إلى أيديولوجية حديثة تتجاوز موروثه الثقافي، فإنه سيعود لاحقاً ويرتد إلى معقله السابق أو أنّه سيلون هذه الأيديولوجية الحديثة بلون موروثه الثقافي الخاص. الغريب أن الكثير من الماركسيين العرب ينظرون إلى ظاهرة «الإسلام السياسي» عبر منظار «الثقافة الإسلامية» لتفسير قوة حركية الإسلاميين في فترة 1975 - 2013 وليس من خلال التفسير الماركسي الذي ينظر إلى الطابق الفكري - الثقافي - السياسي من خلال حركية البنية الاقتصادية الاجتماعية. وأيضاً، من جهة ثانية تضاف إلى العامل السابق، ليس من التفسير الماركسي الذي يحدد العلاقة في السلب أو الإيجاب مع السلطة الحاكمة بالنسبة إلى طبقة أو إثنية أو منطقة أو طائفة أو دين من حيث أنه يمكن أن يدفعها تعامل السلطة الحاكمة سياسياً أو اقتصادياً واجتماعياً في السلب أو الإيجاب، في المنافع أو المضار للمصالح، نحو العودة إلى موروثها الثقافي لاجتراح اتجاهها السياسي للتمسك أو للدفاع عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية. من دون هذا، لا يمكن تفسير كيف أن الحزب الشيوعي العراقي كان أقوى من حزب الدعوة في الوسط الشيعي في فترة 1959 ــ 1970، ثم انقلبت الآية في أعوام 1975 ــ 2003.
هذه التفسيرات العربية السائدة للسياسة لم تعد موجودة عند الأمم الأخرى، أو هي معزولة ولا قيمة لها في المجتمعات الأخرى: ما دلالة هذا عربياً؟
عن صحيفة "الاخبار" اللبنانية